ملف عن غياب الشاعر محمود درويش (3)

11-08-2008

ملف عن غياب الشاعر محمود درويش (3)

محمـود درويـش: آن لـي أن أعـود! 
 هاتف الوداع:
سأهزم الموت بالموت!
قال محمود درويش: لم اشأ ان اغادر من دون ان أودعك... لقد حسمت أمري وقررت ان أواجه الموت، مرة اخرى...
نضح القلق في صوتي وأنا احاول فتح باب النقاش مجدداً: ولكن الأطباء في بيروت قد نصحوك
ـ أعرف، وكذلك الأطباء في فرنسا... لكنها معركتي!
قلت: هذه معركة غير متكافئة.
ـ أعرف، وأعرف أيضا أنه لا بد منها. لم أعد أطيق مواصلة هذا التحدي. لقد سئمت ان أعيش في قلب موتي. أتعرف، من الممتع أن تنازل الموت، ولكنك في لحظة ما ستكتشف ان لعبتك مفضوحة. ان تعرف انه يعرف انك تعرف النتيجة، وأنك تعابثه.
ـ ولكنك يا محمود لست فرداً لتقرر وحيداً ما يشترك معك الناس فيه...
قاطعني: اعرف ما سوف تقوله، لست ملك نفسك، وليس لك ان تقرر. تصور: أنا ملكية عامة! في كل تصرفاتي عليّ الا اكون أنا.
انتبه! يجب الا تقبل وردة من تلك الحسناء. انتبه! أنت تمثل القضية فلا يجوز ان تضحك بصوت عال! ويجب ان يكون كلامك مدروساً. لقد بلغ الامر ببعض الناس ان استنكروا ذهابي الى مدينتي، بحجة انها صارت تحت الحكم الاسرائيلي! ونسوا انني حتى حينما اكون في رام الله فأنا تحت الحكم الاسرائيلي! لن اتحدث عن الدول الاخرى... ثم انني عشت نصف عمري تحت هذا الاحتلال، وأنا اكثر من يعرفه بينكم جميعا، حتى لا اقول انني احد القلائل الذين يعرفونه حقا.
ـ بل أردت أن أحدثك عنك بوصفك ملكية خاصة لمحمود درويش... لقد حذرك الأطباء من ان اي جراحة قد تحرك الوحش الكامن في شرايينك!
قاطعني ضاحكا: حتى الكولسترول عند محمود درويش مختلف
ـ انه مثلك، جبار! ألست جباراً علينا جميعا
ـ ولكنه جبار عليّ فقط! انه يفرض عليّ التحدي بين ان اعيش أسيره ما تبقى من عمري وبين ان أهزمه ولو بالموت.
ـ كأنك تتحدث عن الانتصارات العربية التي يقدم فيها هدايا مجانية الى اسرائيل.
وختم محمود درويش مكالمته الوداعية بأن قال انه لن يبتعد عن مكانه لانه منذ زمن طويل بات يعيش خارج المكان والزمان لان شعره صاره...

طلال سلمان


ودّع أصدقاءه ولم يعتذر
شاعر الأوذيسّة الفلسطينية

هذه المرة لن يكتب محمود درويش جدارية أخرى. لن يخدع الموت الذي طالما خرج منه ناجياً من عاشق مثله في الوقت الضائع وما بعد الحياة، يدرك ان الموت خصه كما خصته الحياة. لم يخطفه. ضرب له موعداً عرفه وسار إليه بقدميه. لم تكن تجربة درويش مع الموت سوى صورة موازية للصراع. إذا كان شعر درويش هو شعر الخيار الوحيد فإن الموت على سن هذا الخيار. لطـالما غنى درويش شهداء القضايا الخاسرة، والأرجح انه كــان يعــرف ان في سيره إلى موته ذروة في هذا الغناء، انها القصــيدة غير المكتوبة التي أتمها بجسده. ســيكون جســده عندها موازياً للمكان، سيــكون موته لحظة في هــذا الوعــي الشقي.. حيــن حانت الساعة، ســار درويش إلى موعـده أنيـقاً ومستـويا. ودع أصــدقاءه ولم يعـتذر.
لم يكن غناء درويش في ما بعد بطولياً انتصارياً جريئاً. لقد تحرر من القصيدة الوطنية داخـل القصــيدة الوطنية، وصارع الجمهور داخل الجمــهور. انــها سلطــة على الجمهور طمح معها درويش إلى إعــادة تربيــته وتأهــيله: لكنها موهبة كبيرة جعـلت درويش في آن واحـد شاعراً شعبياً وطليعياً، نجماً ونخبوياً. درويش كـان يتــحرر ويحرر في آن معـاً. لقـد تخلص في العـلن من رواسب، وكان يمكن لتجربة علنية كـهذه ان تمتد وأن تغدو مثلاً. ليســت المسألة في الشـكل فـقط، انها مسألة رؤيا. فالــشاعر الفلسطيني وجـد نفـسه مغنـي الأوذيســة الفلســطينية وشــهداء القضية الخاسرة. لقــد تحــول إلى شــاعر مرات، وغــدا شــعره مع الوقـت مرثية كبرى.
امتلك محمود درويش غير الشعر ذكاء نادراً وعقلاً تحليلياً وفكاهة. لم يهتم لكتابة الشعر فحسب، بل بصورة الشاعر أيضاً. لم يطور شعره فحسب، لكنه بنى استقلاله ووعيه النقدي. ومع الوقت كان يزداد نضجاً وإصغاء. لقد انقصف في ربيعه. دعك من العمر. انقصف في ربيعه وهو الآن أفتى منه في بعض شبابه.

عباس بيضون

إلى أين تأخذني يا أبي
كتب محمود درويش:
... آية الكرسي، والمفتاح لي. والباب والحراس والأجراس لي.
... لي ما كان لي. وقصاصة الورق التي انتزعت من الإنجيل لي، والملح من أثر الدموع على جدار البيت لي..
واسمي، إن أخطأت لفظ اسمي، بخمسة أحرف أفقية التكوين لي:
ميم / المتيم والميتم والمُتَمم ما مضى
حاء / الحديقة والحبيبة، حيرتان وحسرتان
ميم / المغامر والمعد المستعد لموته
الموعود منفيا، مريض المشتهى
واو / الوداع، الوردة الوسطى
ولاء الولادة أينما وجدت، ووعد الوالدين
دال / الدليل، الدرب، دمعة، دارة درست، ودوري يدللني ويدميني
وهذا الإسم لي... ولأصدقائي، أينما كانوا،
ولي جسدي المؤقت حاضراً أم غائباً...
متران من هذا التراب سيكفيان الآن... لي متر و٧٥ سنتيمتراً... والباقي لزهر فوضوي اللون، يشربني على مهل.
ولي ما كان لي: أمسي، وما سيكون لي، غدي البعيد، وعودة الروح الشريد كأن شيئا لم يكن...
... أما أنا وقد امتلأت بكل أسباب الرحيل ـ فلست لي. أنا لست لي أنا لست لي... (جدارية ١٩٩٩)
[[[
سطراً سطراً أنثرك أمامي بكفاءة لم أُوتها إلا في المطالع
وكما أوصيتني، أقف الآن باسمك كي أشكر مشيعيك إلى هذا السفر الأخير، وأدعوهم إلى اختصار الوداع...
ولنذهبن معاً أنا وأنت في مسارين: أنت إلى حياة ثانية وعدتك بها اللغة، في قارئ، قد ينجو من سقوط نيزك على الأرض.
وأنا إلى موعد أرجأته أكثر من مرة، مع موت وعدته بكأس نبيذ أحمر في إحدى القصائد...
فلأذهب إلى موعدي، فور عثوري على قبر لا ينازعني عليه أحد من غير أسلافي، بشاهدة من رخام لا يعنيني إن سقط عنها حرف من حروف أسمي، كما سقط حرف الياء من اسم جدي سهواً. (جدارية)
... يقول على حافة الموت: لم يبق بي موطئ للخسارة، حر أنا قرب حريتي وغدي في يدي... سوف أدخل، عما قليل، حياتي، وأولد حراً بلا أبوين، وأختار لإسمي حروفاً من اللازورد. (حالة حصار) 
 
محمـود درويـش .. لمـاذا تركـت الحصـان وحيـداً؟

ذكريات شخصية عن الزمن الأول 
 التقيت محمود درويش، لأول مرة، على هامش اجتماع استثنائي للمجلس الوطني الفلسطيني عقد في مبنى جامعة الدول العربية في القاهرة، في صيف .١٩٧٢
كان قد وصل لتوه من الأرض المحتلة، كما كنا نسمي إسرائيل حينذاك، وقد حسم أمره: لن يعود ليعيش محاصراً ومراقباً، نصف أوقاته في السجن ونصفها الآخر في الطريق بين مكاتب جريدة »الاتحاد« وبين مركز الشرطة الإسرائيلية للابلاغ عن »وجوده« حاضراً...
كان »النجم« بلا منازع. لقد تدافع الكل إليه يحيونه بالقبلات والدموع، يرمونه بألف سؤال في الدقيقة، يقفون إلى جانبه لصورة تذكارية، يشكون إليه هموم واقعهم »العربي« بمرارة تكاد تفوق مرارته من واقع أهله تحت الاحتلال من الإسرائيلي، وهي كانت السبب في اتخاذه قراره الصعب بالخروج من السجن... يحاولون ان يعرفوا موقفه من ياسر عرفات ومن التنظيمات الفلسطينية »المعارضة«، من أنور السادات ونظامه وهل هو »ناصري« فعلاً أم »خرج« لأنه تغير...
لكنه، في تلك اللحظات تحديداً، لم يكن مستعداً لمثل هذه المقارنات التي كانت ستنتهي، حكماً، بإدانة قراره بالخروج... إلى الحرية، التي اكتشف ان كل عربي تقريباً يبحث عنها في الاقطار الأخرى، وخارج وطنه في أي حال...
وقفت ارقب، عن بعد، مع صديقين، مصري وفلسطيني، تلك التظاهرة المختلفة بموضوعها وأسئلتها والتداعيات عن كل ما شهدناه قبلها...
في لحظة ما، انتبه لوقوفنا بعيداً، فمشى إلينا يتقدمه سؤاله الضاحك: صرت فرجة! أليس ذلك!
تعارفنا. وضع أسماءنا التي يعرفها على الوجوه التي لم يكن يعرفها، وتواعدنا على لقاء خارج دائرة المتفرجين أو الآتين لاستعراض المواقف.
بعد أيام التقينا. كان قد أنهى الجولة الأولى من التعرف على »الكبار«، فلسطينياً ومصرياً وبعض الضيوف العرب المدعوين كشهود. وسمعنا منه انطباعاته الأولية عن كبار المثقفين والصحافيين الذين التقاهم، خصوصاً في »الأهرام« وفي دار الهلال. وشكا من ان معظمهم قد رحب به، وان شفع الترحيب بشيء من اللوم لخروجه: كنت أملاً في الداخل، ليس لأهل الداخل فحسب، بل لنا أيضاً...
وكان يرد مستغرباً: ولكنني خرجت لأكسر الدائرة المقفلة التي يسجنني فيها الإسرائيلي. جئت طلباً للأمل لي، وللذين في الداخل...
لويس عوض كان الأكثر تحديداً، قال: لقد جئنا في أيام الشقاء، يا محمود...
كانت مصر تموج بالغضب بسبب الإرجاء المتكرر وغير المبرر لقرار الخروج إلى الحرب. كانت حرب الاستنزاف قد أعادت إلى المصريين الثقة بقدرتهم على مواجهة إسرائيل، بل وعلى إلحاق الهزيمة بها. وكانوا يرون ان السادات قدم معركته الشخصية لترسيخ سلطته ضد »الناصريين« أو قل ضد »وطنيي النظام« على المعركة ضد العدو الإسرائيلي... تاركاً زهرة شباب مصر، من المهندسين والأطباء والمرشحين ليكونوا علماء، فضلاً عن الكتاب والشعراء والصحافيين، يغرقون مع علمهم في رمال »الدشم« والمتاريس المحصنة... ولا قتال!
وقرر محمود درويش ان يسمع فلا يعلق، وان يتكلم إذا ما تكلم عن إسرائيل، مجتمعاً وأحزاباً وقادة سياسيين وتنظيمات، وعن جيشها بحدود ما يعرف عنه... وبطبيعة الحال عن »الفلسطينيين« فيها التي انكرت عليهم »فلسطينيتهم« وجعلتهم »عرب إسرائيل«!
عرف محمود درويش الكثير عن مصر: من محمد حسنين هيكل ومجموعة »الخالدين« في الطابق السادس من »الأهرام«، توفيق الحكيم والحسين فوزي، وصلاح عبد الصبور ولويس عوض... واستمع إلى تحليل دقيق من أحمد بهاء الدين ومن مراد غالب ومن فتحي غانم ويوسف ادريس ومن أحمد عبد المعطي حجازي وكثير غيرهم...
كان مبهوراً بالقاهرة التي أحب، والتي يحفظ الكثير من أغاني مطربيها ومطرباتها الكبار، محمد عبد الوهاب، أم كلثوم، محمد عبد المطلب، عبد الحليم حافظ... لكن النيل، ليلاً، كان معبده!
جال مع الأصدقاء الجدد على المقاهي التي كان يحفظ أسماءها وأسماء زبائنها من الشعراء والكتاب غيباً: مقهى ريش، بار الانجلو، سيسيل بار... لكنه كان شديد الحساسية تجاه الغبار و»الشعبوية«، لذا فقد قرر ان تكون لقاءاته في بعض مقاهي الفنادق الكبرى »حيث تضمن، على الأقل، نظافة المكان«!
[ [ [
بعد القاهرة مباشرة كان لا بد من بيروت... وقد جاءها بغير اعلان، »لأنها مدينة مخيفة«، ولأنه يحتاج الوقت لكي يختار أين يقيم كإنسان، فلا يعامله الناس كنجم، يبادرونه في ربع الساعة الأولى طالبين منه ان يسمعهم قصيدته التي انتفى موضوعها: »سجّل أنا عربي«!
كان يحاول إقناعهم: أهمية هذه القصيدة ان تقال في وجه العدو الذي ينكر عليك عروبتك! أما ان تقولها للعرب المتباهين بعروبتهم فانها تبدو مبتذلة وفي غير موقعها! بوسع كل منكم ان يقول: سجل أنا عربي... فلا يكون لكلامه أي معنى. أما المعنى هناك، وفي وجه جندي الاحتلال.
بعد سنوات قليلة، يزورني محمود درويش في »السفير« ليبلغني انه ذاهب إلى الجزائر بدعوة رسمية. قلت بغير قصد الاحراج: ستجد نفسك تنشد أول ما تنشد القصيدة التي بت الآن تكرهها... سجّل أنا عربي! ورد مستنكراً: فشرت! لن أقولها خارج فلسطين أبداً!. لكنه جاءني مسرعاً بعد عودته من الجزائر ليقول: معك حق!. وجدت نفسي أبدأ بقصيدتي التي لم تعد تعجبني، سجّل أنا عربي، وأختم بها!. هناك اكتشفت لها المعنى! لقد قُهر الجزائريون في لغتهم باعتبارها بعض قوميتهم! ان لها هناك معنى التحدي للاستعمار الذي حرم أهل البلاد من لغتهم ليلغي هويتهم، وكانت تلك خطوة تمهيدية لمسح عروبتهم وجعلهم... فرنسيين«!
[ [ [
لبيروت حديثها الاستثنائي مع محمود درويش، فهو قد وجد فيها ما كان يبحث عنه: العرب جميعاً والعالم كله، بشرقه وغربه وجنوبه وشماله... والأهم، انه وجد فيها فلسطين بوجوهها الكثيرة، المأساة والثورة، اللجوء وخطر الذوبان، الايمان والتشوه، المال والسلاح وبينهما الدول، ثم المنظمات والرجال والدول... كل الدول بمساوماتها ومناوراتها التي تطل من خلالها ملامح إسرائيل والمشروع الذي يوحدها مع »الغرب« من دون ان يفقدها الشرق السوفياتي، آنذاك...
لم يجد محمود درويش لنفسه موقعاً في صفوف »الثورة«، ففضل ان يبقى على مسافة: يعطي المنظمة ما يقدر عليه، من دون ان يدخل اطارها السياسي والتنظيمي. ومع انه أحب شخص ياسر عرفات وقدر فيه مزايا كثيرة، أهمها الصمود وسط أمواج الأنظمة المتلاطمة على جدران سفينية المنظمة. كان يرى فيه »الرمز الفلسطيني«، من دون ان يتجاهل اخطاءه بل وخطاياه أحياناً...
وعندما نجحت منظمة التحرير في انتزاع الاعتراف الدولي بها وتقرر ان يذهب ياسر عرفات ليخطب أمام الهيئة العامة للأمم المتحدة كان من الطبيعي ان يكتب محمود درويش بالذات هذا الخطاب التاريخي، مع وعيه بأن عرفات سيدخل بعض التعديلات لأسباب يقدرها، وانه سيتعثر باللغة خلال إلقائه... وانه سيرفق الكلمات بحركات واشارات قد تذهب بمعناها: جئتكم أحمل البندقية بيد وغصن الزيتون باليد الأخرى، فقرروا، أما قراري ففلسطين مع السلام.
[ [ [
أما دمشق فعلاقة محمود درويش بها استثنائية، كما علاقتها به... انها قصة عشق حقيقي، بعيداً عن السياسة، قريباً من فلسطين، والتاريخ ومجد الصعود، شعراً وأدباً، ونجاحاً سياسياً...
أذكر انه طلب مني ذات ليل من أواخر أيلول أن آخذه إلى دمشق، وألح كعادته ان ننطلق فوراً، والوقت منتصف الليل... وصدعت لأمره، طبعاً، فقصدنا دمشق التي لم تكن قد قامت فيها الفنادق الحديثة، وكان مدخلها هو النهر الذي عشقه محمود من قبل ان يراه! بردى.
عند الحدود مررنا بما كان يسمى »الضابطة الفدائية« ـ وكانت خاصة بالفلسطينيين بعد اعتراف لبنان بحق الفدائيين في استخدام أرضه للعبور إلى فلسطين المحتلة، وهي، الجار والمدخل وحاملة هموم التهجير.
استقبلنا شاب في أوائل العشرين، أسمر بعينين كحيلتين، وملامح تقربه من الصورة المتخيلة للمقاوم، مقتحم الحدود، مواجه العدو بشجاعته الفائقة وسلاحه الخفيف. ولقد أخضع هذا الشاب النحيل محمود درويش لاستجواب قاس يمكن تلخيصه بسؤال كرره عليه مراراً: كيف تكون في الداخل وتخرج في حين اننا نموت من أجل ان ندخل إلى فلسطين؟!
لأول مرة، رأيت محمود درويش يخضع لاستجواب حاد، فيدافع عن نفسه بمعاذير متعددة، ويروي عبثية استمراره في مواجهة يومية مفتوحة وعبثية مع الشرطة الإسرائيلية: تعتقله ثم تطلقه لتعود فتعتقله، ثم تجبره على المرور بها مرتين في اليوم لإثبات »وجوده«... وكان ان اتخذ قراره بالخروج!
بلغنا دمشق حوالى الثالثة فجراً (عن طريقها القديم إلى بيروت). كان معرض دمشق الدولي على وشك ان يقفل أبوابه، ومجرى نهر بردى الذي أقيم عند ضفته الجنوبية شحيح المياه، وقد رميت فيه الصناديق وفضلات البضائع والمعروضات.
كان محمود متلهفاً لرؤية »بردى« الذي جرى في قصائد كبار الشعراء... مفترضاً ان نهر دمشق قريب من نيل القاهرة. ولقد فجع مع الصباح فقرر ان نعود فوراً إلى بيروت، بينما كان بعض الأصدقاء قد جاؤا للسلام عليه فأخذوه في جولة »سياحية« زادته اصراراً على العودة إلى بيروت فوراً: أعدني إلى الأمكنة النظيفة! هنا الغبار يغطي العيون فلا نرى!
على ان مفاجأة عظيمة كانت تنتظرنا حين عدنا إلى الفندق: وجدنا حشداً يتجاوز عديده الألفين، قد تجمع للسلام على محمود درويش، بعدما شاع خبر وجوده في عاصمة الأمويين وكان بين الجمع وزير الثقافة آنذاك، فوزي الكيالي، وكبار أدباء سوريا، الشعراء منهم وأهل المسرح والأدباء. وأبناء مخيم اليرموك... والكثير من الوزراء والأعيان، وكثير كثير من الشبان والشابات عشاق درويش.
ظل محمود على عناده... برغم ان كثيرين ممن تجمعوا قد صافحوه والدموع تغطي وجوههم!. بالكاد قبل دعوة الوزير إلى الغداء بصحبة نخبة من أدباء سوريا ثم عدنا إلى بيروت فعلاً...
لكنه بعد ذلك صار يغتنم كل مناسبة ليجيء إلى دمشق حيث اكتشف ان جمهوره يكاد يكون الأعظم اهتماماً بالشعر ولعله متميز في ذائقته الفنية، فكانت كل أمسية لمحمود درويش تقتضي ترتيبات أمنية استثنائية لحفظ النظام، بينما عشرات الآلاف يحتشدون في المكان أو من حوله لسماع فلسطين تتحدث عن ذاتها بلسانه... وقد اضطر المنظمون في غير حالة ان ينقلوا الأمسية إلى المدينة الرياضية، لإرضاء الجمهور العاشق شاعره... النرجسي!
[ [ [
على امتداد ستة وثلاثين عاماً، من الصداقة مع محمود درويش، التي امتدت إلى أسرتي برغم »عدائيته« المحببة، ومن المتابعة بالاعجاب والتقدير لنتاجه الغزير بمستواه الاستثنائي الرفيع، كنا كثيراً ما نختلف في الرؤية وفي التقدير السياسي للأحوال، وبالتحديد لاطوار الصراع العربي (الذي صار من بعد فلسطينياً) الإسرائيلي.
كان محمود درويش يتميز بمعرفة دقيقة بهذا العدو: مجتمعاً وسياسة، أحزاباً ومطامح... ولأنه كان يعرفه إلى هذا الحد، ثم انه تعرف مباشرة إلى أحوال العرب، فضلاً عن الأحوال الخاصة للفلسطينيين، قيادة وجماهير، منظمة ومعارضين، فقد دفعته المعرفة إلى الذهاب بعيداً في تصوره لمستقبل لا يمكن ان يقوم على استمرار العداء إلى الأبد. ولقد أدرك ان العرب لا يعرفون عدوهم، في حين ان عدوهم يعرفهم تماماً: يعرف عن قيادتهم وعن أحوال مجتمعاتهم، عن صراعات الأنظمة وحروب القبائل (قبل ان تنحدر نزولاً إلى الطوائف والمذاهب والملل والنحل). ومن هنا فقد داخله الشك في امكان انتصار عربي حاسم على إسرائيل... ثم رأى الانفصال بين الفلسطينيين وسائر العرب يصبح أمراً واقعاً، مما يترك الشعب الفلسطيني برمته وحيداً أمام مصيره... بل لعله قد رأى ولمس وعرف كيف ان الفلسطينيين باتوا يخافون على قضيتهم من »العرب«، أي الأنظمة المقتتلة على فلسطين وباسمها، أكثر من خوفهم عليها من إسرائيل.
وكان يرى ببصيرته قبل بصره الانقسام الفلسطيني ويخاف منه على ما تبقى من فلسطين.
ولقد مد محمود درويش بصره إلى المستقبل البعيد... فأخذ يمهد لعلاقة بين هذين الشعبين المحكومين بأن يعيشا على الأرض الواحدة، وبمعزل عن ادعاءات الحق التاريخي، أو الحقوق الطبيعية لأهل الأرض فيها، لا تقوم على السلاح والقتل والموت والعداء الأبدي...
كان دقيقاً كل الدقة. لكنه كان مقتحماً. وكان اقتحامه من موقعه المميز مباغتاً. وكانت ردود الفعل عليه عصبية، من الطرفين: بعض العرب رآه يتجاوز الحدود إلى المحرمات، وبعض الإسرائيليين رأوا في دعوته خطراً جدياً لم يكن وارداً، أقله على مستوى الوجدان وهذه الرؤية المستقبلية التي لا يقدر عليها إلا... الشعراء.
لكن ذلك حديث يطول، فنرجئه إلى ما بعد وداع يليق بمحمود درويش، أحد أعظم الشعراء الذين أنجبتهم فلسطين، بل الأرض العربية جميعاً.
لنقف الآن إجلالاً لهذا المبدع الذي ذهب إلى الموت يقاتله مفتوح العينين، واثقاً من النتيجة الحتمية. لكأنه أراد ان يقول للموت: أنا لا أخافك، لقد قلت كل ما عندي، وانتصرت عليك فصمدت لسنين طوال وقد آن لي ان ارتاح، وحرمتك من ان تأخذني إلا في الموعد الذي حددته... وبعدما قلت فيك تحديداً كل ما أردت ان أقوله.
وداعاً، أيها العاشق من فلسطين الذي جعلها أغنية تسكن وجدان أطفالنا، وأعطاها بعدها الإنساني العظيم كواحدة من معارك الحرية والحق في امتلاك الشعوب زمنها بارادتها.
ولن ينتهي الحديث عن محمود درويش المبدع، المجدد، الذي رفع الشعر إلى مرتبة لعلها الأعلى بين سائر وجوه الإبداع... فإلى اللقاء.

طلال سلمان

غنــاء الخســارة 
 هذه المرة لن يكتب محمود درويش جدارية اخرى. هذه المرة لن يخدع الموت الذي خرج منه ناجياً من قبل. من عاش مثله في الوقت الضائع وما بعد الحياة يدرك ان الموت خصه كما خصته الحياة. لم يخطفه وحده. عرف ساعته وصار إليها بقدمه.
لم يكن محمود درويش يعتبر الموت عرساً كما اعتبره جلال الدين الرومي لكنه لم يكن بالنسبة له مجرد فراغ. لقد حمله في قلبه وأحشائه وتحول الى طرف في معادلته الشعرية والحياتية. اضيف الى الكلام وإلى السلوك كملح للحقيقة وعمق غير منظور. كان النزوح والموت شراعا محمود درويش والحق انه استدخلهما وجعل منهما واقعاً خاصاً. صنع منهما تلك الأوديسة الفلسطينية التي راحت مع الزمن الى اسطورة خاصة وعقدة انطولوجية. هنا المكان وهنا الزمان ومحمود درويش يبحر بين الاثنين ولا يرسو هنا او هناك.
لا بد انها عملية ترميز وتأويل استقطبت كل حياة درويش وكل مشروعه، التوسط بين الجسد والمكان، بين الرحيل والمقام وبين المملكة المفقودة والزمن الحاضر. هذه العملية هي جدل شعر محمود درويش ومدار حياته، جعل درويش من الرمز الفلسطيني ميتافيزياءه الخاصة وكما هي غالبا مهمة الشاعر، عَقْدُ الحوار بين السماء والارض، غدت السماء ارضا شخصية، انعقد الحوار بين الجسم والمكان وتم للمكان ان يغدو جسما. لنقل ان الموت الذي خرج منه الشاعر خرج منه بجسد تلتقي عنده السماء بالأرض. ربما من مخاض الموت الذي لم يكن سوى صورة موهلة مجسمة للنزوح والفقدان خرج جزء كبير من »حقيقة الشعر الدرويشي«. اذا كان درويش ضرب للموت موعداً فلأنه كان يعلم انه كان دائما قريبا ولان ما بينهما لم يعد سرقة وغصبا.
ضرب للموت موعدا لانه مذ حل في كلامه ووجد عبارة وصورة صار في الخارطة الشخصية للشاعر. اذا كان شعر محمود درويش غالبا شعر الخيار الوحيد الذي يغدو مع الوقت ميزة وأفقاً. اذا كانت مرثية الهزيمة التي تتحول الى قيمة اخلاقية، اذا كان تعريفه الضمني للشعر هو الرثاء وهو غناء المغلوبين فإن البقاء على سن الهزيمة والخيار الاجباري هو ايضا المقياس التراجيدي للحرية والنبل. والارجح ان تجربة درويش مع الموت هي الصورة البؤرية لهذا الصراع. حين حانت الساعة كان الموت على سن الرمح ولم يكن هناك خيار آخر ولا اقل فداحة وكعادته لم يعتذر محمود درويش. سار الى موعده انيقا ومستويا. ودع اصدقاءه بوجه مرفوع ومضى الى حيث يقيس ايضا نفسه.
كان محمود درويش في عز مجده حينما تأكد ان هذا المجد بحجم الالتباس الذي يولده، شاعر فلسطيني وشاعر الثورة وشاعر القضية. لم يكن الشاعر غير دار بأن فلسطين هي موضوعه الغالب. ولم يكن ليتنصل من التزام واع بقضيته، لكن ما فهمه درويش هو ان الليل يمكن ان لا يكون اسود والموضوع والمناسبة ليسا واحداً لدى جميع الشعراء او الكتّاب فهم يتمايزون فيهما ويختلفون.
لم يكن غناء درويش فيما بعد غناء حربيا بطوليا انتصارياً كما وسم الغناء الوطني، ولم يحب درويش ان يحشر في هذا الغناء العربي الحماسي، في سبيل ذلك كان الشاعر العربي الاول الذي يصارع جمهوره ويصارع موضوعه ويصارع اسمه وشهرته. يذكر الجميع عقدة »سجّل أنا عربي«. لم يخسر محمود درويش جمهوره.
كان قادراً على ان يضع في الشعر اكبر نسبة ممكنة من ذاته، ان يرد الشاعر الى طراوة وبساطة فاتنتين، على ان يقول الشخصي بلغة العام، على ان يكون نفاذا وقريبا في آن معا، على ان يبدأ من بداهة ليغربها ويخصصها ويستدخلها فيما بعد، على ان يزوّج الغناء للفكرة. على ان يقول النثر بصيغة الشعر، كل هذه ملكات تصدر عن قوة الموهبة. وحدها تقدر على ان تستدخل كل الحافظة الشعرية وحدها قادرة على لم عناصر متفارقة اساسا وادماجها في تركيبة واحدة.
قوة الموهبة جعلت من درويش يتحرر من القصيدة الوطنية داخل القصيدة الوطنية، ومن الجمهور داخل الجمهور. بل هي التي جعلت من محمود درويش في الان نفسه شاعرا شعبيا ومجددا، وان يكون نجماً ونخبوياً وأن يكتب بحرية من دون ان يخشى العزلة، وأن يورط عامة ادبية بأعمال شخصية وتأملية، وأن يحول قصيدة عن تجربة موت الى أثر رائج، الارجح ان محمود درويش امتلك من سلطته على الجمهور قدرة ان يكون حراً وأن يطمح الى تركيبة الجمهور وتأهيله، مع ذلك فإن المسألة ليست في سلطة درويش وحدها، انها في عملية ان يتحرر ويحرر في آن معا.
لقد تخلص في العلن وفي تجربة مكشوفة من رواسب لم تكن لتفسده فحسب بل وتفسد جمهوره معه. ليس النفس الحربي الانتصاري البطولي مطابقا بالضرورة لجمهور مغلوب ومرضوض ومغدور بحسب رأيه، والارجح ان ماعافه محمود درويش هو بالضبط هذا النفس الانتصاري الذي يحول الادب تقريبا الى تزوير، لم تكن هذه مسألة شكل فحسب كانت اكثر من ذلك مسألة رؤيا.
محمود درويش ليس شاعر حماسة. انه باختصار شاعر مرارة ويمكننا بسهولة ان ندرج شعره تحت عنوان الرثاء. الارجح ان موضوع درويش الاساسي كان الخسارة والفقدان وبكلمة واحدة فإن موضوعه الاساس هو الهزيمة. انها رؤيا تولدت لدى محمود درويش بالتدريج. لم ينكر درويش الصراع بالطبع لكنه قرر غالبا انه ايضا في الاسم والذاكرة والبقاء وليست الخسائر فيه سوى تراث اضافي ومخاض للمستقبل. غنى محمود درويش من سماهم وولت ويتمان شهداء القضية الخاسرة وغنى الخاسرين والمغلوبين بنبل الخسارة وتحليق التراجيديا.
لم يكن حظ درويش من الحياة واحداً. لقد وصل بسرعة وسهولة الى نجاح مطلق، وبات نجما في بلاد العرب ونجما في غير بلاد العرب. وكرس حياته كلها للشعر بدون اي تطلب اخر. لعل درويش من »النجوم« القليلة التي ليست زائفة.
صارع محمود حظه وما جاءه بسهولة اعاد ابتكاره بنفسه. لكن محمود درويش كان يملك »حضورا« يوازي شعره بذكاء لماح وعقل تحليلي وفكاهة وفتنة. لم لا محمود درويش فاتن والارجح ان طلته وصوته واداءه فتنت جمهوره ايضا، بالتأكيد كان درويش النجم يملك ذلك الوعي الشفاف الذي يجعله يفرز الثقافة من المواصفات الاجتماعية، لم يكن الشعر غايته فحسب بل وجه الشاعر وصورته وشخصيته. في ذكائه لم يكن يكره شيئا كالبلادة والسخف وهما في الغالب مصير النجوم. لقد اعاد ابتكار نفسه وسط الجمهور.
لم يطور شعره فحسب ولكن بنى استقلاله وفرديته ورؤيته الخاصة. ومع الوقت كان محمود درويش يزداد وعياً لشخصه ولشعره. مع الوقت كان يزداد نضجا ونقديه... وإصغاء وتواضعا. زالت عناصر استفزاز في شخصيته. تخلص من حدة وصعوبة وظهرت فيه ليونة وسلاسة ما كانتا اساسا في طبعه، كان يغدو اكثر فأكثر فردا ومستقلا وشاعرا، انها اللحظة المناسبة ليمكر الحظ وليسترد هداياه. لا اعرف كم ترك وراءه من قصائد اعرف ان الشاعر الذي فيه كان لا يزال عامراً. لقد انقصف في ربيعه. دعك من العمر.
انقصف محمود درويش في ربيعه. هو حينها افتى منه في شبابه. لقد تصالح مع الخسارة، خسارته الخاصة وخسارة شعبه. لم يعد متشنجا ولكن هادئاً وحكيماً. لقد وجد شعبه يوم وجد نفسه ايضا. كان قادراً على ان يكون مع الاضعف وان يدين، ولو بهدوء، الذين يحولون الضعف الى حماقة وإهدار. جازف بأن لا يكون لكل الفلسطينيين ولكل العرب. لم يعد للاجماع حين وجد »جــمهوره« يقتتل في الساحات. انها المرارة حين لا تكون الخسارة نبيلة وحين تتحول الى ضغينة عائلية مرثيه غدت اكثر تركيبا وتعدداً. انها مرثية من يخسرون خسارتهم او يبيعونها بخسارة اضافية. محمود درويش الذي كان قادراً على ان يقول اكثر نفسه شعراً، وربما اكثر واقعه، قال كثيراً وكثيراً جداً لكن الواقع مثقوب وبلا قاع ولا نهاية لنزيفه.

عباس بيضون 

الشعراء لا يموتون 
  مرسيل خليفة

»وأعشق عمري
لأني
اذا مت
أخجل من دمع أمي«
ربما هي المرة الوحيدة التي خجل فيها محمود درويش لأنه رحل قبل رحيل أمه، ترك لها الدمع لكي تبكيه ولم يترك لها شعراً لترثيه. أنا الذي حملت شعره وسافرت به بعيداً، أنا الذي حمل ترابه وحنينه الى أمه و»ريتاه« وزيتونه وكرمله، هل تصدقونني إن قلت لكم إن الشعراء لا يموتون لكنهم يتظاهرون بالموت؟

مرسيل خليفة

كأن كل شيء قد انتهى 
يخيل لي الآن ان كل شيء قد انتهى، وان كل مساعي القادة والزعماء العرب خطابة وعملاً لن تستطيع ان توقف موجة اليأس الطامية حين تمر الاعوام ولا نسمع شعراً جديداً لمحمود درويش.
في السنوات الاخيرة وقد اتسع هذا المستنقع من الدم والوحل الذي تتخبط فيه الآن الأخوة الأعداء في فلسطين، بدأت أفقد الأمل بقدرة »فتح« او »حماس« او »منظمة التحرير« بأكملها على ان تصون للذبالة للواهية لشعلة الأمل الباقي. كان محمود درويش وحده يصنع المعجزة: أن يحافظ في وجدان قرائه على الشعلة الذابلة هذه حين نقول لأنفسنا بعد قراءته: كيف يمكن لقضية تبدع شاعراً بهذا المستوى ان تكون باطلة. مهددة بالضياع؟ لقد استطاع شعر محمود درويش ان يعوضني عن »أبو عمار« و»أبو جهاد« والشهداء الكثر الآخرين. وأن يعيد لي بعض الثقة بأن خلفاءهم الأحياء سيصنعون المفاجأة المرتقبة منذ اكثر من ستين عاماً ما دام هناك شاعر كبير مثل محمود درويش حليفاً لهم اذ استطاع ان يقنع العالم اجمع ان الجمال الشعري قادر ان يحقق معجزة الأمل على الأقل ان لم نحقق معجزة الانجاز الوطني الأكبر.
الآن سوف تتزاحم القصائد والخطب والمقالات في رثاء الفقيد، ولكنهم حين يصمتون أخيراً ـ وسوف يصمتون بالتأكيد ـ سيتأكد الجميع ان غياب شاعر بهذا المستوى الرفيع لن يعوض، تماماً كما لم يعوض المتنبي وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، وأن الشعر بعد محمود درويش لن ينقذه أحد من التفتت والركاكة والتكلف إلا بقدر ما تتلبس للشاعر الجديد روح محمود وعبقريته. ان الخلوة الآن مع شعر محمود درويش صارت ضرورية أكثر من أي وقت مضى، وهي وحدها التي سوف تحمينا من تسونامي العصر وهي تجرف كل التقاليد الحلوة والخصوصيات الحميمة والقيم الرفيعة كي تروج للفيديو كليب الخاوي الا من الهيجان والتهافت والانصياع العصبي.
بمن استشهد الآن وأن أحاول إقناع أحد المتشككين بالقضية الأم بعد رحيلك يا محمود؟ لن تستطيع كل خطب الزعماء السياسيين ومقالات المفكرين العتاة أن تمدني بالعون الذي كان يمدني به شعر محمود درويش الجميل والمتجدد وجماله باستمرار!
ما أبأسنا بعدك يا محمود!

 شوقي بغدادي

نفعل ما يفعله الصاعدون إلى الله 
إلى محمود درويش ـ العنوان: فلسطين
شاعر الحصار الذي يقلـّص الوقت
ونذير المطر الذي لا يصدّه الجدار
لسان حال الشهيد الذي يرتسم على الأرض
ومنشد اليقين المقبل الذي لا ريب فيه.

رحيلك يولـّد في أنفسنا قلقاً عميقاً، جزعاً لا يكبح
من سيخطّ تجاعيدنا على جبين العالم؟
من سيحوّل تفجّعنا إلى قصيدة تتحدّى الانحلال؟
من سيقلب الأحرف بين الألم والأمل وبين الرعش والشعر؟

رحلــت وانتــصرت على الموت، كما قلت
أمّا نحن الأحياء،
فنعاني من الحصار، ويحدّ بصرنا الجدار، ولا نسمع صوت الشهيد، ولا خبر اليقين.

غير أنّه لن يبقى واحدٌ منـّا وحيداً
مع قصائدك
» في الحصار، تكونُ الحياةُ هِيَ الوقتُ
بين تذكُّرِ أَوَّلها
ونسيانِ آخرِها.
هنا، عند مُرْتَفَعات الدُخان، على دَرَج البيت،
لا وَقْتَ للوقت.
نفعلُ ما يفعلُ الصاعدون إلى الله:
ننسى الأَلمْ«.

روجيه عسّاف ـ العنوان: فلسطين

 روجيه عساف

يا لاعب النرد.. انهض! 
إنهض... إنهض...
فلسطين كلها والعرب
تحمل قلوبها إليك... لتنهض...
حاصر حصارك... إقهر مرضك
وانهض...
قم من نومك المؤقت...
إنتفض... وانهض
لا تغادرنا قبل أن ترتوي
بقهوة أمك... وقبل أن
تعود أبداً لحيفا...
الجبل ينتظر... والزيتون
الوديان تصبو... والسنديان
»وعندما أغلقوا باب قلبي عليّ
وأقاموا الحواجز فيّ
ومنع التجول... صار قلبي حارة
وضلوعي حجارة...
وأطل القرنفل... وأطل القرنفل«
إذ جاءك الموت قل له:
ليس موعدنا اليوم... فلتبتعد
وتعال غداً أو بعد غدٍ...
يا لاعب النرد تسألنا: من أنا؟
أنت نحن... كلنا
أنت سرمدية الأسطورة
وجمال فلسطين وعبق العروبة
أنت اللانهاية...أنت نور النفق

يا لاعب النرد...
تسألني طفلتي الصغيرة:
من سيلقي عليّ الوردة الحمراء
بعد اليوم؟
إنهض... إنهض محمود
فالحاكورة وشجراتها... زيتونها
وسنديانها تسأل...
اين رفيق الدرب..؟
قلت: ما أقساها الحروب.
يموت الجنود ولا يعرفون من انتصر!
فمن سيكتب قصيدة النصر غيرك؟
ما اقساك أيها المرض.
تغفو ولا تعرف حجم الدموع
تغيب فجأة ولا تعرف كم هو الحب لك!
أو أنك تعرف...
وكأنك قد مُتُّ قبل الآن...
تعرف هذه الرؤيا، وتعرف أنك
تمضي الى ما لست تعرف، ربما
ما زلت حيّا في مكان ما، وتعرف
ما تريد...
ستصير يوما ما تريد«.

إنهض واصرخ في وجهنا:
غبت قليلاً كي أعود... وأعيش
ولتحيا فلسطين...
فألقي عليكم وردتي الحمراء... 

     احمد الطيبي

جيش كامل 
لدينا كثيرون في فلسطــين وفي سائر أرجاء العالم العربي، كثيرون بالمئات وبالألوف يصــلحون أن يكونوا سـاسة ومــسؤولين ووزراء وحاملي حقائب وأصحاب مهام، لكن الشاعر الشاعر أو الشــاعر الضمير عملة نادرة، ومحمود درويش رحمه الله كان واحدا من هذه العملة النادرة، كان حضوره يعادل جيشا بكامله، وصوته الممتلئ بالوعي واليقين والإنسانية كان أغلى وأنفس من ألوف الحناجر الجوفاء التي تمتلئ بالصخب وتكاد تنفجر من جلجلة الألفاظ وتقول كلاما لا يبقى بعد جفاف الحبر الذي كتب به وازدحام الورق الذي تساقط عليه، لكن صوت محمود درويش سيظل ملء القلوب والعقول، صوت فلسطين وضميره إلى العالم وقصيدتها التي لن تموت.

 فاروق شوشة

محمود صورتنا الأخيرة 
قالها يوماً عن البحر. أليس محمود درويش بحر الشعر العميق الغور؟! أليس محمود درويش صورتنا، صورة جيلنا الذي ولد مع النكبة وشب مع الهزيمة ورفض الاستسلام لواقع مرير وبحث عن العدالة في الماركسية والديموقراطية الاجتماعية، وحاول صوغ مشروع جديد لنهضة تبدو مستحيلة. أليس محمود درويش صورتنا بجانبها المبهر. بشعره الذي وضعه في مصاف كبار شعراء الدنيا. فهو بكل المقاييس من كبار الكبار، بل إنه بعد رحيل نيرودا الأكبر في الشعر توهجاً وعمقاً وتجديداً.
بدأت علاقتي بشعر محمود درويش منذ أربعين عاماً، قبل أن ألتقيه شخصياً وتنشأ بيننا مودة وصداقة عمّقها ذلك الألق الذي لم يتوقف في شعره. فأحببته إنساناً وأكبرته شاعراً مجيدأ من الذين يجود الزمان بمثلهم مرة كل مئة عام.
كنت طالباً في موسكو عندما قرأت قصائده الأولى التي صنفها جيلنا المهزوم بعنوان شعر المقاومة الفلسطينية. ولأنني كنت أدعى إلى حفلات الطلبة العرب لقراءة الشعر، فقد تخصصت بقراءة شعر درويش في كل هذه الأمسيات العربية. وكانت الحماسة على أشدها لشعر جديد بموسيقاه ودلالاته. وحين أخرجت مسلسل »ردم الأساطير«، الذي استقيت عنوانه من قصيدة كنت أقرأها دائماً في حفلات موسكو، ألا وهي رائعته المبكرة »يوميات جرح فلسطيني«، اتصلت يومها بمحمود طالباً تسجيلها بصوته الذي يتغلغل إلى أماكن في القلب قل أن تزورها الحروف والصور. استغرب أنني أذكر تلك القصيدة، فلم يكن يعلم بعمق العلاقة بيني وبين شعره إلا يومها. سجّل لي محمود المقطع الذي جعلته مقدمة لمسلسلي. وعدت إلى صوته من جديد في »ذكريات الزمن القادم« ليعلن »مديح الظل العالي«.
لم تنقطع يوماً هذه العلاقة الوشيجة بيني وبين محمود الإنسان والشاعر حتى اللحظة الأخيرة، حين أخبرني الصديق رياض الريس بحرج وضعه الصحي. يومها أحسست بأن الأرض تميد بي حقاً. فعالم ليس فيه محمود درويش عالم شديد الرمادية، اللون الذي كرهه محمود كثيراً.
بعد أمسية حيفا وقصيدته التي وصف فيها عودته. بدا وحيداً عميقاً. تواصلنا عبر الهاتف، أبلغته وهالا إعجابنا وخوفنا عليه من وحدته، وكفكفنا دموعنا خجلاً من أن يحس بها، فالتقطها واعترف بأنه أصبح شديد التأثر وأصبحت دمعته سخية مثلي. قالت له هالا مازحة لتكسر ألم الابتعاد: ألم ترنا بين الحضور في حيفا؟ أجاب: بلى، فقد كنتم في الصف الثاني، رأيتكم وقرأت الشعر لكم.
وتباعدت بيننا المسافات إلى أن قرأت قصيدته الأخيرة »لاعب النرد«. كان قد غادر للعلاج في هيوستن. ولم أعبر له عن عمق محبتي وإعجابي.
محمود درويش صورتنا الأخيرة. أجل صورة جيلنا من لحظة النكبة إلى لحظة الوداع. فمن سيكمل التعبير عن مصائبنا وأمانينا بعد الآن؟!

 هيثم حقي

يفاجئونك بموتهم 
بعض الأشخاص يذكرونك بأنك ستموت، منهم محمود درويش وجوزيف سماحة. كل يوم هناك وجبة موت. الموت مفهوم. لكن هناك أشخاصا يفاجئونك بموتهم. يؤكدون لك أن الموت حتمي في الحياة، ونقتنع بأننا سنموت. يقول درويش: »مطر ناعم في خريف بعيد/ والعصافير زرقاء زرقاء/ والأرض عيد/ ألا لا تقولي إنني غيمة في المطار/ فأنا لا أريد من بلادي/ التي سقطت من زجاج القطار/ غير منديل أمي وأسباب موت جديد«.

 محمد عبد الله

حيوية متفجرة 
المكانة التي يحتلها محمود درويش في أدبنا الحديث مكانة فريدة، وأبرز ما فيها أنها لم تستقر على ثوابت أو إنجازات نهائية، بل ظلت جياشة، محفوفة بالقلق، خصوصا في مراحلها الأخيرة. لقد ظلت تجربة درويش الشعرية حيوية ومتفجرة على الدوام، ربما هي كفلسطين، بل هي فلسطين في تحولاتها المأسوية، وفي تقلبها المرير في العذاب والأمل. لكن محمود درويش عاش القلق على أنواعه، وبالأخص ذلك القلق الإبداعي الذي توهجت قصائده في ضوئه.

 جودت فخر الدين

أمير المفاجآت 
هل حقا مات؟ اذاً في الأمر خيانة، فمحمود لا يتنازل بهذه السهولة. صحيح انه كان في شعره أمير المفاجآت، لكن ان كان مات حقاً فهو قد فاجأ نفسه هذه المرة، فقصيدة موته لا تعجبنا، ولو نشرت في الأرض كلها، ورددها الناس كلهم، لأنها قصيدة يتساوى فيها محمود مع كل الذين يموتون ومحمود لا يتنازل بهذه السهولة. إذاً في الأمر خيانة. ثمة من يريدنا أن نصدق ذلك لنكسر أقلامنا، او ثمة من يريدنا ان ننسى فلسطين وشمس الحرية، او ان نشعر باليتم، ليجتاحنا طوفان الهزيمة. هل حقاً مات؟ تأكدوا جيداً من الخبر، محمود لا يتنازل بهذه السهولة.

 غسان مطر

محمـود درويــش بشعــره 
 لم أكن بعد أعرف عادات أمي، ولا أهلها عندما جاءت الشاحنات من البحر. لكنني كنت أعرف رائحة التبغ حول عباءة جدي ورائحة القهوة الأبدية منذ ولدت كما يولد الحيوان الأليف هنا، دفعة واحدة. ... نحن أيضاً لنا صرخة في الهبوط إلى حافة الأرض.
لكننا لا نخزن أصواتنا في الجرار العتيقة... أحلامنا لا تطل على عنب الآخرين... نحن أيضاً لنا سرنا عندما تقع الشمس عن شجر الحور: تخطفنا رغبة في البكاء على أحد مات من أجل لا شيء مات، وتجرفنا صبوة لزيارة بابل أو جامع في دمشق، وتذرفنا دمعة من هديل اليمامات في سيرة الوجع الخالدة.
ـ ... إلى أين تأخذني يا أبي؟
ـ إلى جهة الريح يا ولدي...
ـ ومن يسكن البيت من بعدنا يا أبي؟
ـ سيبقى على حاله مثلما كان يا ولدي!
... تحسس مفتاحه مثلما يتحسس أعضاءه، واطمأن. ... »يا ابني تذكر، هنا صلب الإنجليز أباك على شوك صبارة ليلتين، ولم يعترف أبداً. سوف تكبر يا إبني، وتروي لمن يرثون بنادقهم سيرة الدم فوق الحديد...«.
ـ ... لماذا تركت الحصان وحيداً؟
ـ كي يؤنس البيت، يا ولدي، فالبيوت تموت إذا غاب سكانها...
[[[
... ويقول أب لإبنه: كن قوياً كجدك! واصعد معي تلة السنديانة الأخيرة \ يا ابني تذكر: هنا وقع الإنكشاري عن بغلة الحرب فاصمد معي لنعود.
ـ متى يا أبي؟
ـ غداً، ربما بعد يومين يا ابني !
[[[
... هل تعبت من المشي يا ولدي، هل تعبت ؟
ـ نعم يا أبي.
ـ ... نعود إلى البيت، هل تعرف الدرب يا ابني؟ نعم يا أبي...
ـ هل تعرف البيت، يا ولدي؟
مثلما أعرف الدرب أعرفه: ياسمين يطوق بوابة من حديد ودعسات ضوء على الدرج الحجري وعباد شمس يحدق في ما وراء المكان... وفي باحة البيت بئر وصفصافة وحصان وخلف السياج غد يتصفح أوراقنا.
ـ يا أبي هل تعبت؟ أرى عرقاً في عيونك؟
ـ يا ابني تعبت.. أتحملني ؟
ـ مثلما كنت تحملني يا أبي، وسأحمل هذا الحنين إلى أولي وإلى أوله وسأقطع هذه الطريق إلى آخري وإلى أخره. (لماذا تركت الحصان وحيداً ١٩٩٥)
[[[
هناك، عرفت من آثار النكبة المدمرة ما سيدفعك إلى كراهية النصف الثاني من الطفولة. فإن كنزة صوف واحدة، منتهية الصلاحية، لا تكفي لعقد صداقة مع الشتاء . ستبحث عن الدفء في الرواية، وستهرب مما أنت فيه إلى عالم متخيل مكتوب بحبر على ورق. أما الأغاني فلن تسمعها إلا من راديو الجيران. أما الأحلام فلن تجد متسعاً لها في بيت طيني، مبني على عجل كقن دجاج، يحشر فيها سبعة حالمين، لا أحد منهم ينادي الآخر باسمه منذ صار الإسم رقماً. الكلام إشارات يابسة تتبادلونها في الضرورات القصوى، كأن يغمى عليك من سوء التغذية...
تتذكر مذاق العسل الجارح الذي كان جدك يرغمك على تناوله فتأبى، وتهرب من مشهد جدتك التي تضع المنخل على وجهها لتتقي عقصات النحل وتقطف الشهد بيد جريئة. كل شيء هنا برهان على الخسارة والنقصان. كل شيء هنا مقارنة موجعة مع ما كان هناك. وما يجرحك أكثر هو أن »هناك« قريبة من »هنا«. جارة ممنوعة من الزيارة. ترى إلى حياتك التي يتابعها مهاجرون من اليمن دون أن تتدخل في ما يفعلونه بها، فهم أصحاب الحق الإلهي وأنت الطارئ اللاجئ. (لماذا تركت الحصان وحيداً).
[[[
وعشت لأن يداً إلهية حملتك من عين العاصفة إلى واد غير ذي زرع. وعشت في منزلة الصفر، أو أقل أو أكثر.
... وعشت لأن يداً إلهية أنقذتك من حادثة. عشت في كل مكان كمسافر في قاعة انتظار في مطار يرسلك، كبريد جوي، إلى مطار... عابراً عابراً بين اختلاط الهنا بالهناك، وزائراً متحرراً من واجبات التأكد من أي شيء.
وعشت لأن كثيراً من الرصاص الطائش مرّ من بين ذراعيك ورجليك ولم يصبك في قلبك، كما لم يشج حجر طائر في رأسك. (في حضرة الغياب ٢٠٠٦)
[[[
على هذه الأرض ما يستحق الحياة: على هذه الأرض سيدة الأرض، أم البدايات أم النهايات. كانت تسمى فلسطين. صارت تسمى فلسطين. سيدتي: أستحق لأنك سيدتي، أستحق الحياة. (ورد أقل).
[[[
أحبك خضراء. يا أرضُ خضراءَ. تفاحة تتموج في الضوء والماء. خضراء. ليلك أخضر. فجرك أخضر. فلتزرعيني برفق... برفق يد الأم، في حفنة من هواء. أنا بذرة من بذورك الخضراء. (لاعب النرد)
[[[
وحين أعود للبيت و حيداً فارغاً، إلا من الوحدة / يداي بغير أمتعة، وقلبي دونما ورده / فقد وزعت ورداتي على البؤساء منذ الصبح... وحين أعود للبيت
أحس بوحشة البيت وأخسر من حياتي كل ورداتي وسرّ النبع.. نبع الضوء في أعماق مأساتي وأختزن العذاب لأنني وحدي بدون حنان كفيك / بدون ربيع عينيك! ... (قصيدة »أغنية«)
[[[
إن لم تكن حجراً يا حبيبي فكن قمراً في منام الحبيبة.. كن قمراً. هكذا قالت امرأة لابنها في جنازته. (حالة حصار)
[[[
مات ما فات فمن يكتب قصيدة في زمان الريح والذرة يخلق أنبياء.
... قصائدنا بلا لون بلا طعم بلا صوت إذا لم تحمل المصباح من بيت إلى بيت وإن لم يفهم البسطاء معانيها فأولى أن نذريها ونخلد نحن للصمت (عن الشعر)
[[[
تفاحةٌ للبحر، نرجسة الرخام، فراشةٌ حجريةٌ بيروت
شكل الروح في المرآة
وصف المرأة الأولى ورائحة الغمام
بيروت من تعب ومن ذهب، وأندلس وشام.
فضّة، زبد، وصايا الأرض في ريش الحمام.
وفاة سنبلة، تشرّد نجمة بيني وبين حبيبتي بيروت.
لم أسمع دمي من قبل ينطق باسم عاشقة تنام على دمي... و تنام ...
من مطر على البحر اكتشفنا الإسم، من طعم الخريف وبرتقال
القادمين من الجنوب، كأنّنا أسلافنا نأتي إلى بيروت كي نأتي إلى
بيروت ... (بيروت)
[[[
يسألني المتعبون، أو المارة الحائرون عن إسمي فأجهله.. إسألوا عشبة في طريق دمشق! وأمشي غريباً وتسألني الفتيات الصغيرات عن بلدي
فأقول: أفتش فوق طريق دمشق وأمشي غريباً ويسألني الحكماء المملون عن زمني فأشير / حجر أخضر في طريق دمشق / وأمشي غريباً
ويسألني الخارجون من الدير عن لغتي فأعد ضلوعي وأخطئ / إني تهجيت هذي الحروف فكيف أركبها؟
دال. ميم. شين. قاف فقالوا: عرفنا - دمشق! ابتسمت. شكوت دمشق إلى الشام كيف محوت ألوف الوجوه وما زال وجهك واحد! (طريق دمشق)
[[[
(إلى جمال عبد الناصر)
متى يا رفيقي؟ متى يا عزيزي؟ متى نشتري صيدلية بجرح الحسين.. ومجد أميّة ونبعث في سدّ أسوان خبزاً وماء ومليون كيلواط من الكهرباء؟
أتذكر؟ كانت حضارتنا بدوياً جميلا يحاول أن يدرس الكيمياء ويحلم تحت ظلال النخيل بطائرة.. وبعشر نساء ولست نبياً ولكن ظلك أخضر.. نعيش معك نسير معك نجوع معك وحين تموت نحاول ألا نموت معك ففوق ضريحك ينبت قمح جديد وينزل ماء جديد و أنت ترانا.
نسير
نسير
نسير . (الرجل ذو الظل الأخضر)
[[[
أغلقوا المشهد/ انتصروا/ عبروا أمسنا كله، غفروا/ للضحية أخطاءها عندما اعتذرت/ عن كلام سيخطر في بالها، غيروا جرس الوقت/ وانتصروا...
... التفتنا إلى دورنا في الشريط الملوّن، لكننا لم نجد نجمةً للشمال ولا خيمةً للجنوب. ولم نتعرّف على صوتنا أبداً. لم يكن دمنا يتكلّم في الميكروفونات في ذلك اليوم، يوم اتّكأنا على لغةٍ بعثرت قلبها عندما غيّرت دربها. لم يقل أحدُ لامرئ القيس: ماذا صنعت بنا وبنفسك؟، فاذهب على درب قيصر، خلف دخان يطلّ من الوقت أسود. واذهب على درب قيصر، وحدك، وحدك، وحدك، واترك لنا، ههنا، لغتك! (خلاف، غير لغوي، مع امرئ القيس)
[[[
خسرت حلماً جميلاً، خسرت لسع الزنابق، وكان ليلي طويلاً، على سياج الحدائق، وما خسرت السبيلا. (موال)
[[[
وسآتي إلى ظل عينيك.. آت/ وردة أزهرت في شفاه الصواعق، قبلة أينعت في دخان الحرائق فاذكريني.. إذا ما رسمت القمر فوق وجهي، وفوق جذوع الشجر مثلما تذكرين المطر وكما تذكرين الحصى والحديقة واذكريني، كما تذكرين العناوين في فهرس الشهداء. أنا صادقت أحذية الصبية الضعفاء أنا قاومت كل عروش القياصرة الأقوياء لم أبع مهرتي في مزاد الشعار المساوم لم أذق خبز نائم لم أساوم لم أدق الطبول لعرس الجماجم و أنا ضائع فيك بين المراثي وبين الملاحم بين شمسي وبين الدم المستباح جئت عينيك حين تجمد ظلي والأغاني اشتهت قائليها أريد مزيداً من العمر كي يعرف القلب أهله، وكي أستطيع الرجوع إلى... ساعة من تراب. (ورد أقل)
[[[
من أنا؟ أنشيد الأناشيد أم حكمة الجامعة؟ وكلانا أنا وأنا شاعر وملك وحكيم على حافة البئر، لا غيمة في يدي ولا أحد عشر كوكباً على معبدي. ضاق بي جسدي ضاق بي أبدي وغدي...
وكلما صادقت أو آخيت سنبلة تعلمت البقاء من الفناء وضده: »أنا حبة القمح التي ماتت لكي تحضر ثانية. وفي موتي حياة ما...
فنم هادئاً إذا ما استطعت إلى ذلك سبيلا / ونم هادئاً في كلامك واحلم بأنك تحلم، نم هادئاً ما استطعت، سأطرد عنك البعوض ودمع التماسيح، والأصدقاء الذين أحبوا جروحك وانصرفوا عنك حين جعلت صليبك طاولة للكتابة.
نم هادئاً قرب نفسك/ نم هادئاً، سوف أحرس حلمك، وحدي ووحدك في هذه الساعة/ الأرض عالية كالخواطر عالية والسماء مجازية كالقصيدة زرقاء، خضراء، بيضاء، بيضاء، بيضاء، بيضاء. (في حضرة الغياب).
(النصوص من اختيار هنادي سلمان)


كي نعمل معاً من أجل أن تستعيد الأرض كلامها 
  وجهت مجموعة من اصدقاء الشاعر الكبير محمود درويش هذا النداء:
في هذه اللحظات المليئة بالأسى، ونحن نودع شاعرنا الكبير محمود درويش، نرى الحزن مرسوما على خريطة فلسطين، ونشعر بفداحة الخسارة التي جاءت تتويجا لزمن الخسارات الذي نعيش.
هذا النداء موجه الى اهلنا في فلسطين الذين كان درويش وسيبقى شاعر الحلم والمعنى في ارضهم. وهو نداء يتعلق بحق شاعر الجليل في ان يعانق ارض الجليل ويستريح في المكان الذي شهد ولادته الشعرية، وملأ قصائده بعطر اللوز والزيتون.
يحق لابن الجليل وشاعره ان يدفن في ارضه، ويجب ان لا يكون في مقدور احد ان يمنع هذا الفلسطيني الكبير من العودة الأخيرة الى بلاده.
هذا نداء موجه الى الجميع، كي نعمل معا من اجل ان تستعيد الأرض جسد كلامها، الذي صار شعرا عظيما كتبه شاعر عظيم.
وقع النداء: طه محمد علي، انطوان شلحت، رمزي سليمان، محمد بكري، محمد علي طه، محمد نفاع، سهام داوود، انطون شماس، ليلى شهيد، سليم بركات، مارسيل خليفة، الياس صنبر، محمد برادة، فاروق مردم، صبحي حديدي، عباس بيضون، فواز طرابلسي ، الياس خوري. 
 
دمعة لمحمود درويش 
في التاريخ شعوب كثيرة اكتشفت نفسها من خلال اسطورة، رواية، ديوان شعر، تمثال، أو لوحة، او حتى ايقاع موسيقي، تحول الى لغة محكية، الى ثقافة متجددة، ثم الى حضارة لا تزال حية الى اليوم... لأنها كانت اقوى من بقية اشكال الهوية الوطنية وأسلحتها.
في التاريخ العربي والاسلامي، دول عديدة قامت على النص القرآني الاول، الذي هو اشبه بالشعر، وعلى دواوين وقصائد، كان بعضها بمثابة البيان الرقم واحد، وكان بعضها الآخر بمثابة النعي الرسمي الاخير. لكنها كلها كانت، وحتى ما جاء منها من الحقبة الجاهلية، تعلن ولادة امة، بكل ما للكلمة من معنى.
كان الشعر العربي على الدوام وثيقة الميلاد الوحيدة المعترف بها، وسجل اليوميات الرسمية للدولة واحوالها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكان الشاعر مثل الوزير الاول الذي يضبط امور الخلافة ورئيس الاركان الذي يعبئ الجيوش والبرلمان الذي يمارس المراقبة والمحاسبة، والموسيقي الذي يعزف لحن الموت في وداع الخليفة، وفي رثائه الخالد على مر العصور.
لم يخرج محمود درويش عن هذا التقليد العربي العريق. لعله كان احد ابرز الشعراء العرب الذين احترموه وحافظوا عليه، برغم انه لم يتح له ان يكون شاعر بلاط او دولة او حتى ثورة، بل ظل شاعر قبيلة عربية خانها الدهر، فلم يتركها يوما من حياته، ورافقها حتى اللحظة الاخيرة وهي تهيم في البراري بحثا عن وطن وعن هوية.
كانت اعوامه الـ٦٧ عمرا كاملا لفلسطين، وشاهدا على ترحالها الطويل: من الاحتلال الى المنفى الى البندقية الى الوثيقة الى التوقيع.. ثم الى ما يشبه العودة التي تعادل الانكسار. سبعة عقود كانت مثبتة بالوقائع والصور والالوان في دواوينه وقصائده التي تتنقل في الشتات مثل نص تأسيسي للوعي الوطني الفلسطيني في القرن العشرين.
كانت الرحلة الشخصية شاقة جدا، لكنها كانت تختزل مسيرة القبيلة كلها : من الداخل كانت البداية، بالفكرة الشيوعية التي بدت لفترة ملاذ القضية وسلاحها الوحيد، الى القاهرة التي صارت محركها العربي الابرز، الى بيروت التي باتت ملجأها العلني، الى عمان التي كانت محطتها الالزامية، ثم الى عواصم بعيدة عن حدود الوطن، قبل العودة بشروط صعبة الى العاصمة الافتراضية رام الله.. قبل النهاية المعبرة، في احد مستشفيات اميركا.
كان لا بد من ان تنتهي الرحلة على هذا النحو المفجع، بعدما شعر للمرة الاولى بالغربة عن القبيلة التي حماها برموش عينيه وروح قصائده، عندما استعادت اسوأ ما في التاريخ العربي واكثره عيبا، ولجأت الى الغزو والحرق والسبي في مضارب الخيم نفسها التي كانت تشكل مشروعا للدولة، وقاعدة للوطن، ومصدرا للشعر.. عندها اعلن الشاعر ان كل شيء قد ضاع، وقرر ان يسير بسرعة اكبر نحو الموت الذي كان ينتظره منذ عشرين عاما.
كان محمود درويش هوية فلسطينية ثانية، صارية يرفع عليها العلم الفلسطيني، نشيدا وطنيا يغنَّى كل صباح. لن تجد القبيلة من بعده من يكتب اعلان الاستقلال.. وإذا وُجد فلن يكون من هواة الشعر ولا من غواة الحب.

 ساطع نور الدين 

 

المصدر: السفير
   

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...