سعد صائب: فارق الحياة وهو يمسك القلم
سعد صائب أديب معطاء ومفكر عميق، ومترجم دؤوب، وقارىء نهم، أمضى حياته الطويلة في صحبة القلم، ومعايشة الكتب..يكتب ويؤلف ويترجم، لم يشغله هاجس غير هاجس الكتابة، ولم تصرفه الوظيفة في وزارة الزراعة عن متابعة الأنشطة الأدبية، وممارسة هواية المطالعة، واصلاً النهار بالليل، والليل بالنهار، في عزلة محببة فرضها علىنفسه، ولولا ذلك لما ألّف وترجم ثمانين كتاباً، وخلف ثلاثين مخطوطة.
كان- كما يقول- «مصاباً بالأرق، يستيقظ حين ينام الآخرون في الثانية ليلاً، فلا يجد سميراً له ولا نديماً سوى القلم والقرطاس، فيكتب ويقرأ ساعات طويلة، في جو هادىء، بعيد عن صخب الحياة وضجيجها».
ولد الأديب سعد علي صائب في دير الزور في السابع عشر من تشرين الثاني عام 1914، وتلقى دراسته الابتدائية والاعدادية فيها، والثانوية في معهد «اللاييك» بدمشق، ثم انتسب الى جامعة القديس يوسف (اليسوعية) في بيروت، حيث درس اللغة العربية وآدابها.
عمل بعد تخرجه معلماً في الثانويات الريفية، ومديراً لمكتب وزير الزراعة ومديراً للمتحف الزراعي، وقد ظل في هذا المنصب حتى احالته الى التقاعد عام 1978، وعندما أسس الاستاذ الأديب عبد الغني العطري (1919-2003) مجلة الصباح الأدبية عام 1941، أخذ ينشر فيها بواكير انتاجه، ثم أخذ يكتب في مختلف المجلات السورية والعربية الراقية كالأديب والآداب والمعرفة والثقافة، والحديث، والضاد، والموقف الأدبي، والآداب الأجنبية ويحاضر في الأندية الأدبية والمراكز الثقافية، ويذيع الأحاديث في اذاعة دمشق.
أسس مع نخبة من الأدباء السوريين في شباط 1958 «جمعية الادباء العرب» وانتخب فيها أميناً للسر، وبقي في هذا المنصب حتى توقفها، وكان من أعضائها الدكاترة: إبراهيم الكيلاني، وشكيب الجابري، وعبد السالم العجيلي وبديع حقي، والشعراء: نزار قباني، ومدحة عكاش، وفؤاد العادل، وعبد الرحمن خزندار ويوسف الخطيب، وعدنان مردم بك، والأدباء: سعيد القضماني، وسعيد الجزائري، ومطاع صفدي، والأديبات وداد سكاكيني وإلفة الأدلبي، وطلعة الرفاعي، ومهيبة المالكي، وعناية رمزي، وهيام نويلاتي..كما انتخب عضواً في لجنة النثر بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية الذي تأسس إبان الوحدة وعضواً في اتحاد الكتاب العرب بدمشق منذ ان أسس عام 1969.
في عام 1978، أحيل الى التقاعد، فتفرغ كلياً للمطالعة والتأليف واصدار كتبه، وفي عام 1987 أقيم له في المركز الثقافي العربي بدير الزور حفل تكريم تحت رعاية محافظها، تكلم فيه كل من أنور الجندي ومدحة عكاش، وعبد المعين الملوحي، وعبد الغني العطري، وحسين حموي وجمال عبود، وفي الرابع من كانون الثاني 1996 أقامت له الأستاذة المحامية حنان نجمة حفل تكريم آخر في صالونها الأدبي تكلم فيه كل من: خيري الذهبي، وحسين حموي، وعيسى فتوح ويوسف عبد الأحد، والأديبة وداد قباني..كما انتخب عضو شرف في الاتحاد العالمي للمؤلفين باللغة العربية في باريس، ومنح شهادة الدكتوراه الفخرية، وعضواً في مؤتمر الشعر العالمي الدائم في بلجيكا، ونال عدداً من الأوسمة وشهادات التقدير عن مؤلفاته وكتبه المترجمة، في عام 1988 أسس جائزة سنوية باسم «جائزة سعد صائب» للشعر والقصة تمنح للأدباء الناشئين من محافظة دير الزور.
تدهورت صحة سعد صائب في السنتين الأخيرتين من حياته، وأضحى عاجزاً عن الحركة والخروج من المنزل(القبو) الذي كان يسكنه، ولم يعد بالامكان ان يعوده احد من أصدقائه، أو يتحدث اليه،وظل على هذه الحال الى ان وافته المنية في الثاني من شباط عام 2000، ورحل مأسوفاً على عطائه الأدبي السخي، وفكره النيّر، وأخلاقه الرفيعة، وصفاته الحميدة، وتهذيبه الجم، ووفائه وإخلاصه.
- قلنا إن مؤلفات الأديب سعد صائب وكتبه المترجمة بلغت ثمانين كتاباً وثلاثين مخطوطة لم تنشر حتى اليوم...واذا كنت لا أستطيع هنا احصاء عناوينها كلها، فحسبي ان أذكر أهمها وهي:
1-الكتب المؤلفة: طريق الخلاص، في ظلال الوعي، صراع مع الغرب، القبس الحي، آن الأوان، مع الفجر العربي، هذا العالم العربي، من مآثر العرب، خطرات فكر، الأخطل الصغير، دراسات أدبية في المجالين الابداعي والنقدي، شعراء وأدباء من الشرق والغرب، مرايا أدبية، صراع بين جديد شعرنا وقديمه، لم تمت الحقيقة، الشاعر الشهيد عمر حمد، صيحة في واد، ابتهالات لأدب جديد، قطرات ندى، خليل مطران في أروع ما نظم، شظايا (أفكار لكل الأيام) دور المثقفين في تجديد المجتمع، وهج الظهيرة،أضواء وظلال، في رحاب الأدب، دفاع عن المرأة، بلد الورد، قضايا ومواقف.
2- الكتب المترجمة: شعراء رمزيون وشعراء معاصرون، شعراء فنلنديون، هيولى، أشما، رجال للبيع ،شعراء من أمريكا الجنوبية، من أعمال لوقيانوس السميساطي، قضية ألدومورو، رسائل إلى شاعر ناشىء، ديوان الشعر الهولندي، الشجر والآلة، شعراء فرنسيون معاصرون، فن الشعر في قصائد شعراء العالم وكلماتهم، شعراء معاصرون من العالم، ديوان الشعر السويدي المعاصر، ديوان الشعرالاسباني المعاصر، حديث الفضاء في رياض الشعر العالمي، تقاسموا ضياعكم، أمّ، الغناء العميق وأغان غجرية، مختارات من روائع الشعر الفرنسي الحديث، في بناء الحضارة الانسانية عبر التاريخ..اضافة الى القصص والحكايات التي اقتبسها للأطفال ونشرتها له وزارة الثقافة.
ان القارىء يدهش حقاً حينما يطلع على هذا الفيض الزاخر من الكتب المؤلفة والمترجمة التي نشرها سعد صائب خلال أربعة وستين عاماً من حياته بدءاً من عام 1936 وحتى وفاته عام 2000، طبع بعضها على نفقته الخاصة في مستهل حياته الأدبية، ولما أصبح أديباً معروفاً أخذت دور النشر تتولى طباعة بعضها الآخر، متنقلاً فيها بين وزارة الزراعة، مكتبة النوري، دار مجلة الثقافة، دار الترقي، التوجيه المعنوي، دار الحياة، دار الفن الحديث العالمي، مكتبة أطلس، اتحاد الكتّاب العرب، وزارة الثقافة، دار طلاس، دار المعرفة، دار المجد، الندوة الثقافية النسائية، دار علاء الدين في سورية، ودار عويدات ودار الرائد العربي في لبنان.
ان هذه الغزارة في الانتاج الأدبي تأليفاً وترجمة، تدلنا دلالة واضحة على الدأب والجهد والمثابرة والسهر حتى ساعات الفجر، عاكفاً على العمل، وكأنه كان يريد ان يختصر الزمن، ويحرق المراحل، لا يهمه شيء من متاع الدنيا سوى ان يقرأ ويكتب ولا سيما بعد وفاة زوجته التي كانت تؤنسه، وبلوغ أولاده أهدافهم في الحياة.
ولو قارنّا بين أعماله المؤلفة والمترجمة، للاحظنا رجحان كفة الترجمة على التأليف، إذ كانت الترجمة أسهل عليه، يسعفه فيها اتقانه اللغتين العربية والفرنسية وهي لا تحتاج الىاعمال الفكر، لأن الأفكار فيها جاهزة وزاد على الترجمة في أخريات حياته (الاقتباس) والاعداد، وهذا دليل على أنه كان يتصرف كثيراً بالنصوص، ولا يراعي الأمانة العلمية، والدقة الشديدة ولا أدري في أي خانة نسلك هذا «الاقتباس» هل في خانة التأليف أو في خانة الترجمة؟.
لقد أفرد بعض كتبه لينثر فيها حكمه وآراءه وأفكاره ومواعظه، وخلاصات تجاربه في الحياة ومطالعاته ولا سيما بعد ان تقدمت به السن، مثل «خطرات فكر» و« قطرات ندى»و«أضواء وظلال»، و«شظايا-أفكار لكل الأيام»..منطلقاً من اعتقاده بأن «كلمة حكمة من أخيك، خير لك من مال يعطيك، لأن المال يطغيك، والكلمة من الحكمة تهديك»..وقد أهدى كتابه «قطرات ندى الى الحرية والحقيقة والخير والجمال والحكمة التي أحاط بشيء منها فأوتي خيراً كثيراً، وقال في مقدمة هذا الكتاب مخاطباً قارئه العزيز: «ثق بأنني لم أدخل عالمنا مزوداً بآراء جاهزة عما رأيته في أدبنا وحياتنا، ولي بفلسفة أحاول ان أخضع لها ما رأيت، بل عشت هاتين الحياتين أولاً وجربتهما فعرفتهما، وحاولت ثانياً ان ألائم بين الحياتين كما بلوتهما بخبرتي العملية، وبين فلسفتي كما كونتها بثقافتي النظرية..» وقد علق الدكتور ابراهيم الكيلاني (1916-2004) على هذه «الخطرات» بقوله:«لعل أجمل ما فيها أنها ليست وليدة نزعة عقائدية جامدة، بل هي لمحة خفيفة تارة، وجدية وقورة تارة أخرى، ولكنها في الحالين تتصف بالذوق السليم، والنظرة الصائبة، والأسلوب المركز القوي».
من أقواله في خطرات فكر:«دروب الحياة طويلة، أما درب الحقيقة فقصير يبدأ بالمحبة» و«علمتني الحياة ان من عاش صادقاً مع نفسه يظل صادقاً مع الناس»، و«ما كرهت الصوفية لتفانيها في حب الله، بل لتماديها في كره العقل» و«تحلو الحياة لديك حين تمسي سعيداً بمن حولك..»
- قلنا ان الاستاذ سعد صائب أولع بالترجمة الى حد بعيد، وخاصة ترجمة الشعر، فترجم لشعراء من فرنسا واسبانيا وهولندا وبلجيكا وفنلندا والسويد والصين وأمريكا الجنوبية، وغيرها من دول العالم، ليطلع من لا يجيد أية لغة أجنبية على الحركة الشعرية في العالم وأشهر أعلامها، وكان كثيراً ما يعمد الى التعريب ويتصرف بالنص الأصلي ليصوغه بلغة عربية جزلة ومشرقة، ويبعد عنه صفة الترجمة الحرفية التي تقتل النص، حتى ولو نقلت الأفكار بدقة، وأدت المعنى المقصود.
يقول الدكتور بديع حقي:«1920-2000) في مقدمة كتاب (شعراء رمزيون وشعراء معاصرون) الذي ترجمه سعد، وصدر عن دار (عويدات) في بيروت عام 1958«شاء الاستاذ سعد صائب ان يدخل غابة الشعر الفرنسي، ويأخذ من كل شجيرة ورد عذقاً يضمه الى باقته..فصرف عن الأوزان والقوافي، وهو يعرّب الموزون المقفى في نثر ناعم رقيق، ولعله ألفى ان النزهة المتمهلة في هذه الغابة المسحورة بالنور أمتع عنده وأسهل لديه..لقد كان هدفه ان يدل على المعاني التي انتظمت في تلك القصائد، ليستروح القارىء في «قبسها الحي» سحرها وروعة دلالتها، ولئن رغب عن الأوزان والقوافي في التعريب، فقد عرف بما لديه من ألفاظ طيعة منتقاة، ان يغري معانيها في قصائده المعرّبة بألفاظ قشيبة..».
