غسان الرفاعي: عودة إلى الحديث عن الفراغ الإيديولوجي
-1-
حينما أصدر الكاتب الأمريكي، ذو الأصل الياباني، (فرانسيس فوكوياما) كتابه الخطير الذي أسماه «نهاية التاريخ، والإنسان الأخير» أراد له أن يكون بياناً مرشحاً لملء «الفراغ الإيديولوجي» في العالم،
بعد أن سحبت الإيديولوجيات المهترئة من التداول، ورسا المزاد العالمي على الليبرالية كنظام بديل وحيد، وقد جاءت لحظة نشر الكتاب مقترنة بحدثين مهمين وهما:
سقوط المعسكر الاشتراكي وتفتته، وضرب القوة الاستراتيجية المالية العربية، كما لو إنه لم يكن من المستطاع تدشين نهاية التاريخ إلا عبر المنعطف المزدوج إن «نهاية التاريخ» هو تقسيم جديد يفصل بين التنمية الغربية الصاعدة آنئذ، والمرشحة لتجاوز التاريخ، وبين العالم الآخر كله المسجون داخل جحيم التاريخ:
ثنائية متغطرسة بين الشعوب الميئوس منها والشعوب المتنعمة بكمال التاريخ وسخائه، على أن المفارقة المخجلة هي أن المدعوين لجنة «نهاية التاريخ» هم «البيض الشقر» الذين يولفون مجتمع «النمور المنتصرة» في حين أن كل الآخرين هم من سكان «الجحيم التاريخي» المحكومين بالقهر والفقر والموت، والمرشحين للطمر في مزبلة التاريخ.
-2-
كان يخيل للجميع أن بداية هذا القرن- وقد دخل عامه السابع- سيحقق التقدم والاستقرار: التقدم، لأن التاريخ بدأ يتجه نحو الطريق القويم، بعد انتصار فكرتي الديمقراطية والعدالة، والاستقرار لأن العالم توصل إلى التوازن الذهبي، بعد أن أنهى الاستقطابات والتوترات، ولكن جميع الدلائل تشير إلى أن هذا القرن يتجه نحو ظلامية جاهلية جديدة، سماها الكاتب الفرنسي (آلان مينك) «بالقرون الوسطى الجديدة»: هناك عودة إلى سيادة القوة السافرة على حساب الشرعية والقانون الدولي، وبروز لجماعات متعطشة للاضطراب و«الفوضى البناءة»، وبنى اجتماعية رجراجة غير مستقرة، وتفش للخلل في كل مكان، وإطلاق العنان للطموحات الفردية والإثنية وللعصبيات الخبيئة والمكبوتة.
وهذه الجاهلية القرن أوسطية الجديدة لم تأخذ أبعادها بسبب تقوض الأنظمة الاشتراكية فحسب، ولا بسبب فشل العالم الثالث في تجاوز تخلفه وتشرذمه، وإنما لأن كل الأنظمة الأخرى قد شاخت وترهلت، ولم تعد قادرة على استيعاب التطورات المتلاحقة.
إن الاضطراب العالمي الذي يطفو على السطح الآن- كما يرى آلان مينك- هو أفدح بكثير من الاضطراب الذي أعقب تداعي الامبراطورية الرومانية، وتفتت الامبراطورية العثمانية، وهزيمة العسكرية الألمانية وزوال الكتلة الاشتراكية، ثم إن هذا الاضطراب ليس متجسداً في انتصار اقتصاد السوق، ولا في يقظة القوميات والإثنيات المسحوقة، ولا حتى في الهيمنة الأمريكية الهمجية، وإنما في انعدام الوزن وغياب العمود الفقري للتماسك الدولي، وبتعثر المراكز الضاغطة وتشرذمها.
إن كتاب (آلان مينك) الجديد «القرن الأوسط الجديد» هو محاولة للخروج من الجحيم الذي وضعنا فيه منظر الليبرالية الأمريكية (فرنسيس فوكوياما)، وإشعار بأن التاريخ لايقترب من نهايته، وإنما يعود القهقرى إلى قرونه الوسطى.
-3-
وتتجلى هذه «العودة المخزية»، في بروز ثقافات زئبقية مؤقتة، ومشوشة، وتكاثر المراكز الرمادية التي لاتخضع لأية سلطة دائمة موثوقة، وفي العودة إلى الفوضى والاضطراب كروتين يومي، والتمسك بالعصبيات الضيقة كمنهج سياسي، ولها سمات واضحة:
اختراق الحدود أولاً: لم تعد الدول، صغيرها وكبيرها، آمنة ضمن حدودها المعترف بها دولياً وشرعياً، من أكثر الدول هشاشة في أوروبا الشرقية والبلقان والشرق الأوسط، إلى الدول الغربية والولايات المتحدة ذاتها، وكل الاحتمالات، من تفتت وتشرذم مفتوحة دوماً وباستمرار، على الرغم من الاتفاقيات والمعاهدات ومظاهر التوحد، «إن كل المعاهدات التي تضمن الحدود ومناطق النفوذ، من معاهدة فرساي إلى اتفاقيات يالطا، إلى معاهدة سايكس بيكو، أصبحت لاغية، وسيف التقسيم مسلط على الرؤوس وقد لا يكون بمقدور أية دولة، مهما كانت قوية ومتماسكة أن تنجو من التفتت والتجزئة».
والبنى المتحركة ثانياً: إذ لا توجد بنية اجتماعية، مهما كانت عريقة وصلبة، بمنجى من التميع والحراك، وكل مايقال عن ثبات هذا المجتمع أو ذاك نوع من التمني الافتراضي، ولا يعكس الواقع المعيش، أليس من المذهل أن يقول (مينك) «كل القادة يفاخرون بانتمائهم إلى قومية محددة قومية محددة متجانسة، وكم من حروب اندلعت بسبب هذا الانتماء القومي، غير أن القرن الوسيط الجديد قد فسخ هذا الانتماء، وأضحى الفرد يفاخر بالانتماء إلى القبيلة والطائفة وحتى العائلة.
الوحدة الجغرافية ثالثاً: كل الثورات التي شهدها التاريخ القديم والحديث تستهدف الإطاحة بالنظام القائم، واستبداله بنظام آخر مع المحافظة على وحدة البعد الجغرافي، غير أن التحركات المعاصرة لا تناصب العداء للنظام الحاكم، وإنما تستهدف الوحدة الجغرافية للبلد، الثوريون الجدد يحملون السلاح لسلخ مناطقهم عن الحكم المركزي، ولم يعد يكفيهم إسقاط النظام ديكتاتورياً كان أم ديمقراطياً.
وسيادة الجماهير الغفل رابعاً: كانت الثورات تعتمد على حزب طليعي منظم، أو أقلية عسكرية متجانسة، ولكن الثورات الحديثة تفجرها الجماهير الغفل غير المنظمة. كانت الأحزاب الثورية انقلابية، وفي معظم الأحيان سرية وبرامجها مطروحة في الأدبيات والمنشورات، وطرق التعبئة التي تعتمد عليها مكشوفة، غير أن الثورات الجديدة تتفجر عفواً، وليس لها برامج محددة، وإنما هي تعبر عن عصبيات وخرافات، ومعتقدات هي أقرب إلى الضمير الجمعي المحمي باللاشعور لا بالإرادة، ولعلها بقايا ترسبات موروثة.
-4-
هناك ثلاثة وجوه «للملتحي الرهيب ماركس» كما يقول مينك: (ماركس) الأول في القرن التاسع عشر، وهو مزيج من (هيغل)، وفلسفة الأنوار، ونظريات الاقتصاد البريطاني. ثم (ماركس) الثاني في القرن العشرين، وهو خالق علم التاريخ، والمادية الديالكتيكية، والتحرر الاشتراكي، ومنظر الثورات العالمية، وهناك (ماركس) الثالث الذي بدأت تتلامح معالمه منذ عام 1989، وهو إنسان آخر يمتاز بالنضج والمسالمة والحكمة الواقعية، هناك ثلاث خطايا حالت دون فهم (ماركس) على النحو الأمثل: لقد جعلنا منه بطل الحتمية التاريخية، وهذا مناف لوجهة نظره، إذ كان يؤكد على أن التاريخ مفتوح على كل الاحتمالات، وأنه لا يوجد مخطط فولاذي ينفذ على مراحل، وتالياً لا يمكن التنبؤ بحدوث صراعات خارج المخططات والبرامج، ثم إننا أخطأنا في فهمه للصراع الطبقي إذ إنه لم يحدد الطبقات، وإنما فسر وجودها، ثم إنه لم يستنتج آليات تداول وإنتاج فائض القيمة من التناقض بين السلوك البرجوازي والسلوك البروليتاري، وأخيراً أخطأنا في فهمه للمعرفة حينما زعمنا أنه أقام نهج الاقتصاد على أسس الفيزياء. وواقع الحال أنه أفسح المجال واسعاً أمام الإرادة الإنسانية من دون قيد أو شرط، يقول (مينك): «لقد تحول (ماركس)، في عصرنا المضطرب، إلى زعيم طائفي، أو إثني، أو عرقي، بعد أن فشل في أن يكون زعيم ثورة عالمية، ولماذا لا يكون زعيم قبيلة في الأمازون، أو محرك جماعة أصولية إرهابية في العمق الأفغانستاني؟».
-5-
كان (أندريه مالرو)، الكاتب الفرنسي الذي انتقل من شاطئ الثورة إلى بر المحافظة يقول: «قد ننجح في أن نريد مانكون، ولكننا نفشل في أن نكون مانريد!»
ولعل الإنسان العربي الذي ارتضى أن يرتشق في عالم متقدم ومعاد، من دون أن يسعى لا إلى الخلاص من الحصار، ولا إلى الأخذ بآليات التطور والحداثة، قد جسد عكس ما قاله (أندريه مالرو): «لقد نجح في أن يكون مايريد على مستوى التنظير والبلاغة، ولكنه فشل في أن يريد مايكون على مستوى التفاعل السياسي والاقتصادي، إنه يمارس الحماقة على أمل أن يتوصل إلى الحكمة ذات يوم، غير أن الحكمة في العالم المعاصر تقاس بالأرقام، لا بأحلام المتصوفين، ولا برغبات الحالمين..
د. غسان الرفاعي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد