نحو "ثورة ثقافية" عربية جديدة

03-11-2012

نحو "ثورة ثقافية" عربية جديدة

الجمل- قسم الترجمة- آليستير كروك- ترجمة: د. مالك سلمان:
تتخذ "الصحوة" منحىً جديداً مختلفا تماما عن الوعود الحماسية التي قدمتها في البداية. فبعد أن خرجت من النبض الشعبي العريض, أخذت تتبدى الآن بصفتها "ثورة ثقافية" مناهضة للثورة – إعادة صياغة ثقافية للدين في اتجاه شريعة أَمرية تعمل على تفريغ تلك الآمال الكبيرة الجنينية و تهزأ من توصيف الغرب المستمر لها بصفتها مشروعاً إصلاحياً و ديمقراطياً.
فعوضاً عن توليد الأمل, يفسح تحولها اللاحق المجالَ لمزاج من الريبة و اليأس – وبشكل خاص بين ما يسمى ب "الأقليات" – بكلمات أخرى, غير السنة. و ينبع هذا الخوف من مشروع بعض دول الخليج المنكب على فرض تفوق سني إقليمي – وربما هيمنة مطلقة – عبر دعم التطرف السني المتصاعد والتثقيف السلفي.
هناك الآن سبع دول شرق أوسطية على الأقل ترزح تحت صراعات مريرة و عنيفة بشكل متزايد؛ إذ إن دولاً مثل لبنان و مصر و ليبيا و البحرين و اليمن على حافة التفكك. ولم تعد الدول الغربية تخفي هدفها في تغيير النظام في سورية, بعد ليبيا و التغيير "الذي لم يغير النظام" في اليمن.
تعيش المنطقة الآن حالة من الحرب الهادئة: تبدو السعودية و قطر, مدعومتين من تركيا و الغرب, جاهزتين للمضي حتى النهاية في استخدام كل أشكال العنف لإسقاط رئيس دولة عربية أخرى, هو الرئيس بشار الأسد, وإلحاق أكبر قدر من الأذى بإيران.
يؤول الإيرانيون مزاج السعودية على أنه تضور للحرب؛ و غالباً ما يتمتع رجال الدولة الخليجيون بنوع من الهستيريا و العدوانية: فقد جاء في مقالة حديثة لرئيس تحرير صحيفة "الحياة" التي يملكها السعوديون: "يشير المناخ السائد في مجلس التعاون الخليجي أن الأمور تتجه نحو مواجهة خليجية-إيرانية-روسية على أرض سورية مشابهة لما حدث في أفغانستان أثناء الحرب الباردة. من المؤكد أن القرار قد اتُخذ بإسقاط النظام السوري بصفته عاملاً حيوياً في الهيمنة الإقليمية لجمهورية إيران الإسلامية."
لقد تم إحباط وامتصاص ذلك النبض الشعبي الحقيقي الذي برز في بداية "الصحوة" في ثلاثة مشاريع سياسية رئيسة مرتبطة بمشروع فرض الهيمنة على المنطقة: مشروع الإخوان المسلمين, و مشروع سعودي-قطري سلفي, و مشروع سلفي متطرف. لاأحد يعرف بالضبط طبيعة مشروع الإخوان, فيما إذا كان مشروعَ طائفة أو مشروعاً شاملاً, وقد نشأت عن هذه الضبابية مخاوفُ حقيقية.
ففي بعض الأحيان يقدم الإخوان وجهاً براغماتياً, بل حتى متكيفاً, للعالم, لكن أصواتاً أخرى في الحركة تنفث بشكل خافت شيئاً أقربَ إلى البلاغة السلفية الحرفية التي تنطوي على الهيمنة. لكن الواضح هو أن نغمة الإخوان في كل مكان تشي, بشكل متزايد, بالتظلم الطائفي المتطرف. ويمكن سماع هذا الزعيق بوضوح في سورية.
تم تشكيل المشروع السعودي-السلفي لمواجهة مشروع الإخوان: فقد كان هدف السعوديين من تمويل ودعم السلفيين المرتبطين بالسعودية في المنطقة احتواء و مواجهة تأثير الإخوان (كما في مصر, مثلاً) و تقويض هذا النوع من الإسلام الإصلاحي الذي ينظرون إليه بصفته خطراً وجودياً على الحكم الفردي الاستبدادي المطلق في دول الخليج: إصلاح يهدد السلطة المطلقة لأولئك الملوك و الأمراء.
