الطهارة والاحتيال ومسحوق الغسيل
ـ 1 ـ كان هنري ميلر، وقد تجاوز الحدود الفاصلة بين العفة والاحتشام، يصف الكتابة بأنها «عملية اغتصاب» وقد بقيت كتبه، حتى فترة وجيزة ترص على الرفوف الخلفية من المكتبات على أساس أنها «تخدش الحياء» إلى أن أسقط عنها «التحريم» وأصبحت كتباً تباع على الأرصفة، كتب في نهاية روايته «سيكسوس»: تتمايس الألفاظ كالفتيات الطاهرات الخجلات في الحدائق والشوارع بانتظار كاتب مبدع يعرف كيف يغتصبهن. ولكن المأساة، كما همس بها كاتب عربي لا يخلو من خفة دم: إن الكتّاب في وطننا العربي هم الذين يتمايسون في انتظار أن تغتصبهم السلطة، وإلا فكيف نجحت حكومة موالية للاحتلال أن تقتنص كتّاباً يمجدون بناء الجدار العازل في وسط بغداد، وتسويقه على أنه «أهون الشرين» لتحقيق الاستقرار.
ـ 2 ـ
مشهدان سورياليان ينغرسان في شعوري، وأنا أتشاغل عن نفسي وعن الآخرين متجنباً متابعة الأحداث الفاجرة التي تتلاحق في عالمنا العربي: مشهد الرجل الذي يتحدث عنه ميشيل فوكو وهو يمشي على طريق طويل دون أن يتوقف، ولكن الطريق يختفي من تحته بعد قليل، فإذا به يمشي في الفراغ، وتحته هوة سحيقة، فلا يكترث بل لعله يتلهف لو سقط فيها، ومشهد الرجل الذي تحدث عنه كافكا، وهو يخطب بعصبية، وراء منبر مرتفع في قاعة ضخمة مترامية الأطراف، ولكنها فارغة، وكلما أرعد وأزبد، زاد اتساع القاعة، أفقياً وشاقولياً إلى أن يتداعى المنبر، ويسقط الرجل في حفرة سحيقة.
ـ 3 ـ
الكتاب الجديد الذي هبط بالمظلات على مكتبات باريس هذا الأسبوع بهدف دعم مرشح اليمين ومعشوق الرئيس بوش وإسرائيل، نيكولا ساركوزي، هو بعنوان «الأقوياء والضعفاء» من تأليف فيلسوف الصقور روبرت كاغان. كان فوكوياما قد خرج علينا، بعد تقوض النظام الاشتراكي، وسقوط جدار برلين، بنظرية «نهاية التاريخ» ثم أتحفنا صموئيل هنتغتون بنظرية «صراع الحضارات» وها هو روبرت كاغان يقصفنا بنظرية «القوة والضعف» في كتيب صغير نشرته باللغة الفرنسية دار نشر ملوثة، بعد أن مهدت له بدعاية لا تليق إلا بالسلع الاستهلاكية الرائجة، كتايد مسحوق الغسيل العجيب.
ما يقوله كاغان في كتيبه الصغير يمكن تلخيصه في ثلاث جمل، دون الاتهام بتقليص محتواه إلى كاريكاتور مضحك: الخلاف بين الولايات المتحدة والعالم ـ وقد تفجر بسبب الحرب على العراق ـ بسيط للغاية: إن الأفكار المطروحة تتناسب دوماً مع حجم من يدافع عنها، وهكذا فإن الولايات المتحدة الواثقة من قوتها وجبروتها لا تخشى من استخدام عضلاتها، غير عابئة بالرأي العام، ولا بالمنظمات الدولية، في حين يتسلح أعداؤها الصغار، المنقسمون، المتناحرون، بالحقوق الإنسانية والشرعية الدولية، ثم إن الولايات المتحدة تتحمل وحدها ما يسمى «عبء الإنسان الأبيض المتحضر»، وفق نظرية هوبس القائلة: «إن الإنسان ذئب على أخيه الإنسان» في حين أن العالم كله يهذي بضرورة السلام واحترام الحقوق.
يطمح روبرت كاغان إلى أن يتسلح الأميركيون بكتابه الصغير المختصر تماماً كما تسلح الصينيون بالكتاب الأحمر لماوتسي تونغ، ويأمل أن يهبط كتابه من رفوف المكتبات ليصبح سلعة متداولة بين الناس وفي قناعته أن الأفكار البسيطة الواردة فيه تصلح لأن تكون «دليل عمل».
