" ماجدات "العراق من ليل بغداد الأسود إلى ليالي دمشق الحمراء
شهدت دمشق نزوح العراقيين إليها (وبكثرة ) بعد حرب الخليج الثانية , وقد أصبح هذا النزوح لافتا للأنظار بعيد الاحتلال الأمريكي للعراق , وشيئا فشيئا صار العراقيون يتغلغلون داخل المجتمع السوري بفعل عوامل عديدة منها على سبيل المثال لا الحصر الفعل الثقافي والزواج من السوريين, وكذلك من خلال مزاولة بعضهم لمهن عدة منها لا يروق للغالبية, لكن وطأة الحاجة قد لا ترحم غالب الأحيان . من هذه المهن إحياء ليالي دمشق الصاخبة , إذ من النادر أن يرى المواظب على السهر في الملاهي الليلية (وما شابهها) خلو عراقيات منها بغية ممارسة الطرب وأشيا ء أخرى يلهث خلفها قاصدوا تلك الملاهي من السوريين ومنافسيهم من عرب الخليج (وهم الأكثر حظوة لأسباب ليس ثمة من يجهلها) .
في ملهى " ط" وسط العاصمة السورية وعلى طاولة قريبة من حلبة الرقص تجلس سيدة عراقية على أبواب الخمسين من العمر تراقب بناتها وهن يؤدين وصلتهن الغنائية وسط نظرات ملتهبة لرجال يكادون يلتهمون تلك الأجساد المتمايلة مع صخب الموسيقا وإعجاب الحضور الذي لم يتوان بعضه عن رشق تلك الأجساد الغضة بما تيسر له من فئة "أ م الخمسمائة " و"الألف".
أقترب من السيدة العراقية, أسألها إن كانت من العراق , فتكتفي بالقول إنها من الموصل , أحاول أن أجرها إلى حديث بغية أخذ معلومات عنها مثل اسمها الحقيقي (من المعروف أنهن لا يفصحن عن أسمائهن الحقيقية سوى لرب عملهن) أ و أي شيء عن عائلتها في العراق أو طبيعة عمل زوجها إن كان حياً , غير أني لا أفلح ,إذ تكتفي بالقول بأنها" أم وائل " وفيما أنا أُعيد المحاولة معها عساها تلين وتستجيب لأسئلتي يأتي شخص , على ما يبدو أن له مكانة معتبرة في الملهى كما له وظيفة محددة , يهمس في أذنها ثم يشير لها بطرف عينه إلى شخص آخر يضع نظارات سوداء على عينيه , يجلس على طاولة منزوية , أنظر إلى الشخص الذي نال إعجاب واستحسان "أم وائل" يبدو في عقده الخامس , ماهي إلا لحظات وتنتهي الوصلة الغنائية التي كانت تؤديها الفتاتين (الأختين ) , ثم لتذهب أصغرهن سناً بصحبة الزبون ذي النظارات السوداء , من غير أن تنسى "أم وائل" لفت انتباه ابنتها في أن تكون لطيفة مع" الزبون" .
ليس المهم في مثل هذه الأماكن أن يكون صوت المغنية جامعاً لشروط الصوت فنياً بما فيه من طبقات كما ليس المطلوب منها أن تكون مثقفة موسيقياً , المهم بالدرجة الأولى أن تكون جميلة , وكلما كان عمرها صغيراً كلما كانت مرغوبة أكثر, بكلمة أخرى كلما كانت صالحة أكثر , والأهم من ذلك كله أن لا تكون عنيدة صعبة المراس بل عليها أن تكون لينة سلسة " كشربة الماء " , حسب تعبير أحد رواد الملهى من الذين صادفناهم هناك, وهذه الصفات و" المواهب" و " الخصائل" التي يجب على إحداهن التحلي بها ,أو ببعضها على الأقل , لا لشيء , فقط حتى تعرف كيف تلبي رغبات الزبون الذي يجب أن يكون بدوره صيداً وفيراً.
أقول لـ" أم وائل " التي تبدو سيدة صالونات محترفة و من الطراز الرفيع إني أرغب في رؤيتها مساء غد بغية إكمال محادثتي معها, تتمعنني جيدا ثم تعتذر بلطف , وتغادر الملهى مطمئنة على أن سهرتها لم تذهب سدى مع ابنتها الأخرى التي لم تفلح في صيد زبون ما يعني أن أجرتها لا تتجاوز الخمسمائة ليرة سورية . أسأل أحد موظفي الملهى عن ماهية العمل الحقيقي للعراقيات في مثل هذه الأماكن , بسرعة يدرك إنني صحفي فيحاول التملص من الإجابة , بعد قليل من الإلحاح يفيدني بأن السيدة "أم وائل" ليست من الموصل إنما من البصرة وزوجها كان ضابطا في الجيش العراقي وتوفي بعد حرب الخليج الثانية خلال إحدى الغارات الجوية البريطانية أو الأمريكية على العراق سنة 1995 ومنذ ذلك التاريخ و"أم وائل" تعيش في سورية مع ابنتيها , وحول اسمها الحقيقي ومكان سكنها (في دمشق ) يعتذر عن تقديم أية معلومة في هذا الخصوص مبررا تمنعه : " أخلاقيات العمل وطبيعة الشغل لا تسمحان لنا بالإفصاح بما يضر بمصلحة المتعاملين معنا ". أسأله لماذا اعتذرت السيدة عن إعطائي موعد لمساء غد ؟ يجيب : " ببساطة لأنك لا تبدو زبوناً ..المكتوب مقروء من عنوانه" , وحول الزبون الذي ذهبت معه الابنة (عمرها لا يتجاوز 17 سنة) يقول محدثي بأنه رجل من الكويت وهو موظف في إحدى بنوك الكويت يأتي كل صيف إلى سورية وهو من رواد ملهاهم " يلاحظ استغرابي فيبتسم ويغادرني منصرفا إلى عمله .
كان من الصعب علينا التصوير وعندما شاهد المشرف على الملهى المصور يحاول التقاط بعض الصور بوساطة الموبايل طلب منا الانصراف حالاً .
اشتغال العراقيات بالغناء أثار حنق "النوريات" السوريات وغضبهن , فهن يعتقدن أن العراقيات "بهدلوا" الفن , وليس الأمر كذلك إلا لأنهن سحبن البسا ط من تحت أرجلهن , فمن المعروف أن" النورية " لاتسلم قيادها لأي كان ولا بالسهولة التي يتمكن فيها الزبون من الوافدة ؛ "أم صبيح" نورية من ريف "حمص" تسكن مع ثلاثة من بناتها واثنين من أولادها الذكور في "حي تشرين " أحد أحياء المخالفات الشعبية التي تطوق العاصمة دمشق , تقول: " لقد ا نضرب سوقنا , لم نعد نجني من المهنة مثل الأوّل , قدوم العراقيات وسواهن وتعديهن على المصلحة أضر بنا وبعملنا" . لا تخفينا "أم صبيح " بأن دخلها العام الماضي مع بناتها قارب المليوني ليرة سورية , إلى أن تضيف أنها تمكنت من تزويج اثنين من أبنائها العام الفائت , ثم تلعن الحظ الذي أتى بالعراقيات وغيرهن إلى هذه البلاد .
لم يقتصر تواجد العراقيات المشتغلات بـ "الفن" على العاصمة , بل تجاوزها ممتدا إلى الكازينوهات المتناثرة في مناطق الاصطياف كمنطقة التل السياحية , ومعلولا ومرابع صيدنايا أو حتى الملاهي المترامية على طريق مطار دمشق الدولي .
"سمارة " عمرها (19) سنة من بغداد , تقيم مع عمها " رشيد" وأختيها "سها" و "نهلا"الأكبر منها سناً في شقة ذات أثاث معقول في منطقة الدويلعة القريبة من طريق المطار , تقول بأن عملها يبدأ في الساعة الحادية عشرة مساء , ما يعني أن عليها تجهيز نفسها منذ التاسعة مساء كي تغادر المنزل في العاشرة والنصف ثم لتعود إليه في الخامسة صباحا , وفي حال "وفقها " الله بزبون (التعبير لها) قد لا تأتي المنزل حتى عصر ثاني يوم , أسألها عن دخلها في الشهر وأين تصرفه ,غير أنها لا تجيبني مطلقا مكتفية بشكر الله والقول : " الحمد لله الشغل ماشي", لكن ومن خلال معرفتي بـ"سمارة " وعمها وأختيها بحكم مجاورتي لهم بالسكن(سابقا) أعلم أن العم " رشيد" يصرف قسماً لا بأس به على ملذاته الشخصية والقسم الآخر كان يرسله إلى ما تبقى من ذويهم في بغداد. في إحدى المرات سألت" سمارة " إن كانت سعيدة بعملها , فاكتفت بالنظر إلي نظرة لا معنى لها ثم نظرت إلى الساعة في يدها , قائلة وهي تنهض : "تأخرت .. اليوم عندنا ضيوف من الخليج " وكانت هذه الإجابة كافية لإبراز "فلسفتها" في الحياة .