تتبع قطر نهجاً يختلف بعض الشيء عن الخط السعودي. فبينما تعمل قطر أيضاً على دعم و تسليح الحركات السنية المتطرفة, فإنها لا تعمل بهذا القدر على احتواء و تقويض الإخوان, على النمط السعودي, بل على شرائهم بالمال و استيعابهم في ذلك التحالف السعودي-القطري لتشكيل قوة سنية يكون بمقدورها احتواء إيران.
من الواضح أن الإخوان بحاجة إلى تمويل خليجي لتحقيق هدفهم في احتلال المقعد الرئيسي على طاولة السيطرة على المنطقة؛ ولذلك كلما كانت لغة الإخوان تظلمية و طائفية, كلما ازداد الدعم القادم من الدولتين الوهابيتين, قطر والسعودية.
"المشروع" الثالث (التطرف السني), والمدعوم بقوة أيضاً من السعودية وقطر, يشكل طليعة هذه "الثورة الثقافية" الجديدة: لكنه لا يهدف إلى احتواء العقيدة السنية التقليدية بل إلى استبدالها بالثقافة السلفية. وعلى النقيض من الإخوان, ليس لهذا العنصر - الذي تتعاظم قوته بفضل تدفق الدولارات الخليجية – أية طموحات سياسية داخل الدولة-الأمة بحد ذاتها.
يحتقر هذا المشروع السياسة التقليدية لكنه, مع ذلك, سياسي بشكل متطرف: فهو يهدف إلى استبدال العقيدة السنية التقليدية بالقناعة المطلقة الضيقة المبنية على الأسود والأبيض, والصواب والخطأ, المتجذرة في الوهابية السلفية – بما في ذلك تأكيدها الخاص على السلطة المتأسسة والشريعة. وتذهب عناصرُ أكثر تطرفاً إلى أبعدَ من ذلك وتتصوَر مرحلة لاحقة تعتمد على احتلال مناطق جغرافية والسيطرة عليها من أجل تأسيس إمارات إسلامية حقيقية تقود في النهاية إلى "الخلافة".
هناك نقلة ثقافية و سياسية كبيرة في طور التشكل: تحويل الإسلام السني التقليدي إلى العقيدة السلفية, أي حَرف الإسلام التقليدي عن التعددية والتعايش التاريخي مع الطوائف والإثنيات الأخرى. إنها عملية تضييق وانكماش على يقينية الصواب والخطأ, وفَرض هذه "الحقائق" على المجتمع: إذ ليس من قبيل المصادفة أن تلك الحركات التي تسعى إلى السلطة السياسية, في هذا الوقت, تسعى للإمساك بوزارات الثقافة والتعليم, عوضاً عن وزارات العدل أو الأمن.
إن الدوافع التي تحرك هذه الدول الخليجية في غاية الوضوح: تهدف الدولارات القطرية-السعودية, مدعومة بزعم السعوديين أنهم ورثة قريش (قبيلة النبي), إلى حَرف "الاضطرابات" السنية بطريقة تستعيد معها الملكيات المطلقة في الخليج "شرعيتها" من جديد وتعيد فرض قيادتها من خلال انتشار الثقافة السلفية – في تبجيلها للسلطة المتأسسة, وخاصة الملك السعودي.
تاريخياً, أثبت بعض السنة المتطرفين, الذين يتلقون الأموال السعودية, أنهم من المجموعات الأكثر عنفاً وحَرفية وخطراً – على المسلمين الآخرين كما على أولئك الذين لا يؤمنون ب "حقيقتهم" الخاصة. وآخر إطلاق كبير لهذه الأدوات كان أثناء الاحتلال السوفييتي لأفغانستان, والذي لا تزال نتائجه ماثلة أمام أعيننا اليوم بعد عدة عقود.
لكن كل هذه المشاريع, التي يمكن أن تتقاطع بشكل رئيسي, تتنافس مع بعضها البعض. وكلها, في جوهرها, مشاريع "سلطوية", أي أنها مشاريع تهدف إلى الاستحواذ على السلطة. لذلك لابد أن تتصادم في النهاية: السنة ضد السنة. وقد بدأ هذا الصدام في المشرق, وبشكل عنيف أيضاً.
اليوم, يتم إطلاق السلفية السعودية والسلفية المتطرفة في اليمن والعراق وسورية ولبنان, ومصر وشمال أفريقيا والصحراء ونيجيريا والقرن الأفريقي. لا عَجَب, إذاً, أن روسيا قلقة: فمن غير المحتمل أن تبرهن آسيا الوسطى أنها منيعة أمام هذه الموجة. فقادتها يتذكرون بشكل جيد التأثير على الساحة الخلفية لروسيا, تلك "الاضطرابات" المبكرة المرتبطة بأفغانستان.
إنهم يجدون صعوبة في فَهم السبب الذي يدفع الأوربيين إلى "تجاهل" ما يحدث مقابل "المتع" المحلية الزائلة في تصويرهم على أنهم "يُسقطون الحكام المستبدين", في الوقت الذي يحدث فيه هذا الاضطراب الجديد المتطرف عبر الشرق الأوسط وأفريقيا وبشكل مبدئي في آسيا الوسطى, في منطقة المتوسط.
كما أن لهذه النقلة بعداً آخرَ أشار إليه وزير الخارجية التركي منذ أكثر من سنة: قال الوزير إن "الصحوة" تعلن نهاية فصل تاريخي من الانقسامات التي فرضتها القوى العظمى على المسلمين عندما قامت بتفتيت وتقسيم المقاطعات القديمة للحكم العثماني [السني]. فقد رأى أحمد داوود أوغلو "الصحوة" على أنها, بشكل رئيس, "التقاء" للمسلمين من جديد – "إبطال" لتفتيت تاريخي.
لا عَجَبَ أن نسمع اليوم, وبشكل متزايد, حول موضوع المجتمع الإسلامي واستعادة الفضاء السني. لم يذكر داوود أوغلو كلمة "أمة", أو مجتمع المؤمنين, لكن الكثيرين يرددون هذه الكلمات اليوم. وهذا خطاب يُخيف الكثيرين في المنطقة الذين لا يرغبون في تسميتهم, أو معاملتهم, على أنهم "أقليات", حيث يضحون بهويتهم الذاتية بصفتهم مواطنين متساوين – مع كل الأصداء المخيفة للهيمنة الإسلامية السنية العثمانية.
هذه النقلة الثقافية نحو إعادة تَخَيُل كيان سياسي إسلامي أوسع (لا أحد يقترح الآن حَلَ دولته القومية, على الرغم من أن رئيس وزراء تونس قد قال إنه يستشرف بداية "الخلافة الرابعة") تحمل مضامينَ هامة بالنسبة إلى الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي أيضاً.
في السنوات الأخيرة كنا نسمع الإسرائيليين يصرون على مطلبهم بالاعتراف بدولة قومية يهودية, وليس بدولة إسرائيلية بحد ذاتها؛ دولة يهودية تبقى – من حيث المبدأ – مفتوحة لكل يهودي يسعى إلى العودة: خلق "أمة" يهودية, إذا صَحً التعبير. ولدينا الآن, على ما يبدو, في النصف الغربي من الشرق الأوسط على الأقل, ميلاً مماثلاً يطالب في إقامة أمة سنية كبيرة, أمة تمثل "إبطالاً" للبقايا الأخيرة للحقبة الكولونيالية.
ماذا سيعني هذا بالنسبة إلى فلسطين؟ هل ستتأثر مطالب الفلسطينيين الشرعية بإقامة دولة قومية أيضاً بسبب هذا التوجه الثقافي نحو أمة إسلامية أوسع وكيان سياسي أكير؟ هل سنرى الحقوق الفلسطينية, المستندة إلى مفهوم الدولة القومية, تتحول بشكل تدريجي إلى طموح إسلامي فوق-قومي واضح؟ وهل سنرى الصراع يتحول بسرعة متزايدة إلى صراع بدائي بين الرموز الدينية اليهودية والإسلامية – بين الأقصى وهيكل سليمان؟
يبدو أن إسرائيل والمناطق المحيطة بها يسيرون, جنباً إلى جنب, نحو لغة تنأى بهم بعيداً عن المفاهيم الأساسية العلمانية التي تم من خلالها خلق المفاهيم المرتبطة بهذا الصراع بشكل تقليدي. ماذا ستكون النتيجة عندما يصبح هذا الصراع, بمنطقه نفسه, صراعاً بين قطبين دينيين؟
يمكن أن تبدو هذه الصورة قاتمة للبعض, وربما تنطوي على شيء من الخطر, لكن ذلك مقاربة الشرق الأوسط, في أغلب الأحيان, دون أي فهم حقيقي؛ دون أي اهتمام بالقانون الدولي, ودون الالتفات إلى ميثاق الأمم المتحدة, ودون إعطاء أية أهمية لحقوق الأمم في تقرير مصيرها بنفسها.