يصر كاغان على التأكيد بأن الأميركيين قد انقلبوا إلى ذرائعيين براغماتيين يفاخرون بسطوتهم، بعد أن أصيبوا بخيبة أمل على عكس الأوروبيين الذين كانوا دمويين، ثم أرغمتهم الهزائم والإخفاقات وخيبات الأمل على أن يكونوا مثاليين «يتحدثون عن السلام والشرعية الدولية وحقوق الإنسان» لقد اقتسم الأوروبيون العالم بأسره واستعمروا شعوبه ونهبوا خيراته بالاعتماد على البارود والنار، ولكنهم الآن يفضلون إرسال الوفود إلى الشرق الأوسط، وإلى كوريا وإلى المكسيك، بهدف تحقيق تسوية سلمية، ولكن مساعيهم لا تؤخد مأخذ الجد، والكل ينتظر أن يأتي التحرك من الولايات المتحدة فهي وحدها القادرة على فرض الحلول، إن القوى المساندة للمرشح ساركوزي تستنجد بكتاب كاغان على أمل أن يحقق بعد توليه رئاسة فرنسا نظريته المبدعة.
يتحدث فيلسوف الصقور عن «حق الأقوياء في فرض نظام دولي جديد»، ويسخر من استنجاد الضعفاء بالشرعية والحقوق والقوانين، ولكنه يتجاهل أننا نعيش في «عالم مثلوم» مكسور، مشطور: شمال متخم في مقابل جنوب مملق، 80 بالمئة من الثروات الطبيعية مصادرة ومستهلكة من قبل 2 بالمئة من الآدميين، المتخمين، الأغنياء، في الشمال يعبثون بـ83% من الثروة العالمية، و80% من سكان الأرض لا يتمتعون إلا بـ3 بالمئة من هذه الثروة.
ويفاخر فيلسوف الصقور بتفوق النموذج الأميركي في التنمية الاقتصادية ولكن روجيه غارودي المنبوذ والمطارد حالياً يقول لنا: هذا النموذج الأميركي مجرم قاتل، إنه يكلف العالم هيروشيما جديدة كل يومين على أيدي برابرة مدججين بالآليات الدموية وكأنهم يعيشون في دغل مأهول بالحيوانات الكاسرة، وهؤلاء لا يفكرون بالله ولا بأنبيائه كما يزعمون، على الرغم من تمسكهم ببعض الطقوس الدينية، والصلوات المزيفة، إنهم يدفعون العالم إلى انتحار كوني شامل.
ـ 4 ـ
«المبارزة» التي نظمتها مجلة «لونوفيل أوبزرفاتور» بين سليمان رشدي الذي انتخب رئيساً لبرلمان الكتاب في ستراسبورغ وبرنارد هنري ليفي الكاتب الصاعد دون استحقاق، أثارتني لأكثر من سبب: فهي أولاً توافق على شكل خلاف إذ يحتدم النقار بين الكاتبين ليتوصلا فجأة إلى اتفاق، ما يحرضنا على السخرية منهما، وهي ثانياً إشادة بالاتساخ ورفض الطهارة الفكرية أو السياسية أو الاجتماعية، وهي ثالثاً دعوة فاجرة إلى التزوير والاحتيال، بحجة أنه لا يجوز أن يغيب المثقف عن المعركة حتى ولو كان عليه أن يغطس في صندوق قمامة.
وحينما تسألهما «لونوفيل أوبزرفاتور»: وكيف يكون الاتساخ؟ تأتي الإجابتان مدهشتين حقاً.
يقول سلمان رشدي: «الإعلام هو المغطس المملوء بالمياه العكرة، وحينما أظهر على شاشة التلفزيون فأنا لا أكترث بما أقول، وإنما بما قد يكون مظهري، وهل نجحت في التأثير في الرأي العام أم لا؟
ويقول ليفي: «الإعلام في الأنظمة الديكتاتورية الشمولية يعتمد على القمع والإكراه، في حين يعتمد الإعلام في الأنظمة الليبرالية الديمقراطية علي الاحتيال، علي أن أكون ماكراً، وأن أنتصر على محتالين آخرين وهذا لا يخجلني».
لقد استفدنا من الأنظمة الشمولية، فأشعنا في مجتمعاتنا الاستبداد، وها نحن نستعد للاستفادة من الأنظمة الديمقراطية الليبرالية التي تورد إلينا في صناديق مختومة بالشمع، وتدعو إلى تبني تجربة الاتساخ والاحتيال بحماسة، النظام العالمي الجديد لا يريدنا أن نتخلى عن مكتسبات الشمولية ولكنه يحرضنا على أن نطعم هذه المكتسبات بالاتساخ والاحتيال ليتحقق السلام في المنطقة، أما مثقفونا فما عليهم إلا أن يتأرجحوا بين الطهارة العقائدية والانفتاح الليبرالي، بينما تتهددهم خناجر الرافضين لهم ويرشحون ليكونوا ضحايا البراءة أو الجهل أو الحماقة.
غسان الرفاعي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد