ملوك بغداد
يتضمن هذا الكتاب مذكرات العقيد جيرالد دي غوري الذي عمل في المخابرات العسكرية البريطانية في العراق مدة ربع قرن (1924–1949)، ويروي تجربته في إنشاء جيش العراق والعمل مع ملوكه، ومواجهة الحكومة الألمانية في سوريا والانقلابات العسكرية في العراق، ويسجل مجريات جولة أجراها في الجزيرة العربية عندما عين وزيرا مفوضا لبريطانيا في العراق عام 1943.
بدأ العراق أوائل العشرينيات كيانا سياسيا فتيا، وإن كان له عمق تاريخي وجغرافي واقتصادي. وقد وصل المؤلف إلى العراق عام 1924 بواسطة إحدى السفن القادمة من مومباي الهندية إلى الخليج العربي، ومن هناك قدم البصرة.
كان العراق يضم الكثير من الهنود، بعضهم تجار ومرابون، وكان يقيم في الشمال منه نحو 100 ألف تركي، وفي شماله الشرقي يعيش الأكراد، وكان اليهود يؤلفون ثلث سكان بغداد تقريبا، وكان أول وزير للمالية يهوديا، وهناك أقليات أخرى مثل اليزيديين في الشمال، وكان المسلمون منقسمين إلى طائفتين.
وفي ظل هذا الوضع فإن اختيار ملك عربي غير معروف لدى العراقيين على اختلاف طوائفهم وأعراقهم مثل الملك فيصل، كانت مهمة شاقة. ولكن الملك كان شخصية مشهورة في الغرب، وقد وصفته التايمز مرة بأنه "منشئ الجيش العربي وصلاح الدين العصر".
وأجري استفتاء على الملك فيصل بين العراقيين وكانت نسبة المصوتين لصالحه 96%.
كان العراق لدى وصول الملك فيصل إليه عام 1921 بلدا متواضع الإمكانيات والبنى التحتية، فلم يكن في بغداد سوى ثلاثة جسور خشبية مثبتة على زوارق، ولم يكن ثمة أبنية ملائمة يستطيع الملك استخدامها لاستعماله الخاص. وكان في بغداد طبقة متوسطة محدودة من التجار ورجال الدين، وبعض الأسر المهمة مثل أسرة فؤاد الدفتري، ورفعت الجادرجي. وفي الأقاليم العراقية كانت تسيطر قبائل مثل ربيعة وشمر وعنزة والبابان الكردية.
وقد توج فيصل ملكا على العراق يوم 23 أغسطس/آب 1921، وحضر التتويج المندوب السامي البريطاني السير برسي كوكس، ورئيس أركان الجيش البريطاني إيلمر هالدين، وأعدّ المحامي البريطاني إدوارد بونهام كارتر دستورا للبلاد، وكان على الملك فيصل التوفيق بين القوميين العرب المتطرفين الذين كانوا يحيطون به وبين السياسة البريطانية.
وكان يواجه فيصل تحديات رئيسية، مثل الأتراك المعادين في الشمال والمعارضة الدينية الشيعية في كربلاء والنجف، والامتناع عن دفع الضرائب، ولأجل ذلك قاد مارشال الجو السير جون سالموند عمليات عسكرية عام 1923 ضد القوات التركية وضد الشيخ محمود الزعيم الكردي الذي كان يصر على استقلال كردستان. وللمحافظة على وحدة مملكته شكل فيصل قوة غير نظامية من أفراد العشائر لتمزيق جناح القوات التركية.
وبقيت كردستان ومناطق الجنوب مسرحا للتمرد والمعارضة طوال حكم فيصل، وواصل الوطنيون في بغداد معارضتهم للتدخل البريطاني، في حين اتخذ فيصل موقفا وسطا بين التيار الوطني والسياسات البريطانية.
كان فيصل مشهورا باقتباس الحياة الأوروبية، وهو من أول القادة العرب الذين أقبلوا على ارتداء الملابس الأوروبية، حتى أنه كان يعيب على إخوته لأنهم لم يحذوا حذوه.
ومن السياسيين البارزين الأثيرين لدى فيصل: رستم حيدر، وجعفر العسكري، ونوري السعيد، وكانوا يحضرون بين الفينة والفينة الاستعراضات العسكرية للشرطة والقوات العسكرية والكشافة وطلبة المدارس، وكان أهالي بغداد ينظرون إلى هولاء نظرة ازدراء لإقبالهم على العادات الغربية. وقد قتل رستم في مكتبه حين كان يشغل منصب وزير المالية، وقتل جعفر العسكري الذي كان يشغل منصب وزير الدفاع على يد ضباط من الجيش العراقي عام 1936.
وتزوج فيصل من حزيمة ابنة عمه، وكان له ثلاث بنات وولد "غازي" وأوكل الإشراف على تنشئتهم لمربية إنجليزية.
