أحمد جبريل... فلسطين حتى آخر نفَس
مصارعاً، أمضى أحمد جبريل حياته العاصفة، وشاهداً على أدقّ تفاصيل الجلجلة الفلسطينية، منذ اقتعلت العصابات اليهودية للمستوطنين الأوائل، أعمدةَ بيت عائلته في قرية يازور قرب يافا عام 1948، وكان في عقده الأوّل. من هناك، يمَّم اليافوي وَجْهَهُ بتراب دمشق، فاكتشف أسرار الجغرافيا بين بحر فلسطين والداخل الشامي، وتعلَّم لغة الماء المنساب نحو الجنوب، رصاصاً وشوقاً للعودة إلى حديقة الريحان والليمون في يازور. إلّا أن العاصمة السورية وضعت جبريل الشاب النازح، أمام العقيدة السورية القومية الاجتماعية، وتأثّر تأثُّراً شديداً بأنطون سعاده وشهادته وقتاله من أجل فلسطين، فحفر سعاده في وجدانه حبّاً، بقي يتردّد على لسان أبو جهاد إلى آخر أيّام عمره.
استحكمت فكرة القتال من أجل فلسطين على غاية جبريل في الحياة. وبدل أن يختار الدراسة الجامعية، التحق بالجيش السوري وانتقل إلى الكليّة الحربية في القاهرة، ليتخرّج منها ملازماً مقاتلاً. سرعان ما وظّف جبريل معرفته في سبيل بناء قوّة من الفدائيين تقتصّ من المستوطنين وجيش الاحتلال، فساهم في تأسيس «جبهة التحرير الفلسطينية» ثم «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين».
كان انحياز جبريل للجغرافيا، سبباً كافياً لتأسيس «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ـ القيادة العامة» في عام 1968، والافتراق عن «الجبهة الشعبية» وقبلها عن حركة «فتح» وقائدها ياسر عرفات، وتعميد التحالف مع الرئيس الراحل حافظ الأسد في عام 1970؛ تحالفٌ، سيلازم جبريل حتى نزوله غداً الجمعة تحت تراب جبانة الشهداء في مخيم اليرموك جنوب دمشق.
مع بداية الستينيات، قاد جبريل سلسلة من العمليات العسكرية السرية ضدّ جيش الاحتلال والمستوطنات اليهودية في عمق الأراضي المحتلّة، وكان لكلّ عملية معنى سياسي ومعنوي سعى أبو جهاد إلى زرعه عند العدوّ عن حتميّة الهزيمة، وعند الفلسطينيين عن حتميّة الانتصار، منها نسف قطار في القدس عام 1966، وتفجير باص لخبراء عسكريين إسرائيليين، وزرع عبوة وتفجيرها في سينما يرتادها الصهاينة في حيفا. وفي عام 1974 شكّلت عمليّة الخالصة منعطفاً مهمّاً في الصراع العسكري والأمني، بتكريس العمليات الاستشهادية والانغماسية نهجاً في القتال مع دخول مجموعة من مقاتلي القيادة العامة إلى بلدة الخالصة (مستعمرة كريات شمونة بتسمية الاحتلال)، فاشتبكوا وقاتلوا حتى الموت مكبّدين جيش الاحتلال ما يزيد على 20 قتيلاً، في وقت اعتقد الصهاينة أن المقاومة الفلسطينية ابتعدت عن الداخل الفلسطيني بخروجها من الأردن وانتقالها إلى بيروت.
كذلك، افتتح جبريل سلسلة من عمليات التبادل مع العدوّ، بعد قيام الجبهة باختطاف جنوده واستبدالهم بأعداد كبيرة من الأسرى الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين العرب والأجانب من سجون الاحتلال. ويمكن القول إن أبو جهاد امتهن خطف جنود العدوّ وجرّ جيشه إلى عمليّات التبادل، بعدما حاول الكيان رفض هذا النوع من العمليّات عدّة مرات لعدم منْح حركات المقاومة شرعية شعبية ودولية، ليعود مرغماً تحت قسوة العمليات، للإذعان لشروط جبريل وموقفه الصلب.