أما الشعراء الذين اختارهم في هذا الكتاب الصغير وترجم -أو عرّب- نماذج من قصائدهم فهم: بودلير، فرلين، مالارميه، جان مورياس، ألبير سامان، إميل فرهارين، سولي برودوم، بول فاليري، بول جيرالدي، ليون موسيناك، بول ايلوار..وكشاهد على تعريبه ولا أقول ترجمته، أنقل المقطع الأول من قصيدة «نهم لبودلير» الذي يقول فيه: «دعيني أستف طولاً عبير غدائرك السود/وأغرق في خضمها وجهي/ كما يغرق الظمآن في ماء الينبوع/ دعيني ألوح بها، كالمنديل العطر/ علي أثير ذكرياتي، وأهزها في رحب الفضاء!.».
- أصدر سعد صائب جملة كتب تناول فيها عدة قضايا أدبية، وطائفة من أعلام الادب العربي الحديث منها:«مرايا أدبية»، «دراسات أدبية في المجالين الابداعي والنقدي و«شعراء وأدباء من الشرق والغرب»و«صراع بين جديد شعرنا وقديمه» و«في رحاب الأدب» وغيرها.
كان ممن تناولهم في كتابه «دراسات أدبية»: الياس فرحات، الشاعر القروي، أورخان ميسر، نظير زيتون، د.شكيب الجابري، وهيب دياب، جورج صيدح، د.عبد الكريم اليافي، غالي شكري..وقد برهن في هذه الدراسات الجادة على أنه ناقد ممتاز، ومن الفئة المؤمنة بأن النقد ليس كيلاً لمديح أو ذم، ولكنه دراسة واعية للأثر الأدبي، وتقديم له الى القراء وعرض موضوعي للايجابيات والسلبيات فيه، واسهام في حث الاديب على مطالعته ، ان كان لم يطالعه، واختصاره لأهم ما فيه ان كان يريد ان يجتزىء باللمحة عن الاسهاب او يكتفي بالصورة المختصرة في صدق وأمانة عن مطالعة الكتاب.
كما برهن أيضاً على أنه قارىء ممتاز من الفئة المؤمنة بأن الثقافة جد ودأب وعمل، فالكتب الكثيرة التي درسها، والقضايا الأدبية التي تعرض اليها وعالجها، تدل دلالة واضحة على مدى ما كان يتمتع به من ثقافة عميقة وواسعة وشاملة، كانت شغله الشاغل طوال حياته.
وخير ما أختم به هذه الدراسة قول صديقه عبد الغني العطري فيه:«سعد صائب كاتب مخلص لأدبه، متفرغ له، وفيّ لرسالته، الادب هوايته الكبرى، وعشقه الوحيد،وغذاؤه العقلي، بل هو طعامه وشرابه، ولهوه ومرحه، فهو لا يمارس ولا يعرف أية هواية سوى المطالعة والكتابة.»
وقوله:«إنه في طليعة الادباء العرب غزارة انتاج، وصفاء ذهن، وعمق تفكير..وهو الى ذلك، مولع بالآداب الأجنبية بشكل عام، الى جانب اهتمامه بالآداب العربية، ويخص الشعر العالمي بكثير من عنايته، فيترجم منه ما يروق ويحلو له.»..
المصادر:
1-عبد الغني العطري-أعلام ومبدعون-دار البشائر-دمشق 1999.
2- الدكتور بديع حقي- مقدمة كتاب شعراء رمزيون وشعراء معاصرون- دار عويدات- بيروت 1958.
3-عبد المعين الملوحي-مقدمة كتاب دراسات أدبية في المجالين الابداعي والنقدي- مكتبة أطلس-دمشق 1975.
عيسى فتوح
المصدر: البعث
إضافة تعليق جديد