«نبيّ» جبران في السينما.. مزيج فنون
ما الذي يدفع مخرجاً وموسيقياً إنكليزياً في الواحدة والخمسين من عمره إلى تحويل نصّ أدبيّ صدر للمرّة الأولى باللغة الإنكليزية في العام 1923؟ إلى أي مدى يُمكن لنصّ أدبيّ كهذا، طرح أفكار لمؤلّفه تبدو اليوم عادية جداً، أن يُشكّل نواة لفيلم سينمائي يرتكز، أساساً، على الصُوَر والموسيقى؟ بهذا المعنى، هل يُمكن القول إن النصّ الأدبيّ هذا لا يزال قابلاً للقراءة والنقاش النقديّ، ناهيك عن تحويله إلى شريط من اللحظات الإنسانية، والمتتاليات البصرية المتعلّقة بأنماط الحياة اليومية، والحالات العاطفية، والانفعالات والأفكار والهواجس؟
بعد عامين على إنجازه، وفي العام الذي يشهد مرور تسعين عاماً على صدور النصّ الأدبيّ، بات يُمكن لهواة السينما مُشاهدة «النبيّ» للإنكليزي غاري تارن، المقتبس عن «نبيّ» جبران خليل جبران، بل الذي حوّل «نبيّ» جبران إلى فيلم مصنوع بصُور تعكس مضامين الأفكار، وبموسيقى تواكب المسار الذي أدركه المصطفى، الحبيب المختار، في رحلة البحث عن معاني الحياة والموت والعلاقات والتفاصيل. فيلم مشغول بوتيرة السرد (أداء صوتي للبريطانية ثاندي نيوتن) المترجم إلى لقطات مُصوّرة في لبنان ونيويورك ولندن وصربيا وميلانو، وإلى شريط موسيقيّ يُخفّف من حدّة السرد اللفظي (مع أن هذا الأخير عابقٌ بسلاسة القول، وجمال النبرة، وحُسن النطق)، ويُعين المُشاهد على اختراق تلك العوالم الجبرانية، التي تبدو اليوم عادية جداً. أقول «حدّة» السرد اللفظي، وأعني به تقنية نقل النصّ إلى الشاشة. كأن الصوت النسائي، مهما بلغت جماليته في القول، يبقى مشدوداً إلى مفهوم القراءة البحتة. بينما ثاندي نيوتن، والموسيقى (تأليف تارن نفسه، مستخدماً العالم الأوكسترالي، ومستعيناً بالـ«غيتار» والـ«تشيلّو» وقواعد المزج الموسيقيّ بين أنغام مختلفة) تمنح هذا الأداء الصوتيّ مكانته في التعبير عن أعماق الذات الإنسانية الباحثة عن خلاصها وسط غليان البيئات الاجتماعية، والتحوّلات الصاخبة.
النصّ الأدبيّ لجبران تحوّل سريعاً، غداة صدوره، إلى ما يُشبه الإيقونة. التأثّر الجبراني بنيتشه واضح. اللغة المستخدمة بسيطة، لكن الأفكار المطروحة شكّلت يومها إضافة نوعية تتيح للمتأثّر بها إمكانية تفعيل تمرّده على الثوابت المعمول بها حينها. الفيلم، بهذا المعنى، أخرج الأفكار من إطارها التقليدي، إلى رحابة العالم الراهن بضجيجه، وتمزّقاته، وأشيائه المعلّقة، وحكاياته الملتبسة. صحيح أن المشاهد المُصوّرة بدت ترجمة بصرية مباشرة لبعض هذه الأفكار (المحبة، الزواج، الأولاد، العطاء، إلخ.). لكن الأصحّ أن لقطات عديدة تجعل المُشاهد يظنّ أن الاستماع إلى النصّ الأدبيّ، ومشاهدة المتتاليات البصرية، والتمعنّ بالأنغام الموسيقية، دعوات ملحّة إلى تحرير النصّ نفسه من لحظته الآنيّة، ودفعه إلى تفسيرات أخرى: «البحث عن الجمال في كل يوم يمرّ»، أحد الركائز الفنية والدرامية للفيلم، الذي «يترك مسافة لكل مُشاهد كي يبحث عن تفسيراته الخاصّة». بهذا المعنى، يُقدّم «النبيّ» السينمائي حيّزاً خصباً بتمرين المخيّلة على استنباط الأشياء والتفاصيل من أعماق الصُور، ومن هناءة الصوت، ومن قوة الموسيقى في مواكبة هذه الرحلة الإنسانية المرتبكة والقلقة: «إنها عين فاسقة تراقب العالم عبر عدسة الحصافة الشعرية»، كما قيل في الفيلم.
اللافت للانتباه في «نبيّ» غاري تارن كامنٌ في قدرته على إثارة بلبلة إزاء آلية اشتغاله السينمائي. هذا نمط لم تعتده العين العربية. هذا شكلٌ لم يتآلف مع المتخيّل العربي. هذه طريقة أصيلة في غرب أتقن مزج الفنون بعضها ببعض، صانعاً منها ما يتجاوز الفن، وما يخرج من الإلهام، وما يُضيف إلى الوحي من براعة الابتكار. «نبيّ» تارن قدّم لـ«نبيّ» جبران خليل جبران فرصة البوح العصريّ عن مكنون ذاتيّ عاصف في أروقة الوعي المعرفي، وأزقّة اللاوعي المجنون في إعادة تركيب العالم وفقاً لطقوس أخرى.
نديم جرجورة
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد