الأمن الثقافي الوطني وتأمين المجتمعات العربية
1
منذ بداية وجوده، والإنسان يبحث عن الأمان ويحلم بجنة ينتفي فيها الخطر ويعمها السلام، غير أن جدلية تحقيق سلامه الأرضي مبنية على الصراع والمواجهة اليومية في غابة المخاطر. وقد تعددت أنواع الصراع وأسبابه، وبات تقييم المخاطر جزءاً من أمان المجتمعات والدول، حيث تتقدم المؤسسات الأمنية على غيرها، وقد تنقلب مهمتها أحياناً فتتغوَّلُ على مواطنيها بحجة تحقيق الأمن!؟
ومن بين أنواع الأمن الوطني أصبح الأمن الثقافي ضرورة ملحة في البلدان متعددة الأعراق والديانات والمذاهب، خاصة شعوب الشرق الأوسط التي تحمل ثقافة تعج بالعصبيات والعداوات التاريخية، منذ أن كانت القبيلة وطناَ والعشائر مؤسساتها والأفراد أدواتها، الأمر الذي يخرب التماسك المجتمعي ويمد الولاءات نحو ما هو غير وطني. إذ مازال شيوخ العشائر يمثلون رعاياهم في البرلمانات ومجالس الأمة، بينما يتقاسم زعماء الطوائف مؤسسات الدولة، حيث تقتصر قيمة الفرد على ولائه دون موهبته، ويغدو الزعيم العشائري أو الطائفي أو القومي أشبه بدولة داخل الدولة. بل ويمكنك أن تقابل مواطنين قادمين من عصور مختلفة كما لو أنك في متحف للتاريخ الطبيعي، بينما السياسات العامة تمالىء الأشرس بينها، حتى لو خالفت فيها بنود دساتيرها، حيث الحفاظ على ثبات كرسي الحكم يضطر الحكام لاعتماد الأنساق السياسية القديمة، فثقافة الشعب هي ما يحدد الأعماق التي يمكن أن تسبح فيها السلطات الحاكمة خوفاً من أن تعصف بها تياراتها العاتية، بينما الارتقاء بثقافة الشعب سيدفع السلطات السياسية بالضرورة إلى مواكبتها والتقدم معها..
2
حدّد المفكر السوري حليم بركات مقومات الثقافة بمفهومها الشامل بأنها: مجمل القيم والرموز والأخلاق والسجايا والمعتقدات والمفاهيم والأمثال والمعايير والأعراف والتقاليد والعادات والوسائل والمهارات التي يستعملها الإنسان في تعامله مع بيئته، أو بلغة ابن خلدون: "آداب الناس في أحوالهم في المعاش وأمور الدنيا ومعاملاتهم وتصرفاتهم في الحياة اليومية"، وهي الفكر من علوم وفلسفة ومذاهب وعقائد ونظريات، حيث تتداخل هذه المكونات وتشكل معاً الثقافة العامة لشعب ما.
ويشكل الأمن الثقافي فرعاً من مكونات الأمن العام، فهو امتداد للأمن الاقتصادي والسياسي والعسكري. فبعد الحرب الباردة توسع مفهوم الأمن وظهر الاهتمام بكل الأنواع الأمنية. وفي مراحلها الأخيرة، تعدت العولمة الجانب الاقتصادي لتشمل العامل الاجتماعي والثقافي والبيئي وغيره من المجالات الأخرى. ولم تعد القوات المسلحة للدول هي مصدر التهديد الوحيد ضد أمن الشعوب والأمم الأخرى، وإنما بات الخطر يأتي من الركود الاقتصادي، والاضطهاد السياسي، وندرة الموارد، والصراع العرقي، والثقافي، والإرهاب، والأمراض والأوبئة، والتلوث، والمخدرات، الهجرة غير المشروعة، الجريمة المنظمة، التهريب.. وأصبح الحديث يدور حول الأمن اللين الذي يشمل التهديدات غير المباشرة، إلى جانب الأمن الصلب والذي يعني التهديدات المباشرة أو العسكرية.
وقد لخص ريتشارد سنايدر وجيمس روزنو في كتابهما "المقاربات النظرية لتفسير السياسة الخارجية" أهداف العولمة بالقول: "إن حركة العولمة تسير إلى التغيير في طبائع البشر، وتحرير الفرد من قيوده، وتعديل نظام الدولة، وعدم التقيد بالحدود الجغرافية، فيمكن للعولمة الانتشار عبر اتجاهات متعددة عبر الحدود الوطنية، والدخول إلى أي مجتمع في العالم لتوحيد الأفراد والجماعات والمؤسسات، وتعبئتهم في شكل عمل واحد، وتوحيد قوى العمل القادرة على هذه التعبئة". وهذا القول البريء قد يحمل في طياته مخاطر كبيرة تقف وراءها قوى كبرى تنظر إلى العالم على أنه مساحة مفتوحة لتحقيق أهدافها وحماية مصالحها. إذ ترفض الليبرالية فكرة أن الدولة هي الفاعل الوحيد في العلاقات الدولية، كما تقوم باستبدال مفهوم الأمن القومي بالأمن الجماعي عبر إنشاء منظمات ومؤسسات دولية وإقليمية تعمل على ضمان وتحقيق الأمن والسلام بطريقة تعاونية وتبادلية بين الدول. وهذا ما ذهب إليه أستاذ العلوم السياسية وعميد مدرسة جون كينيدي الحكومية جوزيف ناي حين طالب القوة الكبرى (الولايات المتحدة الأمريكية) على التقليل من استعمال القوة الصلبة وتعويضها بالقوة اللينة من أشكال الاقتصاد والثقافة للانتشار في النظام الدولي من جهة ولقلة تكلفتها من جهة أخرى.
3
يقوم نظام العولمة على تحرير الأسواق والفضاءات الاقتصادية والتبادلات التجارية والمالية والخدمية، وعلى الاختراق المتواتر للخصوصيات والحدود الثقافية والقيمية والجغرافية والسياسية. ويقع الاقتصاد المعولم خارج نطاق سيطرة الدولة القومية، عبر تسهيل تدفق رأس المال، ورفع الحدود أمامه. وتعتبر الشركات المتعددة الجنسيات ومنظمة التجارة العالمية والتكتلات الاقتصادية الذراع الطويلة لرأس المال العالمي. ومن أهم مؤسساته المالية البنك الدولي، وصندوق النقد اللذان يسيطران فعلياً على الكثير من دول العالم الثالث.
وتمتد الجذور التاريخية لثقافة العولمة إلى محاولة الإسكندر المقدوني وورثته نشر الثقافة اليونانية في العالم القديم، وبعد قرنين من تعميم العمارة والفلسفة والمسرح والرياضة الأولمبية الهيللينية في المدن التي بناها الإسكندر تلقفت الإمبراطورية الرومانية الراية لقرنين تاليين. ثم ورثتها بيزنطة التي تبنت الديانة المسيحية وعممت ثقافتها في أوروبا بعد انتشارها في بلاد الشام ووادي النيل. وفي القرن السابع الميلادي شكل الإسلام النقلة الثانية في حركة العولمة الدينية، عندما تبنت دمشق الإسلام العربي ونشرته عبر جيوشها وقوافل تجارتها في آسيا وأفريقيا واسبانيا، حيث تصارعت قوى العولمة المسيحية - الإسلامية ثقافياً وسياسياً وعسكرياً واقتصادياً طوال قرون عديدة. فالعولمة الثقافية ظاهرة رافقت الإمبراطوريات في القرون الماضية حيث جهدت أن تذوِّب الشعوب التي سيطرت عليها بثقافتها، وعملت على توجيه قيمها وتقاليدها إلى حيث تريد. فالتنوع الثقافي كان وما يزال وليد الصراعات بين الأمم.
وأول من تحدث عن ثقافة العولمة الجديدة بشكل تنبؤي كان اليهودي الأمريكي زبيغينو بريجنسكي في سبعينات القرن الماضي في كتابه المترجم إلى العربية: أمريكا والعصر التكنوتروني، عندما بشر بأخلاق وعبادات وثقافة جديدة يولدها عصر التكنولوجيا، وبأن الدولة الأمريكية المتفوقة سوف تفرض ثقافتها على العالم: "إن مجتمعا شاملا يوشك أن يولد تحت تأثير الثورة التكنولوجية، وأن المجتمع الأمريكي الذي يتولى زعامتها هو الصورة الأولى لهذا المجتمع، وأن نمط الحياة الأمريكي هو بمثابة المرحلة القادمة بالنسبة إلى البشرية كافة. ولإن كانت الولايات المتحدة قادرة على ادعاء هذا الموقع كمنارة لحضارة عالمية جديدة فذلك بفضل الجاذبية الثقافية التي تمارسها على العالم، أزياؤها، أفلامها، معلوماتها، برامجها التلفزيونية، مآثرها العلمية، طريقة إدارتها للمنشآت". وخلص بريجنسكي إلى أن ديبلوماسية الشبكات ستحل محل ديبلوماسية المدافع. وقد حصل ذلك بعد أربعة عقود، حيث تمكنت منصة فيسبوك من الإطاحة بالدول القومية العربية، بالتعاون بين واشنطن والتنظيم العالمي للإخونج، وأثبت الربيع العربي فشلا كبيرا في الأمن الثقافي العربي.
4
أكثر من ثلثي سكان الكرة الأرضية يتحدثون الإنكليزية، وهي لغة العولمة والدولار وسيلتها، وشركات الإنتاج الفني وشبكات الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي مسرحها. وقد بات تأثيرها الثقافي يوازي تأثير الثقافات المحلية في المجتمعات غير الأمريكية، ذلك أن الأمركة تكتسح العالم، وهوليود هي التي تكتب تاريخنا وتثقف أولادنا الذين لا يقرأون كتبنا، رغم أن الله تعالى صدّر دعوته لنا بالقراءة؟!
بنى الأمريكان ثقافتهم على الديمقراطية والفلسفة الأوروبية والأخلاق المسيحية التي حملها المستعمرون والمهاجرون الأوائل، مضاف إليها الابتكارات التي تم تطويرها محلياً. وقد تصارعت جاليات المهاجرين مع بعضها في الزمن العنصري الأمريكي، حتى تمكنت الدولة واقتصادها من صهر الجميع ضمن مسمى الشعب الأمريكي، وتم اعتماد أعياد وطنية لكل القوميات الأمريكية، حيث حافظت الجاليات المتعددة على فولكلورها المُطعّم بالثقافة الأمريكية الجديدة يتوجها شعار الحلم الأمريكي الذي يتوق إليه الشباب من كل أنحاء العالم وليس الأمريكان فقط. ونظرا لافتقار أمريكا إلى تاريخ مجيد فقد صنعت لهم هوليود تاريخاً افتراضياً يناسب الحلم الأمريكي المتخيل، إذ تمتلك الولايات المتحدة ثلث صناعة الترفيه ووسائط الإعلام في جميع أنحاء العالم، وتسيطر على صناعة البث التلفزيوني منذ بداية الخمسينات، وهناك نسخ مشابهة للبرامج التلفزيونية الأمريكية في جميع أنحاء العالم، كما تحظى الأفلام الأمريكية بتسويق عالمي حيث بلغ ريع صناعة السينما الأمريكية 771 بليون دولار عام 2019 وفقاً لوزارة التجارة الأمريكية،.وكل ذلك هو بعض من العولمة الثقافية حيث تسيطر القيم والمبادئ الأمريكية على العالم، مدعومة بالتقدم الهائل في أجهزة الاتصال والإعلام التي تؤثر على الخصوصيات الثقافية والقيم الذاتية لدى الشعوب الأخرى.
وقد حاول الأوربيون جاهدين بعد الحرب العالمية الثانية الحفاظ على السينما الوطنية من المنافسة الهوليودية ولكنهم خسروا المنافسة أمامها على الرغم من الميزانيات الضخمة التي كانت ترصد لدعم الثقافة الوطنية خصوصاً في فرنسا وإيطاليا. ذلك أن الأمريكان حولوا الثقافة إلى صناعة وسوقوها كسلعة مثل الكولا دون أي اعتبار لفائدتها أو ضررها على المستهلك. وفي الوقت الذي كانت الحكومات الأوروبية تخسر مدخراتها على دعم السينما الوطنية كانت هوليود تكسب المزيد من الأموال التي حسنت في تقنياتها حتى باتت مجاراتها صعبة ومكلفة فتقلص الإنتاج الأوروبي ليملأ الإنتاج الأمريكي صالات العرض الأوروبية وعيون المشاهدين الأوروبيين.. واليوم لا أحد بإمكانه منافسة الإنتاج الثقافي الأمريكي، ولكن يمكن التحذير من انعكاساته السلبية على المجتمع وهذا عمل النقاد والمفكرين وليس رجال الأمن بالتأكيد.
5
تشكل صناعة الإباحية ركنا من أركان ثقافة العولمة حيث باتت منتجاتها موجودة في كل أجهزة اتصال سكان العالم، وصار في متوفر كل فرد الدخول إلى مبغى افتراضي يفسد ذوقه ويزيف حاجته الجنسية الطبيعية، ليخرب في النهاية النظام الجنسي للعائلة المقدسة التي شكلت العالم القديم.
يبلغ عدد المواقع الإباحية في العالم حوالي 24 مليون موقعاً، والغالبية العظمى من صناعة الإباحية في الولايات المتحدة. وتحتل هولندا المركز الثاني بمعدل 27% من المواقع الإباحية بينما تحل المملكة المتحدة بالمركز الثالث بمعدل 7% من المواقع الإباحية.
37 % من حجم شبكة الإنترنت يتكون من مواد إباحية. وتقول احصائيات موقع أليكسا لعام 2017: بلغ عدد مرات البحث عن المواقع الإباحية بمحركات البحث 68 مليون طلب يوميا. عدد الرسائل الالكترونية الإباحية 2,5 مليار رسالة يوميا.30 مليون مشاهدة بالثانية. كل ساعة يصدر في الولايات المتحدة بمعدل فيلمين إباحيين. تبلغ نسبة تحميل المواد الإباحية عبر الانترنت 35% من إجمالي المواد المحملة. يبلغ إجمالي عدد الزوار الشهري للمواقع الإباحية على الشبكة أكثر 72 مليون زائر. 89% من زوار غرف الدردشة يخوضون في موضوعات جنسية كنوع من أنواع التحرش. 20% من الزوار اعترفوا بدخولهم إلى المواقع الإباحية أثناء تواجدهم في العمل. أكثر من مليونَي فيلم إباحي يؤجَّر يومياً في الولايات المتحدة. 90 من كل 100 صبي حضروا أفلام إباحية قبل بلوغهم سن 18 وبالمقابل فإن 60 من كل 100 فتاة قد شاهدت الإباحية أيضاً قبل بلوغها الـ 18 من عمرها.
تشير الإحصائيات إلى أن هناك أرباحاً طائلة تجنى من صناعة الإباحية لتنفي النظرية القائلة بان القائمين عليها مجرد هواة أو شواذ عابثين، بل هي تتساوى مع الأنواع الأخرى من الصناعات ذات التأثير السلبي على المجتمعات كصناعة التبغ والمخدرات، وتعمل على صناعتها وترويجها جهات منظمة قد تدعمها حكومات لما لها من أرباح طائلة قد تمثل دخلا قوميا لبعضها تحت غطاء سياسات الانفتاح والحرية الشخصية، غير عابئة بالأثر المدمر على المجتمع والقيم الأخلاقية.
تدر المواد الإباحية ما يقارب 13 مليار دولار داخل الولايات المتحدة، وتعد أمريكا من أكبر الدول المصنعة لها ويربح الاقتصاد الأمريكي من هذه الصناعة بشكل كبير ومباشر.
يبلغ عدد المواقع الإباحية التي تحتوي على مواد إباحية لأطفال أكثر من 200.000 موقع. يبلغ متوسط عمر الأطفال الذين يتعرضون للمواد الإباحية لأول مرة 11 عاما. 40 % من الأطفال لا يترددون في ذكر بياناتهم الشخصية والعائلية أثناء استخدامهم للإنترنت سواء عن طريق البريد الالكتروني أو غرف الدردشة. ما يقرب من 26 شخصية كرتونية محببة إلى الأطفال تُستغل لاصطيادهم إلى المواقع الجنسية، 1 من 4 أمهات يشتكين من تعرض أطفالهن للاستغلال الجنسي عبر الانترنت. يبلغ الربح السنوي التقديري لاستغلال الأطفال جنسيا عبر الانترنت 3 مليارات دولار أميركي.
ويسيطر اليهود على هذه الصناعة منذ عام 1977 عندما قامت اليهودية غلوريا ليونارد رائدة التمثيل الإباحي ورئيسة تحرير مجلة "High Society” بافتتاح الخطوط التليفونية الجنسية في نيويورك. أما مجلة "Playboy" الشهيرة التي تأسست في منتصف الخمسينيات، فكان كل فريقها من اليهود، بتأكيد أحد محرريها اليهود نات ليرمان: نحن كنا المهيمنين، وربما الألمع.
ومنذ أواخر عقد السبعينيات كان اليهودي روبين ستيرمان بمنزلة الأب الروحي للصناعة الإباحية العالمية، حيث امتلك إمبراطورية ضخمة تتحكم في أغلب الإنتاج الإباحي، وكان يمتلك أكثر من 200 متجراً للمجلات الإباحية.
ومع انتشار الفيديو، اقتحمت الإباحية حياة المستهلكين حيث يذكر المخرج الإباحي اليهودي مايك كوليش: أن اليهود هم أول من أدخلوا تقنية الفيديو الجماهيرية إلى الصناعة، عندما أسسوا الشركات التي أنتجت الـ "DVDs" وشرائط الفيديو "VHS" و"Betamax"، وهو ما شكّل ثورة في ترويج الإباحية بين شعوب العالم. ويؤكد كوليش: "أن جميع رجال البزنس الإباحي هم يهود في الغالب، أو لديهم روابط يهودية، أو في وقت من الأوقات عملوا تحت يهودي ".
مع بداية ثورة الإنترنت في التسعينيات، قام المنتج اليهودي سيث وارشافزكي، بإنشاء شركة Internet Entertainment Groub للتسويق الإباحي عبر البث المباشر والفيديوهات المسجلة، وقد تضخمت حتى صارت أكبر شركة إباحية في عالم الإنترنت. كما أسس اليهودي بول فيشمان، خلال عقد التسعينيات أيضا، شبكة Adult Video News التي تغطي أخبار الصناعة الإباحية وتُقيم الحفلات وتُقدّم الجوائز للمنتجين والممثلين مثلها مثل حفلات الأوسكار.
في عام 1991م، برز لون جديد من الإباحية على يد رجل الأعمال اليهودي سيمور باتس "ملك الإباحية العنيفة" حيث يتميز هذا اللون من الإباحية بالعنف المفرط والأذواق المنحطة. ثم جاء بعده اليهودي ستيفن هيرش، مدير مؤسسة "Vivid"، فقد دخل اليهود إلى الصناعة الإباحية "كأفراد يسعون إلى تحقيق الحلم الأميركي"، حسب تصريح القانوني الأميركي آبراهام فوكسمان، إذ اشتعلت ثورة الإنترنت ودخلت إباحية البث المباشر وتربع اليهود على عرش إمبراطورية الاقتصاد الإباحي..
تعمل الإباحية على تدمير النظام الاجتماعي العالمي وتعزيز العنصرية الجنسية خصوصاً في المجتمعات الشرقية، الأمر الذي يفكك العائلات ويضعف تماسك المجتمع من دون تفعيل أي ثقافة ممانعة وحماية سوى المزيد من المنع والقمع والتقييد الذي يدفع الناس أكثر نحو عالم الإباحية، ذلك أن المنع يوازي الإباحية في الأذى، وثقافة الفصل بين الجنسين تدفعهما إلى طلب المزيد من الجنس في العالم الافتراضي، وهذا جل ما يريده منتجو الإباحية.
تقول جوديث رايزمن بشهادتها أمام مجلس الشيوخ الأمريكي: "تنطبع الصور الإباحية في الدماغ وتحدث فيه تغييراً، إذ تترك في الذاكرة أثرا كيميائيا حيويا فوريا ولا إراديا ولكنه أثر دائم يتعذر أو يستحيل محوه".
وينتج عن الإدمان على الإباحية: تقويض الثقة والحميمية والحب بين الأزواج، وتعزيز الأنانية والجفاء وعدم الاكتفاء بالشريك. تغذية التخيلات والشهوات الجنسية غير السليمة. تشجيع الخيانة في الخيال والواقع. فالإباحية ليست مجرد قضية فردية إنما هي قضية مجتمع وأمة تستوجب مواجهتها وعلاجها، والبداية تكون بإدخال الثقافة الجنسية إلى المناهج التعليمية كي يميز الشباب بين المزيف والصحيح، فيعرفون مضار الأول ومنافع الثاني، ذلك أن تأمين الجنس الآمن وتفعيل ثقافته يحمي المجتمع ونظام الدولة من التفكك والتلاشي.
6
الخطر الداخلي الذي يتهدد المجتمعات العربية يأتي من انتشار الثقافة الأصولية ويغذيها مصدران أساسيان: الوهابية السعودية، والإخونجية العثمانية التي نشأت في مصر وتمددت في المنطقة، ويبدو أن السعودية اليوم بدأت تقلص نشاطها وتمويلها للدعوة الوهابية بعد نصف قرن من نشرها في العالم، غير أن ما زرعته الوهابية قد نما وانفصل عن مصدره ليشكل جماعات مستقلة، كالقاعدة وداعش وطالبان وبوكو حرام. ورغم قرار المملكة بالتحديث الاجتماعي، فهي مازالت تعتمد نظام التعليم الديني في كافة مدارسها وجامعاتها ولم تضع برنامجا للعلاج الثقافي بعد.. بينما حاربت الدولة المصرية الإخونج أمنيا وعسكريا، ولكنها أيضا لم تضع مشروعا تنويريا لمواجهة التطرف الديني، وكذا بقية الدول العربية التي يتهددها خطر الفكر الإخونجي الممتزج مع بقايا الإرث العنصري العثماني. ذلك أن الأنظمة العربية مازالت تهمل مسألة علمنة الدين وتحديث الفكر السلفي وتربية العقل النقدي الذي يُعمل المنطق في قبول الأفكار أو رفضها. كما أنها تسمح للمؤسسة الدينية النقلية التي تتحالف معها بتهديد أصحاب الأصوات الإصلاحية ومحاصرتهم، وقد تحدثنا في مراجعاتنا السابقة حول ذلك.
ورد في تقرير "معهد السلام الأمريكي" التابع للكونغرس شرحا خاصا حول "مشــروع التجديد الإسلامي" حيث يرى معدوه أن التحدي لا يأتي من الصراع مع التحديث الغربي فحســب، بل يأتي أيضا من الصراعات العقائدية داخل العالم الإســلامي نفســه، فهناك معركة محتدمة وذات جذور تاريخية داخل الإســلام بين دعاة التحديث والإسلاميين الراديكاليين. وفي أعقاب الثورة الإسلامية في إيران عام ١٩٧٩، أطلقت الأنظمة السنية المحافظة نموذجها الخاص للإسلام المتزمت، وذلك لمجابهة النفوذ العقائدي المتنامي والدينامية السياسية للثورة الإيرانية الشيعية. وقد استطاع السخاء المالي السعودي والمذهب الوهابي، الذي يدعو إلى تفسير حرفي تعاليمي ومتزمت للقرآن، أن يؤثر في الرد على التحدي الإيراني الشيعي. حيث عزز المتطرفون من نفوذهم خلال العقود الثلاثة الماضية بسبب سوء الأداء الاجتماعي والاقتصادي والطابع القمعي للأنظمة السياسية المسلمة.
وتتحدث تقارير التنمية الإنسانية العربية الثلاثة التي أصدرتها الأمم المتحدة بين عامي ٢٠٠٢ و٢٠٠٤، عن تأخر الجزء العربي من العالم الإسلامي في الفرص الاجتماعية، والمعرفة، والحكم الصالح، وأن تفتت السلطة الدينية وتردد علماء الدين أو عجزهم عن إعادة تفسير التعاليم الإسلامية يؤدي إلى مشكلات خطيرة. ونظرا لعدم وجود سلطة دينية مؤسسية، مثل البابوية الكاثوليكية، وولاية الفقيه الشيعية، فإن أي شيخ، أو حتى أمير جماعة متطرف، يمكنه إصدار فتوى!
ويرى معدوا التقرير أن الهدف الحقيقي للأحزاب الإســلامية المعتدلة التي لا تنادي بالتطبيق الصارم للشــريعة، هو بلوغ السلطة السياسية. وقد ينطــوي ذلــك علــى بناء تحالفات مع المحافظيــن الدينيين، وتقييد الحقوق الديمقراطية الأساســية عند الحاجة. وهكــذا يعود هؤلاء المعتدلون إلى احتضان أيديولوجيات شعبوية محافظة لحشد الأصوات خلال الأزمات الداخلية أو الخارجية وينكصون عن المبادئ الديمقراطية، مثلما حدث في بنغلاديش في عام ١٩٩١، وأندونيسيا في ٢٠٠٤، وماليزيا في ١٩٩٩، وباكستان في ١٩٩٠ و ١٩٩٣، وتركيا في ١٩٩٩ وغزة 2006 ومصر وتونس 2011، فعلى الرغم من تظاهر القادة الإســلاميون بالتحفظ على مبدأ "الحاكمية"، وإعطاء صلاحيات للحــكام المنتخبيــن، فــإن ذلك لم يضمن احترامهم للحقوق الديمقراطية الحديثــة حيث يمكنهم دائما فرض قيود مضادة للديمقراطية باســم أغلبية محافظة تؤمن بأن الســلطة النهائية هي لله وليس للشعب، بما يمكن القول أنها حاكمية مستترة .
7
ضعفت فعالية اللغة والثقافة العربية وتوقفت عن التطور خلال الحقب الاستعمارية العثمانية والأوروبية، فكان من الطبيعي أن تتأثر الثقافة العربية بالثقافة البرجوازية والماركسية الأوروبية، في الفكر والشعر والقصة والمسرح والرواية والموسيقى والرسم والعلوم وحتى في التحديث والإصلاح الديني، لكي نعوض ما فاتنا خلال عشرة قرون من القمع والإهمال والتضييق.
فمنذ منتصف القرن التاسع عشر ظهر مصطلح الأدب العالمي، وفي الواقع كان أثره إيجابيا في تلاقح الثقافات وتشكيل ذوق أدبي تنويري . ومنذ ذلك الوقت توحدت مقاييس وأدوات النقد الأدبي وظهر اختصاص الأدب المقارن، وساهم كل ذلك بتشكيل وتطوير الثقافة الوطنية حتى أواخر القرن الماضي حيث صعدت ثقافة الأمركة التي تخاطب الغرائز وتسلع الأفراد في نمط جديد لأسواق النخاسة لم تستطع حتى الثقافات الأوربية أن تكون منيعة أمامها.
لا يمكن الحفاظ على الثقافة المحلية ومنعها من التداخل مع ثقافات الشعوب الأخرى، إذ أن انتقال الثقافات وانتشارها وتأثير بعضها في بعضها الآخر أمر حتمي لا يمكن تجنبه، فلا يمكن إغلاق ثقافة ما، ولكن يمكن تأصيلها وتحديثها باستقبال ما هو مفيد والتخلي عما يسيء، لهذا يعد الأمن الثقافي أحد جوانب الأمن القومي، وهو يتقدم على الأمن الاجتماعي والعسكري والسياسي والاقتصادي، لأنه يمثل هوية الشعب. وإذا كان الاجتياح العسكري يهدف إلى الاستيلاء على الثروات الوطنية فإن الاجتياح الثقافي يهدف إلى النيل من الهوية وبالتالي من الروح والفكر.
ومنذ سبعينيات القرن الماضي رفع الإسلاميون والقوميون العرب شعار "مواجهة الغزو الثقافي الغربي"، في الوقت الذي كانت فيه الجماعات الإسلامية تقتل الأدباء والمفكرين، بينما تكتفي الأنظمة العربية شبه العلمانية بسجنهم أو نفيهم. أما دول البترودولار التي تحكم باسم الدين فإنها لم تنتج أي مفكرين أو مثقفين أو حتى شعراء مهمين خلال العصر الحديث، وهكذا فُرّغت دفاعاتنا الثقافية طوال نصف قرن واخترقت مجتمعاتنا أنماط الثقافة الغربية الجيدة والسيئة. ذلك أن الثقافة لا تغزو وإنما تتدفق بسلاسة كالماء، والأرض العطشى سوف تمتصها سواء كانت مياها عذبة أو آسنة.
قد يكون مصطلح الأمن الثقافي أكثر دقة من تعبير الغزو الثقافي لأن هذا الأخير يبدو في ظاهره دعوة غير مباشرة لرفض التلاقح الثقافي ومحاربته باعتباره نوعا من العدوان الذي يجب التصدي له، وهو بذلك يغفل الاتصال والتفاعل التاريخي بين الثقافات. بينما يهتم الأمن الثقافي بتنمية الثقافة الأصلية وأدواتها ووسائلها ومؤسساتها ومدى تحقيق هذه المؤسسات والوسائل للأهداف المطلوبة في إطار الحفاظ على الهوية والنهوض بالثقافة الوطنية. فليس المقصود بالأمن الثقافي إغلاق النوافذ على الثقافات الأخرى، كما لا يعني الاحتفاظ بجميع القيم السائدة، وإنما يكمن الأمن الثقافي في تنمية الهوية وحمايتها من كل العوامل التي تسبب ضعف الانتماء، بمعنى حماية العقل من المؤثرات الضارة، وتأمين خبرته الثقافية الأصلية من التشويش والتضليل، من أجل الحفاظ على الشخصية الوطنية.
وإذا تأملنا في واقع الشباب العربي اليوم سوف ندرك أنه يعيش حالة من الانبهار بثقافة الأمركة وحضارتها وما حققته من تقدم تقني وعلمي، فأصبح لدى شبابنا ميل طوعي إلى تقليد شباب الغرب في اللغة والعادات وفي نمط عيشهم وحتى في تقليد غرابتهم وشذوذهم، بدلا من الإهتمام بحداثتهم العلمية والإنسانية .
إذاً ما العمل لتدعيم أمننا الثقافي والتخفيف من أخطار الثقافة السلفية المحلية أو الغربية المستوردة؟
الواقع أن المفكرين والأدباء والشعراء والفنانين هم الجيش الذي يجب إعادة تنظيمه ورعاية إبداعه بدلا من استمرار نفيهم خارج البلاد، فهم النبع المجدد للثقافة الوطنية، والأقدر على تدعيم بنى الأمن الثقافي وتفعيل العقل النقدي من المؤسسات الأمنية والدينية النقلية التي أثبتت فشلها في حماية المجتمعات والأنظمة من أخطار الثقافة الخارجية وثقافة التطرف المحلية اللتان تعملان على تفكيك المجتمع وإضعافه.
لقد انتهى زمن الثقافة المحمية، ولا يمكن تجنب الفايروس ولكن يمكن تدعيم المناعة باللقاح: الثقافة في مواجهة الثقافة، وطالما أننا نحصل على جوائز عالمية في الثقافة فإن مثقفينا قادرون على تأمين لقاح ثقافي لتأمين الأجيال العربية وتعزيز هويتها.
في كتابه "لعبة العالم" الصادر عام 1969 كتب الفيلسوف كوستاف آكسيلوس عن عولمة الثقافة: "ثقافة عالمية، ثقافة كوكبية، ثقافة جماهيرية، هي شعارات لا تعرف ما القضية، فهي تختم مساراً، ذلك أن الثقافة إذ تتعولم وإذ تقاد عن بعد، لا تعود تخضع لمثال أولي أو نموذج ما، فهي في حين أضحت متعددة الأشكال ولا متشكلة، لم تعد تقدم أي مخطط محدد للكلام وللفعل، للأحلام وللأهواء، للأشغال وللتسليات، وهي حين تمضي في كل الاتجاهات تغدو للتو بلا معنى بلا دلالة، إنها لا تعود تعطي جواباً عن القول والفعل: لم تعد تكويناً، بل تغدو إعلاما وتواصلاً .
فنحن اليوم بالنسبة للمتعددة الجنسيات مجرد أفواه وعيون وأسماع جائعة يجب ملئها بالسلع التي تسوقها، حيث تصبح الكوكاكولا بديلة الماء والعصير، والكورن فليكس بديلا للمكدوس والزعتر، والإستمناء بديلا عن الحب والزواج، ولابد لها من محو الثقافات المحلية لكي يحل محلها ثقافة استهلاك مالا نحتاجه فعليا .. فالثقافات المحلية إلى زوال أو نغلق فتحات جسدنا عن ملئها بما لايفيدنا..
نبيل صالح
إضافة تعليق جديد