إن التوقعات الغربية المنتفخة وغير المنطقية كانت تقود دوماً – عندما تنفجر- إلى المطالبة الدائمة ب "ضرورة القيام بشيء ما", والتي تعني الآن أن "شيئاً ما يتم" من خلال تجاوز القانون الدولي, والسيادة والأمم المتحدة, شيء "أورويلي" يُمليه تجَمُع تحت اسم "أصدقاء ..." يختار أعضاءَه اللاعبون أنفسهم – وذلك بغض النظر عن خطورة نتائج هذا "الشيء الما".
أصبحت سوريا الآن بوتقة هذه المخططات القسرية الكريهة؛ مع تعريف الأحداث في سورية بواسطة هذه القوة الخليجية الضخمة والفعالة بهدف بناء "الشرق الأوسط الجديد" الخاص بهم, وليس بواسطة سرد تبسيطي عن الإصلاح مقابل القمع, مما يحرف سورية عن سياقها الهام.
لم يعُد الكثير من السوريين اليوم ينظرون إلى الصراع على أنه متعلق بالإصلاح – مع أن جميع السوريين يتطلعون إلى الإصلاح – بل بقتال بدائي أساسي للحفاظ على فكرة سورية نفسها, هوية ذاتية متجذرة بعمق وسط مخاوفَ تلامس الأعصابَ المتورمة الأكثر حساسية في العالم الإسلامي. لذلك ليس من المستغرب للكثير أن مطلبَ الأمنَ يغطي على مطلب الإصلاح الآن.
من المؤكد أن المنطقة تدخل الآن في صراع كبير وقاس لتحديد هوية مستقبلها, ومستقبل الإسلام أيضاً. لكن هذه المرحلة لن ترسم هذه الهوية إلى الحد الذي يعتقده (أو يأمله) البعض: فمع أن الخليج قد اندفع نحو غاياته بكل السبل الممكنة, إلا أنه ضعيف أيضاً.
يمكن للملك السعودي أن يطمح إلى توحيد العالم السني حسب رؤيته هو, لكن من غير المرجح أن ينجح في مسعاه: فالحقد الكبير الذي يكنه للأسد لا يعمل على توحيد المنطقة, بل يزيد من توترها, كما أن الانكفاء إلى العقيدة السنية المتطرفة يقود إلى صراع عنيف في دول عديدة: ففي المشرق و ما بعده, يعمل هذا الانكفاء على ضرب السنة ببعضهم البعض.
لم تكن الهوية التي رسمتها سورية لنفسها, مثلها مثل العديد من دول المنطقة الأخرى, هوية طائفية قط, لكنها كانت متجذرة في الانتماء لإحدى أعظم الأمم في المنطقة مع "نموذج مجتمعي" يتمتع ب "حرية دينية وتسامح ديني أكبر بكثير ...مما هو متوفر في أي بلد عربي آخر".
لم يكن السوريون ينظرون إلى أنفسهم على أساس الطائفة. إذ إن العصبية الطائفية على النمط الوهابي شيء غريب بالنسبة إلى المشرق, وحتى إلى المشرق السني. إننا نشهد الآن, في مصر على سبيل المثال, مقاومة لحركات تدفعها اعتبارات طائفية – حتى من قبل أولئك الذين ينظرون إلى أنفسهم كإسلاميين. فهم لايبحثون عن نوع آخر من أنواع السجون. ويتم طرح السؤال التالي: هل انتقل الإخوان من "الصَبر" إلى "الهيمنة"؟ هناك إحساس الآن بأن شيئاً قد ضاع بشكل تام: فمع كل هذا التثقيف السلطوي, أين ذهب كل ذلك الحماس الثوري والإصلاحي الحقيقي؟

الجمل- قسم الترجمة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...