عندما جاءت "سمارة" إلى دمشق كان عمرها عشر سنوات ,لا تعرف شيئا عن والديها أو عن أخوتها وأقاربها الآخرين , محيطها العائلي هو عمها"رشيد" وأختيها " نهلا" و" سها" , عندما بلغت ونضجت سرعان ما دخلت عالم النساء , وهي بالكاد تعرف عنه شيئا !! , وبمرور القليل من الوقت أصبح الأمر مألوفا لديها , ثم صار مهنة .
ليس حال العراقيات المتواجدات في سورية على سوية واحدة , سواء أكان من حيث الوضع المادي الذي يتجلى في منطقة السكن أم فيما يخص نوعية " الزبائن " فالمدام " ف . م " كما كانت تحب أن تسمي نفسها بعض الأحيان , ميسورة من الناحية المادية وتسكن في شقة محترمة في حي المزة (مزة أتوستراد) ولديها دخل ثابت من قبل إحدى الجهات فضلا عن أن زوجها المقيم في السويد يرسل لها بين الحين والآخر ما تحتاج إليه من مال إضافة إلى ما كانت تنتجه هي من خلال عملها (سابقا) في إحدى الصحف العراقية التي كانت تصدر في دمشق , غير أنها تهوى الملاهي الليلية لِما توفره لها من تغيير جو(حسب وصفها) , ولما تتيحه لها من فرص للتعارف مع : " أناس بيستاهلوا الواحد يسهر معهن ..مانا خسرانين شي " والتعبير لها.
الكثير من السيدات العراقيات اللواتي سلكن هذا الطريق نسجن علاقات عمل مع بعض الشبان السوريين الذين يعملون في خدمة الزبائن وتأمين الطلبات (بحسب وصف طلال . ن) لمهنة (القواد) ,
سألت طلال إن كان بمقدوره تأمين فتاة لي فأجاب : " لعيونك .. بنت آديش بدك إياها (أي كم عمرها) وسمرة ولاّ بيضة؟" فأجبته بأن اللون غير مهم لكن يفضل أن تكون صغيرة السن , أفاجأ في مساء اليوم ذاته بطلال ومعه فتاة لا يتجاوز عمرها (14) سنة , أخذ مني ألف ليرة سورية ورحل على أساس أن يعو د بعد ساعتين كي يأخذ الأمانة (حسب تعبيره , أي الفتاة) , ومن نافل القول أن المبلغ الذي أخذه طلال مني سيتقاسمه مع والدة الفتاة التي توسلت إلي وهي تبكي بمرارة بأن لا ألمسها قائلة لي بأنها لا تزال بنتا وأشياء أخرى , كانت تحدثني دون أن ترفع رأسها إليّ وحتى من غير أن تنظر في وجهي , كان معها منديلُ تمسح به دموع عينيها بين الحين والآخر , طمأنتها بأني لن ألمسها ولن
أقدم على فعل شيء لا يرضيها , عندما شعرت بأنها اطمأنت لِما أقول سألتها إن كانت تشرب "الشاي" فأومأت بالإيجاب , ونحن نشرب الشاي تعمدت أن أجلس بعيداً عنها , أصبحت أتأملها , كانت تبدو صغيرة في كل شيء عدا الحرقة التي تعيشها والمأساة التي تدرك أنها قدر لا علاقة لها في صنعه , قالت : " لست مسؤولة عن الظروف السيئة لوالدتي , أريد أن أتعلم مثل باقي البنات , أتمنى أن أدخل الجامعة عندما أكبر " , تمنت أشياء كثيرة تتمناها أي طفلة في سنها , سألتها عن والدها وماذا يعمل فأخبرتني بأنها لا تعرف عنه شيئا ولم تره في حياتها إلى أن تضيف بأن والدتها كانت تحدثها عنه عندما كانت تسألها منذ سنوات : لماذا ليس لديها أب كباقي الفتيات ؟ فيما بعد طلبت منها والدتها أن لا تسألها عنه من غير أن توضح لها سبب قرارها هذا . تقول الطفلة "زهور" إن والدها كان معلماً في بغداد , ولأسباب لا تعرفها , أخذه رجال صدام حسين إلى مكان ما ثم لم يعد الأب : " هكذا كانت تقول لي أمي " , بعد قليل تبكي "زهور " مجددا لتشتم صدام حسين وأمريكا وبريطانيا والعرب , رجتني الطفلة أن أوصلها إلى حيث تقيم مع والدتها في "مساكن برزة" , ونحن في الطريق أشارت لي إلى الشقة التي تسكن فيها في إحدى البنايات بمساكن برزة , لم تدعوني إلى الدخول , فقط اكتفت بشكري , أحسست بأنها صادقة بقدر ماهي بريئة . على باب غرفتي وجدت طلال بانتظاري والشرر يتطاير من عينيه , خاف في البداية من أن أكون قد نصبت له شركا ( مع الأمن الجنائي بالطبع) , معرفته فيما أقدمت عليه لم تخفف من حدة غضبه قائلا أن تصرفي هذا " يُفسد عليهم الشغل" ما يعني أن رزقهم ينقطع .
طفلة عراقية وحيدة من اللواتي قابلتهن تعيش حياة هانئة وسعيدة قياسا بمعاناة غيرها هي الطفلة " ياسمين " التي لا تعرف أحدا من أهلها العراقيين , تعيش " ياسمين " عند أرملة من ريف دمشق (تقيم حالياً مع أولادها في أحد الأحياء الشعبية في العاصمة) , كانت هذه الأرملة " أم سعيد " مربية أطفال (سابقاً), وكانت " ياسمين" من بين أطفال عديدين , أتى بها والدها الحقيقي (العراقي) إلى " أم سعيد" وهي ابنة سنة , كان يزورها مرة كل شهرين أو ثلاثة أشهر يطمئن عليها ويدفع للمربية أجرتها ثم يغيب إلى أن غاب ولم يعد نهائيا وبالتأكيد لا أحد يعرف عنه شيئا , ما دفع بـ "أم سعيد "إلى تسجيل الطفلة " يا سمين" على اسمها , وهي في عامها الثاني , سألت المربية لماذا لم تضع الطفلة في دار للأيتام , فأجابتني بلهجتها الريفية : " حرام .. أربيها أنا وأكسب حسنتها عند رب العالمين " , أصبح عمر " ياسمين" الآن عشر سنوات , وهي في الصف السادس الابتدائي , وكما ظهر لنا من خلال جلاءاتها إنها من المتفوقات في صفها , فقلما يخلو جلاء لها من شهادة امتياز أو ثناء من قبل إدارة المدرسة . لا تعرف " يا سمين" شيئاً عن حقيقة وضعها, لكن أبناء الجيران يقولون لها أحيانا بأنها ليست ابنة " أم سعيد" فتبكي مرددة بأنها ابنتها وهذا ما تقوله أيضا " أم سعيد" لأولاد الجيران وبعض أولاد أقاربها من الذين يحاولون إزعاج ابنتها " يا سمين " بمثل هذه الأمور ؛ ثمة نقطة لا فتة للانتباه ألا وهي أن الوضع المادي لـ"أم سعيد" ليس جيدا مع ذلك لم تشك أو تتأفف من أعباء إضافية قد تسببها لها تربية الطفلة " يا سمين" فالله هو الرازق والواهب كما تقول بلهجة ملؤها الثقة والإيمان عندما سألناها عن هذا الجانب , وفيما كنا نشرب الشاي كنا نسمع الابنة تنادي الموجودين من أهل البيت بـ" أخي أو أختي وطبعا أمي " .
إن معاناة العراقيات الموجودات في ليالي الغربة وصقيع المنافي والشتات أنى كان لا يختصرها تحقيق أو ريبورتاج , كما لا يخفف من حدتها ما كانوا يسمعونه من وصف صدام حسين لهن بالماجدات , لكن ربما كان في موقف السيدة "هيفاء" ذات السبعين عاما والمولودة في فلسطين لأب فلسطيني وأم أسبانية والمتزوجة من عراقي توفاه الله منذ خمس سنوات (لديها منه أربعة أولاد تلقفتهم أيدي المنافي), ذلك الموقف الذي تجلى في رفضها أن تفصح لنا عن بعض ما تعانيه أو أن تعلق على شيء مما كانت قد سمعته منا آثرة الصمت إزاء كل ما جرى ويجري للعراق بمن فيه (وبمن هجره) من عراقيين وعراقيات , وربما كان في صمتها ما يختزل مأساة عصر بأكمله , هذا مع العلم أن السيدة المذكورة تجيد ثلاث لغات عدا العربية , لكن ما نفع اللغة .. والكلام إزاء ما حصل ويحصل حسب قولها .
تحقيق : أُبي حسن
إضافة تعليق جديد