على مدى سنوات الصّراع، لم تغب القيادة العامة مرّة واحدة عن المعارك المصيرية. من القتال في الداخل إلى مواجهة العدو في لبنان، خطّط ونظّم وقاد وربح جبريل غالبية المعارك التي خاضها، من حرب الفنادق ضدّ قوات الجبهة اللبنانية آنذاك، والتي قاتلت في بيروت بدعم من جيش الاحتلال، إلى مواجهة اجتياح لبنان عام 1982 على معظم محاور القتال، من الجنوب إلى خط الساحل إلى العاصمة وبحمدون إلى البقاع الأوسط، ولا سيّما في معارك السلطان يعقوب الشهيرة، إلى حرب الجبل التي انخرطت فيها «القيادة العامة» والمدفعية السورية بتأثير كبير، فحُسمت وجهة المعركة ضدّ ميليشيا القوات اللبنانية آنذاك.
تميّز أبو جهاد بخبرته في حفر الأنفاق وتشكيل القواعد العسكرية تحت الأرض، كردّ على تفوّق سلاح الجوّ عند الاحتلال، وشكّلت قواعد الناعمة على خط الساحل وقوسايا في البقاع الأوسط، نماذج عن حصونٍ عسكرية في بقعٍ جغرافية استراتيجية يحسب لها العدوّ حساباً. فلم تسقط الناعمة على رغم وصول العدو إلى بيروت، وأربكت السلطان يعقوب قوات الاحتلال البريّة في محاولتها الوصول إلى المصنع خلال الاجتياح، وبقيت قوسايا خطّاً أحمر يمنع أي قوات من السيطرة على هذا الشريان الاستراتيجي بين بيروت ودمشق. واليوم، تشكّل هذه القواعد، جزءاً من الاستراتيجية الدفاعية اللبنانية، وأحد أبرز عناصر الإزعاج للعدوّ الإسرائيلي وللقوات الغربية التي تحاول بسط سيطرتها على الواقع الأمني والعسكري في لبنان وتهديد دمشق.
أمّا أيقونة إنجازات جبريل، فكانت عملية الطائرات الشراعية في عام 1987، والتي استهدفت الوصول إلى معسكر للاحتلال في الجليل باستخدام طائرات شراعية انطلقت من لبنان، وكان هذا الإنجاز العسكري واحداً من أسباب اندلاع الانتفاضة الأولى في ذلك العام، والتي سجّل جبريل والقيادة العامة دوراً بارزاً في تأجيجها ومدّها بالدعم المعنوي والمادي.
تميّز أحمد جبريل في كلّ شيء. رؤيته السياسية العميقة دفعته إلى تجذير علاقات «القيادة العامة» بمختلف فصائل المقاومة والأحزاب التي مارست القتال، ولا سيما «حزب الله» و»الحزب السوري القومي الاجتماعي» حيث نفّذ الحزب مع الجبهة عدة عمليات مشتركة، وإلى التصلّب في عدم التراجع عن ذرّةٍ من حقّ فلسطين، ووقوف جبريل ندّاً وخصماً شرساً لياسر عرفات في رفض «اتفاق أوسلو»، محافظاً على علاقة وجودية مع الجيش السوري.
ومع بداية الحرب على سوريا في عام 2011، انحاز جبريل فوراً إلى جبهة الجيش السوري، ودافع عن دمشق كما دافع عن فلسطين، فخاضت «القيادة العامة» معارك ضارية مع جماعات المعارضة السورية المسلّحة والفصائل الإرهابية بشكل أساسي في جبهات جنوب دمشق ومخيم اليرموك، وعلى عدة جبهات في درعا والقنيطرة وحلب.
لم يورّث أحمد جبريل ابنيْه جهاد وخالد منازل وقصوراً يرتعان فيها. بل أورثهما مشروع حياة ينتهي بالموت من أجل فلسطين. جهاد، قاد وخطّط وشارك في الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وفي نقل السلاح إلى الداخل الفلسطيني وغزة، فطارده العدوّ واغتاله في بيروت من ضمن كوكبة من الشهداء الذين أرّقوا الاحتلال بتعاونهم في ما بينهم، أمثال الشهيد غالب عوالي، والشهيدين الأخوين مجذوب. أمّا خالد، فقاد قوات «القيادة العامة» في المعارك ضد الإرهابيين، وتعرّض لعدّة إصابات وكان في كلّ مرة يعود إلى أرض المعركة وجراحه لمّا تلتئم بعد.
مع أحمد جبريل، تكتمل صورة القائد وشخصية الإنسان الفلسطيني، الذي يقدّم أعزّ ما يملك، من عمره وحياته وأولاده ودمه من أجل أن تحيا بلاده. أحمد جبريل شراع في سفينة المقاومة.
فراس الشوفي
إضافة تعليق جديد