وكانت خطة فيصل في البداية هي إنجاز الاستقلال عن طريق تشجيع القوميين في المدن وكسب تأييد شيوخ العشائر وكبار المزارعين، خاصة أن مستوى الأمن في بغداد كان متدنيا، وكان فيصل يأمل إقامة وحدة مع سوريا بعد حصولها على الاستقلال.
وكان المخطط السياسي المكتوب للعراق يقوم على نظام برلماني كما هو مطبق في بريطانيا، ولكن الظروف الإقليمية والداخلية والسياسات البريطانية لم تساعد على ذلك، وهذا ما جعل الملك فيصل يشعر بالإحباط والضجر، وبدأ يتحرك ويضغط باتجاه الاستقلال، وأنجز لأجل ذلك مجموعة من المعاهدات التي أدت إلى الاستقلال بالفعل.
وبدأ العراق يتحرك لتصويب العلاقة مع كل من تركيا والسعودية وإنهاء حالة العداوة معهما بعد الغزو التركي للعراق عام 1922 والغارات السعودية بقيادة فيصل الدويش القائد القبلي الوهابي بين عامي 1926 و1929، واستطاع العراق بقيادة فيصل إنهاء العداوة وحل المشكلات القائمة وإقامة علاقات جوار ودبلوماسية مع جيرانه.
وأدت السياسات العراقية إلى انتحار أحد رؤساء الوزارات هو عبد المحسن السعدون الذي قتل نفسه في 1929 عندما أتعبته المحاولات لإرضاء الملك والبريطانيين والأحزاب السياسية العراقية، ونتيجة للضغط القومي الصارم.
ومن الذين كانوا يزورون العراق بين الحين والآخر الملك عبد الله الذي كان دافئا في معاملته مع الأجانب، وبقي محافظا على عاداته الشرقية، وكانت سياسته أكثر بساطة وتحديدا من مسلك فيصل، وكان شديد الملاحظة.
وفي أكتوبر/تشرين الأول 1932 انتهى الانتداب البريطاني على العراق، وأعلن المندوب السامي أن الحكومة البريطانية تؤيد عضوية العراق في عصبة الأمم.
ووقع عام 1933 في أثناء سفر الملك فيصل إلى الخارج تمرد "أثوري" واجهه القائد العسكري بكر صدقي بقسوة، ووقعت مذبحة بين الطرفين "الجيش والأثوريين"، وأثرت هذه الأحداث على صحة فيصل وحالته النفسية لدرجة أنه أبدى رغبة في التنازل عن العرش وتعرض لنوبة قلبية أدت إلى وفاته.
كان غازي يتمتع بشعبية كبيرة عندما كان وليا للعهد، وقد استقبل في الموصل بحفاوة كبيرة أثناء التمرد الأثوري، ومنح وساما لبكر صدقي القائد العسكري الذي قمع التمرد، وبعد ذلك بأسبوع أصبح ملكا على العراق، وكان في الحادية والعشرين من عمره. وبعد ستة أسابيع من توليه الملك تزوج ابنه عمه علي الملك السابق للحجاز، ودخل في مواجهة مع أعضاء حكومته أدت إلى استقالتها.
ولكنه بدأ بعد فترة قصيرة يفقد منزلته بين شيوخ العشائر وبعض أهل المدن بسبب سياساته وأفكاره وهروب شقيقته عزة مع خادم فندق واعتناقها الدين المسيحي.
ووقع عام 1936 انقلاب عسكري بقيادة بكر صدقي أثناء سفر قائد الجيش إلى تركيا وبالتعاون مع حكمت سليمان زعيم المعارضة، وبعثا برسالة إلى الملك غازي يطلبان فيها تشكيل وزارة جديدة برئاسة حكمت سليمان. وحاول وزير الدفاع جعفر العسكري التفاهم مع قادة الانقلاب ولكن الضباط المشاركين فيه قتلوه في الطريق بين بعقوبة وبغداد، ودخل الجيش العاصمة العراقية، وشكلت حكومة برئاسة حكمت سليمان، ولكن بكر صدقي بدأ يفقد احترامه بسبب عجرفته وسلوكه غير الأخلاقي، فأطلق أحد الجنود عليه الرصاص وأرداه قتيلا بعد تسعة أشهر من الانقلاب، واستقال حكمت سليمان من رئاسة الحكومة.
وانصرف الملك غازي إلى هواياته الخاصة، وأنشأ محطة إذاعية كان يديرها بنفسه، وكانت تبث برامج تسر الجمهور المحافظ وتهاجم الكويت والأمير عبد الله أمير شرقي الأردن، وتوفي في حادث سيارة يوم 14 أبريل/نيسان 1939.
ووقع انقلاب عسكري آخر عام 1938 أثناء حكومة جميل المدفعي بقيادة سبعة من الضباط ذوي النزعات السياسية، وعاد نوري السعيد إلى الحكم، واعتقل حكمت سليمان وحكم عليه بالإعدام.
اختير فيصل الثاني بن غازي ملكا على العراق بعد وفاة والده وكان طفلا صغيرا، فاختير الأمير عبد الإله بن علي بن الحسين وصيا على العرش، وكانت الحرب العالمية الثانية قد اندلعت، فأعلن عبد الإله قطع العلاقات مع ألمانيا وشكل حكومة برئاسة طه الهاشمي، وشغل نوري السعيد فيها منصب وزير الخارجية.
كان ثمة أربعة قادة سياسيين يتحدون عبد الإله، واستطاعوا السيطرة على الحكم عام 1941 ففر عبد الإله متخفيا من قصره ولجأ إلى السفارة الأميركية، ووضعت العائلة المالكة تحت الإقامة الجبرية في كردستان، ثم انتقل عبد الإله إلى الأردن وبرفقته نوري السعيد وجميل المدفعي.
واستطاع عبد الإله إدارة قوة سياسية من الخارج بدعم من بريطانيا أسقطت الحكومة الانقلابية، وعاد عبد الإله إلى بغداد وأعدم قادة الثورة.
وفي عام 1952 بلغ الملك فيصل الثامنة عشرة وتوج ملكا دستوريا، وعين عبد الإله وليا للعهد، وبدأت الحكومة العراقية والعائلة المالكة تتعرض لهجوم سياسي وإعلامي عنيف بعد وصول عبد الناصر إلى السلطة في مصر، ونشرت كتب عن مؤامرات لنوري السعيد وعبد الإله على حياة الملك غازي، ثم وقع انقلاب عبد الكريم قاسم عام 1958 الذي أنهى حكم العائلة الهاشمية في العراق.
يصف المؤلف يوم الانقلاب في مشاهدات ووقائع عاشها وعلم عن بعضها، فقد كان الجو السياسي المحيط في العراق ينذر بانقلاب عسكري وشيك، وقد وصلت معلومات بالفعل عن هذا الانقلاب وموعده، خاصة أن أحداثا كبرى كانت تجري في مصر وسوريا والأردن ولبنان، وكانت تلقي بظلال وتداعيات على الوضع في العراق، ولكن القيادة السياسية لم تأخذ تلك المعلومات مأخذ الجدية والاحتياط.
وينقل المؤلف رواية لأحد ضباط الأمن الكبار دون أن يذكر اسمه، وكان هذا الضابط من الثقات لدى رئيس الوزراء العراقي نوري السعيد الذي حذر من انقلاب عسكري يخطط له عبد الكريم قاسم.
كانت تجري ليلة الانقلاب تحركات عسكرية على أساس أنها قوات ستمر ببغداد في طريقها إلى الأردن لتنفيذ بنود اتفاق الاتحاد الأردني العراقي الذي تم قبل أشهر قليلة، وكان يفترض أن تكون هذه القوات بلا ذخيرة ولكنها زودت بها، وأطلق سراح الشيوعيين المعتقلين، ووزعوا لقيادة مجموعات شعبية وعسكرية تدعم الانقلاب شعبيا وسياسيا وعسكريا أيضا إن لزم الأمر.
كانت العائلة المالكة تعد للسفر إلى تركيا وأوروبا لأعمال رسمية ولقضاء إجازة، وفي صبيحة اليوم المقرر للسفر داهمت القصر قوة عسكرية وبدأت على الفور بإطلاق النيران، وبثت الإذاعة العراقية التي سيطر عليها الانقلابيون أن القصر الملكي محاصر، وبالفعل كان كذلك بعد دقائق قليلة. وقد عرض مرافقو الملك فيصل الثاني عليه فكرة تهريبه من القصر ونقله إلى مكان آمن، ولكنه رفض.
ونادى قادة الانقلابيين بأنهم يعرضون على العائلة مغادرة القصر بأمان والسفر إلى الأردن، وأبدى أفراد سرية الحراسة الخاصة بالملك استعدادهم للقتال حتى الموت، ولكن الملك رفض القتال واختار أن يخرج سلما ومعه من شاء من المرافقين والخدم، وأبدى نحو 20 شخصا من العائلة المالكة ومرافقيها رغبتهم في الخروج معا إلى الأردن، ولكن الانقلابيين أخلفوا وعدهم وأطلقوا النيران بكثافة على الملك ومرافقيه العزل فقتلوهم جميعا.
وحاول نوري السعيد الهرب ولكن أمره كُشف، وحاولت مجموعة من الأشخاص تعرفت عليه أن تقبض عليه لأجل جائزة مقدارها 10 آلاف دينار لمن يسلمه حيا أو ميتا، ولكنه دخل في مواجهة مسلحة ويائسة مع المجموعة وقتل.
الكتاب: ثلاثة ملوك في بغداد
- المؤلف: العقيد جيرالد دي غوري
- ترجمة: سليم طه التكريتي
- عدد الصفحات: 302
- الناشر: الأهلية للنشر والتوزيع, عمان
- الطبعة: الأولى 2006
إبراهيم غرايبة
المصدر: الجزيرة
إضافة تعليق جديد