الركوب السوري العسير.. والمنعطفات الخطرة!
منذ شهور والبعض يحاول أن يدس لنا بعض التفاؤل بنوايا الحكومة بما يتعلق بالدعم، وقد كنا مصرين على القول: إن الطريقة التي يقود بها الفريق الاقتصادي عجلة الاقتصاد السوري لا تدع مجالاً للشك بأنها تخفي وراءها في النهاية قضية واحدة وهي: إلغاء الدعم.
لم نكن نتجنى على أحد حينها، وليس لنا من ثأر مع هذا الفريق سوى ما تم استهدافه من مكتسبات للشعب الفقير.. من لقمة الخبز إلى لتر الدفء.
آخر ما تم هو الخطوة قبل الأخيرة التي تسبق رفع الدعم نهائياً عن الوقود، وترك العراك مفتوحاً على مصراعيه في السوق، مقدمة لإعادة الصراع حول الرغيف ولقمة الخبز، مقدمة للعودة إلى نقطة الصفر، القوي من يستحق الحياة.. يأكل من يستطيع انتزاع لقمته من فم الآخر الجائع مثله.
-أولى العجلتين اللتين تحلان جسد السوري الخائر من دخل محدود، ويد مرتجفة من التلويح بالرحمة، كان يقال قبل أيام إن أرخص وسائل النقل في محيطنا هو في بلدنا رغم كل الصعوبات، رغم التزاحم، التدافش، فلسفة الركوب السورية المبنية على عقدة التلاحم بين الأجساد بعضها على بعض، لكن النظرية الرخيصة سقطت كأولى المتضررين من رفع سعر المازوت إلى 25 ليرة للتر الواحد.
عجلة الرخص التي كانت تدعم ثباتها الدولة لم تعد موجودة، هوى السوري.. كأن زلزالاً حدث، الصدمة لم تدم ساعات، كل السوريين انصدموا ثم أفاقوا إلى حلولهم.
-الأقاويل التي شاعت قبل الخطوة الحكومية، كانت في ما يمكن أن يحصل لو اتخذتها، البعض رجّح أن تبقي الحكومة على أسعار النقل مقابل توزيع القسائم على سائقي وسائل النقل العام ومراقبتهم، البعض الآخر لم يخلُ همسه من التفاؤل أن الحكومة ستبقي الدعم على تعرفة النقل مقابل إعفاء أصحاب السيارات من رسم الرفاهية.
لذلك كان ينتظر في ساعات قليلة أن يتم ذلك، لكن شيئاً من ذلك لم يحصل، جاء قرار زيادة أسعار المازوت والغاز ليلاً، والمواطنون نيام، ودون أي ذكر لما تم التهامس به، أو ما تم توقعه، خيبة أخرى، وذكاء حكومي جديد.
-صمت خجول لف الصحافة، نقابات العمال، الجمعيات الأهلية، وجوم المدهوش، ومن لا حيلة له. على الطرقات بدأت الحركة بالتلاشي، أوقف أصحاب السيارات سياراتهم بانتظار ما سيجري، لن نستمر في العمل وفق هذه التعرفة، العمل خاسر بالتأكيد؟
كمن دخل في امتحان لم يجربه، سمع عنه، هذا السعر الجديد كيف يحسب.
بعد ساعات قررت وزارة الاقتصاد الاجتماع وإعادة النظر في تعرفة الركوب لتتوافق مع سعر المازوت الجديد.
لم ينتظر السائقون القرار، 100 % زيادة على التعرفة، التعرفة خمس ليرات صارت 10 ليرات.. وهكذا.
المواطن المدهوش، المنتظر يدفع كل ما يطلب للعودة إلى منزله وزوجته وأطفاله، بانتظار قرار الحكومة.
من 45 % - 77 % تراوحت الزيادة على وسائل النقل العامة، صفعة جديدة للمواطن الذي أحسن الظن بالحكومة، فأحسنت تعرفته.
- ماذا أثرت التعرفة الجديدة على المواطن المحدود، كيف اقتطعت جزءاً ليس بالقليل من دخله؟
ببساطة يحسب أبو محمود أجرة نقل زوجته وأولاده الثلاثة إلى بيت جدهم الذي اعتادوا زيارته في العطلات.
أبو محمود: أسكن في ريف دمشق، حددت أسعار الركوب من جديدة عرطوز إلى دمشق بـ 15 ليرة، أنا وزوجتي وأولادي نحتاج إلى أربعة مقاعد، أي سندفع 60 ليرة في الذهاب إلى دمشق، بيت أهل زوجتي في المليحة، من السومرية إلى البرامكة عشر ليرات= 40 ليرة، ومن البرامكة للمليحة 40 ليرة، المجموع 160 ليرة في الذهاب ومثلها في العودة =320 ليرة مواصلات، ما بالك للخطوط الأطول، قد يصل المبلغ إلى 500 ليرة.
عارف المستخدم في مكتب خاص بـ7000 ليرة قرر تحديد سفره كل شهرين، يقول:
تكلفة السفر إلى قريتي والعودة إلى دمشق حيث أعمل، صارت تكلفتها 1000 ليرة، هذا يعني أن راتبي يكفي 7 مشاوير فقط.
مراد موظف في المحافظة: لا يوجد خط مبيت نقل للعاملين إلى قريته في جبل الشيخ، يعمل في قسم الحدائق، قال: خمسون في الذهاب وأختها في الإياب، وأنا غير مثبت، عامل بالعقد، ويمكن أن أطرد في أي وقت، ما يقارب 3000 ليرة فقط هي تكلفة المواصلات.
علي طالب جامعي: بالكاد تستطيع أسرتي تأمين ثمن الكتب والمواصلات لي، سأدفع يومياً ما يقارب 120 ليرة مواصلات فقط للوصول إلى الجامعة والعودة إلى المنزل، بت أفكر بترك الجامعة والبحث عن عمل، فوالدي لا يقدم لي الدعم فقط، بل لإخوتي ولم يعد باستطاعته أن يفعل ذلك.
أم حسن التي تأتي باللبنة والجبن من القنيطرة إلى دمشق: لقد قطعوا أرزاقنا، لم تعد الأرباح جيدة، المواصلات غالية والتهمت 90 % من أرباحنا.
- يسخر أحد سكان مدينة قطنا من التعرفة الجديدة، ترى من الذي حسبها، وعلى أي أساس، هل يسكن بيننا، بالتفاصيل المملة: جاءت التعرفة كالتالي، دمشق قطنا 19 ليرة، من السومرية إلى قطنا 17.5 ليرة، وهنا يتساءل المواطن: هل يعرف المسؤول أن سيارات نقل ركاب قطنا لا تصل إلى دمشق، وأنها تصطف في كراج انطلاق السومرية، من معه نصف ليرة أيها الطيب؟
لا ينتظر سائق السرفيس هنا قراراً، سيكتفي بردعه ويأخذ فقط 20 ليرة.
مواطن يصيح: لماذا لم تكن 20 ليرة، أم أنها محاولة لترك الناس يختلفون على الليرة وربما يتضاربون؟
- من المؤكد أن صاحب السرفيس والسائق هم مواطنون، ونحن نعرف أن من يعتاش عليها أكثر من أسرة، «هل لدي جمعية خيرية»؟
السائق الأرعن المأخوذ بالصدمة، قال لي: 5 عائلات على هذه الآلية، من السائق وحتى الشركاء، هذه تعرفة لا تكفي، نحن ندفع للشرطة وإصلاح السيارات، والمخالفات.. مقابل كل هذا الدفع ماذا سيبقى لنا كي نعيش؟
هذا السائق قد يكون على حق، لكن ما ذنب المواطن الآخر كي يدفع ثمن معاناة المواطن صاحب السيارة؟
قبل الإعلان عن التعرفة رفع سائقو سيارات النقل العام الكبيرة والصغيرة أجور النقل 100 %، هكذا حسبوها ولا أحد يحاسبهم.؟
الآن من أي مكان تركب به السيارة، وإذا كنت في أول الخط أو آخره، يأخذ السائق تعرفة الخط كاملاً، القانون الجديد ليس مفصلاً، ترك الاجتهاد لضمير السائق، وسعة صدر الراكب.
- لم تستسلم الحكومة لما قررته هي، ما زالت باصات النقل الداخلي الأرخص، ولكنها لا تكفي، والآن ستزج بالحافلات الصينية المستوردة إلى سوق العمل، ستدخل بسعر تعرفة أقل، وبجودة أفضل، هذا ما يمكن أن نتوقعه بعد كل الانتظار، على الدولة أن تؤمن بديلاً رخيصاً للمواطن، وأن لا تترك للقطاع الخاص الاحتكاري اللعب بالسوق، فالمنافسة عندنا لا تحكمها الأفضلية والجودة والخدمات المقدمة.
لا توجد في بلادنا منافسة حقيقية لنقول إن هذه المنافسة ربما تخفض السعر باعتبار تنوع الخدمات وتنوع جودة ما يمكن أن يقدم، الصيني، الياباني، الروسي، ويمكن بالتالي أن يترك خياراً حقيقياً للمواطن خارج الخيار الحكومي العقيم.. فما العمل؟
-من المتوقع أن تلي هذه الخطوة خطوات أخطر، فالفريق الاقتصادي طرح مشروعاً متكاملاً يعمد إلى تنفيذه.. الرفع الكامل للدعم، وفي ظل اقتصاد سوق اجتماعي يوفر كل السلع لكنه يخضعها للتنافس، دون أن تكون الدولة أكثر فيه من مراقب لما يجري.
الخطوة القادمة هي تحرير الأسعار وترك الخيارات مفتوحة، لصاحب السيارة حق تقدير التعرفة، ومن حق المواطن ألا يركب.
من حق الجميع أن يختار، لكن لا يمكنك أن تحاسبه، هذا القطاع الأكثر خدمة، الأكثر حاجة سيدخل لعبة التجار في تقديم مواصفات جديدة، حمامات، نادلات، ضيافة خمسة نجوم، ماء بارد،..
في الطرف الآخر، الخدمات عادية، مقاعد ليست وثيرة، بعض الركاب يرتاحون بتقديم أرجلهم إلى جسم الراكب القريب!
خطوة فقط ويتحقق ما ابتغاه الفريق الاقتصادي، لكنها ضربة جديدة لاقتصاد المواطن السوري الذي يترنح دون اختبارات جديدة، يكفي أنه سيخوض معارك أخرى متعددة، الخبز، المازوت، الأساسيات، القمح، الرز.. وسواها.
معارك كبرى بانتظار أن يجد بديل الفريق الاقتصادي الحالي، بدائل لها، وإلا سيكون الأمر كارثياً، إفقار الفقراء، سحق الطبقة الأكبر دون رحمة، سحب رغيف الخبز، ذهاب الناس راجلين إلى محطة الوقود، التطاحن على الأفران، وتعرفة ركوب ربما لا توصل إلا إلى طريق مسدود.
عبد الرزاق دياب
المصدر: قاسيون
إضافة تعليق جديد