أسس الحوار بين الأديان
استجاب الدكتور جمال البنا، المفكر الاسلامي والبحاثة المعروف في القضايا الدينية والاجتماعية المعاصرة، لعدد من الاسئلة ارسلها اليه الدكتور بهي الدين الابراشي وهو محام دولي معروف، وطلب اليه الرد عليها لتكون موضوعاً لندوة حوار بين الأديان، تنظم في القاهرة. وقد رحب الدكتور البنا بفكرة الحوار هذه، وهو الذي خصص ابحاثه والعديد السديد من أوجه نشاطه، لدراسة الاسلام وغيره من الأديان، فله اكثر من مئة كتاب في الشؤون الاسلامية والنقابية والاجتماعية تتجاوز العالمين العربي والاسلامي. وقد وجدت انه من الواجب عليّ ان أتناول ما خطه يراع الدكتور جمال البنا في عرضه للحوار، لا سيما نحن نواجه كل يوم تقريباً في الصحافة العالمية والمحلية اخباراً عن الاسلام والمسلمين ينشرها من لم يفهم حقيقة الاسلام كما هي وكما تقدمها ابحاث الدكتور جمال البنا الرائدة في هذا الميدان، والتي تجعل منه، في نظر الكثيرين، من اصدق وأعمق واشمل الباحثين النهضويين والمجددين في الفكر الاسلامي منذ فجر الاسلام حتى اليوم. ويرى الدكتور جمال البنا ان الحوار بين رجال الأديان هو خطورة رائدة على الأديان من افواه وأقلام اصحابها المؤمنين بها، لا من افواه اعدائها، او ذوي الهوى والغرض، لا سيما وأن الانسان عدو لما يجهل وأن الناس يأخذون الدين بالوراثة والنقل لا بالدراسة والبحث من طريق العقل، ومن هنا يدعونا الدكتور البنا الى التعرف على الأديان من طريق الحوار وحسن الحوار واللقاءات الشخصية المباشرة بين المفكرين على اختلاف اديانهم، لأن كثيراً ما يؤدي لقاؤهم الى الانفتاح وحسن التفهم لما يبديه كل منهم. ونذكر بهذا الصدد ان الخليفة الأموي معاوية خاطب الشاعر النصراني الاخطل الكبير الذي كثيراً ما كان يتردد على ديوانه، قائلاً له: «إن نصرانيتك حببتني اليك». كما نذكر ان المستر ونستون تشرشل، رئيس وزراء بريطانيا اثناء الحرب العالمية الثانية وقد كان يكنّ كراهية لدولة الاتحاد السوفياتي ولرئيسها المارشال ستالين، قال بعد اجتماعه به في مؤتمر يالطا عام 1942: «ان ستالين رجل كبير، رجل عظيم الرؤية والبصيرة».
يدعو الدكتور جمال البنا الى وجوب الامتناع عن معالجة القضايا الدينية في جلسات الحوار لأنه يرى ان لكل دين عقيدته الخاصة ومقدساته وحساسياته، تجعل من الواجب ان لا ندخل في اطار المناقشات الجدلية، لأنها قد تؤدي الى تعميق الخلاف وزيادة الاختلاف. ويستشهد بالآية القرآنية الكريمة: «ولا تجادلوا أهل الكتاب الا بالتي هي أحسن، الا الذين ظلموا، وقولوا آمناً بالذي أُنزل اليكم، فإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون». وقد خاطب القرآن الكريم المسلمين: «يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم ولا يضركم من ضلّ اذا اهتديتم الى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم تعلمون». (سورة المائدة، الآية 105)
ويدعو الدكتور البنا الى وجوب عدم التورط في التفاضل بين دين وآخر، لأن هذا يمنع التقارب لا سيما وقد نهى القرآن اليهود والمسيحيين والمسلمين عن التفاضل، فقال: «وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون». (صورة البقرة، الآية 113)
فالدكتور البنا وإن كان يدعو الى اشتراك ممثلي المؤسسات الدينية في كل حوار والى عدم اغفالهم لئلا يقفوا موقف العداء، فإنه يدعو الى اشراك احرار الفكر الديني جنباً الى جنب مع ممثلي المؤسسات الدينية المشاركة في الحوار حتى يحدثوا شيئاً من التوازن والتعادل والانفتاح بين المتحاورين، ليصل الحوار الى غايته، دون المساس بالجانب العقيدي في الدين. ويكون غرض الملتقى المزمع عقده في القاهرة معالجة قضايا ذات صلة بالدين، وذات اهمية في حياة الناس الاجتماعية، من دون ان يكون عليها خلاف بين اهل الأديان. والقصد من ذلك دعم الايمان بالقيم الحضارية التي يقوم عليها الدين والتي تتعرض اليوم لهجمة عولمة لا تعمل الا في سبيل الربح والاستمتاع بالمكاسب والملذات وإثارة الغرائز والشهوات، كما تُستخدم القوة الغاشمة للابقاء على التخلف والفقر باسم الديموقراطية الزائفة التي تحول دون تقدم الشعوب.
ويرى الدكتور البنا ان هذه الهجمة تستشرف القضاء على التمسك بقضايا الانسان والالتزام بها ونحن نؤيد الدكتور البنا في ذلك لأن هنالك اكثر من 770 مليون بالغ في العالم من الأميين تشكل النساء ثلثيهم، كما ان في عالمنا العربي حوالى 70 مليون أمي ناهيك عن عدد الفقراء في العالم الذين يتجاوز عددهم مليار انسان مما يقل دخلهم عن دولار واحد في اليوم وهم يعيشون في افريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. ويرى الدكتور البنا ان الحروب هي أدهى الخبائث ويقترح ان يشكل ملتقى الحوار أممية جديدة مثل الأممية التي اقامها عمال اوروبا عام 1867، على ان تكون أممية إيمانية تضع الدين في خدمة الانسان وحرياته في كل مكان فتقف الى جانب منظمة الامم المتحدة وغيرها من المنظمات العاملة في خدمة الانسان لتزيد من الخدمات الاجتماعية والانسانية في كل البلدان.
وباختصار ما هي اسس هذا الحوار كما يراها د. جمال البنا؟
يعتبر الإسلام السيد المسيح رسولاً وليس الهاً ونرى نحن ان هذا كان عقيدة عدد كبير من المسيحيين الذين استماتوا في الدفاع عن ايمانهم المسيحي واستشهدوا في سبيله معارضين الحكام والأباطرة الوثنيين وأغلبهم من اتباع آريوس الذين آمنوا بالسيد المسيح انساناً عظيماً دون اعتباره الهاً وإنما هو ابن الله المخلوق قبل كل خليقة. وهذا ما يشكل تقارباً تاريخياً كبيراً بين المسيحية والاسلام على عكس اليهودية التي يذكر كتابها المقدس التلمود مجيء المسيح ورسالته ولا يحترم والدته مريم العذراء، الأمر الذي يدعونا الى المطالبة بفصل الانجيل المقدس عن التوراة اليهودية ما دام اليهود وكهنتهم لا يعتبرون السيد المسيح نبياً ولا رسولاً وإنما يرميه التلمود بأقبح العبارات والافتراءات. والسؤال هنا لماذا يقدس المسيحيون كتاباً يرفض اصحابه اعتبار المسيحية ديناً سماوياً حتى اليوم.
ويرى الدكتور البنا كما أشرنا ان النقاش في العقائد الدينية امر عقيم لأن المسائل الدينية ليست مسائل رياضية او مادية يصح فيها المنطق الحسابي والرياضي ولكنها ذات صفات مزاجية ونفسية، مشيراً الى ما جاء في سورة العنكبوت، آية 46: ...آمنا بالذي أُنزل إلينا وأُنزل اليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون». ويرى الدكتور البنا ان جوهر الأديان هو عبادة الله والعبودية لله وحده وأن تكون العلاقة بين الناس مبنية على الوصايا العشر ويرى كذلك ان الديانات الابراهيمية الثلاث قد خدمت قضية الانسان عندما عرفته على الله وقدمت الوصايا العشر التي تمثلها آيتان من سورة الانعام 151 و152. ومعنى الاسلام في اللغة العربية وفي القرأن هو اسلام القلب لله، وهذا جوهر الدين وبهذا المعنى كان المؤمنون من اليهود والمسيحيين والمسلمين مسلمين. وتأييداً لرأي الدكتور البنا أقول إن كلمة الثالوث لم ترد في الانجيل ولا في التوراة وإنما جاءت بقررات من المجامع الكنسية التي من اشهرها مجمع نيقيا الذي عقد عام 325 برئاسة الامبراطور قسطنطين الكبير الذي سبق واعتنق المسحية وقد نفى آريوس ومن وقف معه من الأساقفة وأُحرقت جميع كتبه وفُرضت العقوبات على جميع أتباعه، ولكن سرعان ما تراجع الامبراطور قسطنطين عن موقفه هذا ضد آريوس وأتباعه وعادوا يتمتعون بمنزله عظيمة عند ذلك الامبراطور ولكن ذلك ايضاً لم يدم وقتاً طويلاً. والمهم في هذا الأمر، ان نظرة الاسلام الى السيد المسيح لم تكن تتجاوز نظرة بعض الفرق المسيحية نفسها الى السيد المسيح، الأمر الذي يصب في مجرى التقارب التاريخي، بل التآخي بين الاسلام والمسيحية منذ فجر الاسلام، فالتقدير والتكريم الذي جاء في القرآن الكريم للسيد المسيح ولأمه العذراء مريم وللمسيحيين لم يرد مثله شيء لا في التلمود ولا في غيره من كتابات اليهود.
ويعزو الدكتور جمال البنا الاختلاف في العقائد الى ما اعترى النصوص المقدسة لليهودية والمسيحية من تحريف نتيجة الترجمات المتكررة او تحقيقاً لمصالح المؤسسة الدينية التي سيطرت على السلطة فترة طويلة من الزمن، ويقول إن الشرائع غير العقائد، فالشرائع تتناول الدنيويات التي تختلف من عصر الى عصر ومن شعب الى شعب وقد جاء في القرآن الكريم: ... «لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاًُ». (المائدة، آية 48) ويرى الدكتور البنا ان في ذلك ما يجمع بين الثبات والمتحول أي بين العقائد والشرائع.
مكرم سعيد حنوش
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد