تركيا العلمانية: المؤسسة العسكرية فوق الجميع
الجمل: بدءاً من يوم 1 أيلول 2006م تقلد الجنرال ياسار بويوكانيت، منصب رئيس الأركان في الجيش التركي، خلفاً للجنرال حلمي أوزكوك.. والجدير ذكره أن تعيين الجنرال ياسار بويوكانيت قد ووجه بمعارضة شديدة في أوساط الرأي العام التركي وذلك بسبب هويته اليهودية.
الدستور التركي الذي تم وضعه منذ فترة كمال أتاتورك، يختلف عن الدساتير العادية التي تقوم على موازنة العلاقات بين السلطات التقليدية الثلاث: التشريعية، التنفيذية والقضائية، وذلك بأن أعطى المؤسسة العسكرية دوراً وظيفياً يقوم على أساس اعتبارات أنها الحارسة للعلمانية، وبالتالي أصبحت العملية السياسية تقوم في تركيا على النحو الآتي:
- السلطة التشريعية (أي البرلمان التركي) تضع القوانين والتشريعات.
- السلطة التنفيذية (أي الحكومة) تقوم بتسيير دولاب العمل في الدولة.
- السلطة القضائية تصدر الأحكام.
- المؤسسة العسكرية تراقب الأداء وفقاً لمعيار اتساقه مع العلمانية، وفي حالة الانحراف عن العلمانية، فإن المؤسسة العسكرية تقوم بالتدخل طالما أن واجبها الدستوري هو حماية وحراسة العلمانية.
أدت هذه الهيكلية إلى المزيد من التعقيدات في العملية السياسية التركية، فمثلاً رئيس الجمهورية لابدّ أن توافق المؤسسة العسكرية على ترشيحه، بعد التأكد من (التزامه بالعلمانية).. كذلك لا تستطيع الأغلبية البرلمانية اتخاذ أي قرار أو إصدار أي قانون ترى المؤسسة العسكرية أنه مخالف للعلمانية.. وحالياً أصبح قادة المؤسسة العسكرية التركية يستخدمون مصطلح (علمانية) بنفس الطريقة التي تستخدم بها أمريكا مصطلح (إرهاب).
إسرائيل والولايات المتحدة باعتبارهما القوى الأكثر نفوذاً في تركيا، تدعمان بشدة رئيس الأركان بإرساء بويوكانيت، وحليفه الرئيس نجدت سيزر، أما رجب طيب أردوغان رئيس الوزراء وزعيم حزب العدالة والتنمية، فيجد الدعم من البرلمان والشارع التركي، وعلى هذا النحو برز الصراع بين المؤسسة العسكرية ورئيس الجمهورية من جهة، والبرلمان ورئيس الوزراء من الجهة الأخرى على النحو الآتي:
• العلمانية في مواجهة الإسلام: صرح رئيس الأركان الجديد بويوكانيت في يوم 2 تشرين الأول، أن واجب المؤسسة العسكرية الدستوري يتمثل في محاربة التوجهات الإسلامية التي بدأت تبرز في الشارع التركي.. كذلك صرح الرئيس سيزر قائلاً: إن العلمانية هي السبيل الأمثل لتركيا.. وأيد تصريحات رئيس الأركان حول رغبة المؤسسة العسكرية بالتصدي للحركات الإسلامية داخل تركيا.. ومن الجهة الأخرى أعلنت الأحزاب الإسلامية عن رفضها لهذه التصريحات، ومن بينها حزب العدالة والتنمية، الإسلامي التوجه، والذي يسيطر على ثلث مقاعد البرلمان، وقد طالب بولينت أرينيس (الناطق الرسمي باسم البرلمان التركي ونائب رئيس حزب العدالة والتنمية) بضرورة إعادة تعريف مصطلح (علمانية).. وذلك لأن الإسلام يشكل مكوناً هاماً في الهوية التركية، كذلك رأى أيضاً أن التوجهات الإسلامية لا تتناقص مع العلمانية، وبالتالي يتوجب أن لا يتم استغلال موضوع العلمانية كذريعة للحرب ضد الإسلام في تركيا.
• الحرب ضد الإرهاب: يتشدد الجنرال بويوكانيت رئيس أركان المؤسسة العسكرية التركية ومعه سيزر رئيس الجمهورية في دعم الحرب الأمريكية ضد الإرهاب، بينما يحاول رئيس الوزراء التركي أردوغان والبرلمان وضع بعض التحفظات على ذلك، وقد برز الخلاف بين الطرفين بشكل بارز عندما قابل أردوغان السيد خالد مشعل زعيم حركة حماس، فقد اعتبر رئيس الأركان أن حركة حماس إرهابية، وأبدى عدم الموافقة على ذلك.
• السياسة الخارجية: يعمل أردوغان والبرلمان باتجاه تعزيز العلاقات مع الدول العربية والإسلامية، بينما يضغط رئيس الأركان بويوكانيت والرئيس سيزر باتجاه تعزيز العلاقات مع أمريكا والغرب وإسرائيل.. ومن أمثلة التنافس على ذلك أنه في الوقت الذي كان فيه اردوغان يقوم بجولة في بعض البلدان العربية والإسلامية، قام الرئيس سيزر بزيارة إسرائيل، واستقبل رئيس الأركان وفداً عسكرياً إسرائيلياً.
التناقض والتنافس بين البرلمان التركي ورئيس الوزراء أردوغان من جهة، ورئيس الجمهورية سيزر ورئيس الاركان بويوكانيت من جهة أخرى، يتوقع له الكثير من المراقبين والمحللين أن يتصاعد بسبب عباملين:
- النهوض الإسلامي في الشارع التركي، إضافة إلى تزايد العداء ضد أمريكا وإسرائيل والذي برز بوضح خلال فترة العدوان الإسرائيلي ضد لبنان.
- التدخل الإسرائيلي والأمريكي المتزايد في الشؤون التركية، والهادف إلى استئصال التقاليد الإسلامية، ونزع تركيا من سياق بيئتها الإقليمية.
وتشير الاحتمالات المستقبلية إلى أن تصاعد حدة المواجهة قد يؤدي إلى حدوث بعض السيناريوهات أبرزها:
- انقلاب داخل المؤسسة العسكرية بوساطة العناصر المؤيدة للشارع التركي وهويته الإسلامية، خاصة أن هذا ا لتوجه يجد تأييداً كبيراً في أوساط الجنود وصغار الضباط.
- إصرار الشارع التركي على دعم التيارات والأحزاب الإسلامية، سيؤدي إلى المواجهة بين المؤسسة العسكرية والمؤسسة السياسية.
- استسلام الشارع التركي للتوجهات العلمانية، وقبوله بالأمر الواقع وحدوث هذا الأمر مشروط بانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، والذي تعارضه معظم الدول الأوروبية وبالذات فرنسا وألمانيا وبريطانيا والسويد.
إزاء كل الاحتمالات وتوازنات المواقف، حالياً تراهن المؤسسة العسكرية التركية ومؤسسة رئاسة الجمهورية على العلمانية والانضمام للاتحاد الأوروبي، بينما تراهن تيارات وأحزاب الأغلبية الشعبية في تركيا على الشارع التركي، مع تقديم بعض التنازلات للمؤسسة العسكرية ومؤسسة رئاسة الجمهورية، من أجل كسب الوقت، بحيث يتسنى لها تجميع زخم الشارع التركي، ثم حسم الأمر في النهاية مع العسكريين ودستور كمال أتاتورك، فهل يا ترى سوف تشهد تركيا، قيام ثورة، على غرار الثورة الإيرانية، وبرغم صعوبة التنبؤ، إلا أنه كما يقول المثل الانجليزي: دعنا ننتظر.. ونرى.. لمن المستقبل في تركيا: للشعب التركي.. أم لنموذج الدولة الأنجلو-ساكسونية المدعوم إسرائيلياً وأمريكياً.
الجمل: قسم الدراسات والترجمة
إضافة تعليق جديد