حوار في العمق: من أجل التقريب الحقيقي بين المسلمين (6-7)
الجمل: حين يُعنى بتدوين تاريخ أمة وقد ظهرت فيها الاختلافات، وتوزعت أبناءَها المذاهبُ، وتَغلَّبت الأهواءُ التي تفرض هيمنتها في صياغة أفكار الناس ورؤيتَهم للأحداث، عندئذٍ أين سيقف التاريخ ؟ هل سيكون بعيداً عن معترك الميول والأهواء، منفصلاً عن قيود الزمان والمكان ليسجل الأخبار والأحداث كما هي تماماً، وبكامل أسبابها ومقدماتها وتفاصيلها وما خلفته من آثار، يُسجلها كما هي قبل أن تنفعل معها الميول والأهواء ؟
لا شك أن هذا هو الأمل المنشود، وهو الذي تقتضيه الأمانة للتاريخ وللحقيقة. ولكن لا شك أيضاً أن التاريخ لم يكتب في الفضاء، ولا كان المؤرخ يستقلُّ بساطاً سحرياً يُقلُّه فوق آفاق زمانه ومكانه. إنه يكتب من على الأرض، وفي زمانٍ ما ومكانٍ ما. وإنه يكتب ما يسمع، لا ما يرى. وإنما يُحدِّثُه رجال لهم حيال الأحداث مواقف وميول، فهو لم يسمع في الحقيقة حدثاً مجرداً، وإنما سمع الحَدَث ممزوجاً به انفعالات الناقلين. وأيضاً فإن المؤرِّخ نفسه هو واحد من أولئك البشر، يعيش في عصر من الأعصار... وللبشر ميول، ولكل عصر لونه ونغماته. وحين يكون عصر من العصور قاسياً في مواجهة ما لا يتَّفقُ ونغماته، فإنما جاءت قسوته من أُناسه، فالمؤرخ يكتب حين يكتب وهو يرى عيون الناس وكأنها ترصد أفكاره، وتحصي عليه حتى ما لم يرِدْ بحسبانه !.
ففي أحوال كهذه هل يبعد أن يكون المؤرخ مسوقاً من حيث يدري أولاً يدري لواحدة أو أكثر من تلك المؤثرات الواقعية ؟ إنه عندئذٍ سوف يقتطع من الحقيقة التاريخية أجزاءً مساويةً لمقدار ذلك الانسياق.
ولعل هذا هو أضعف الأخطار الثلاثة التي قد تتعرض لها الحقيقة التاريخية.
- أما الخطر الثاني: فيتمثل بالانسياق التام لنغمات العصر وأهواء أهله.
- وأما الخطر الثالث: فيتمثل في كون المؤرخ نفسه من أصحاب الأهواء الذين لا يقبلون إلا ما وافق أهواءهم، ولا ينظرون إلى الأحداث إلا بمنظار الهوى.
بعد هذا، فإن التاريخ الذي سيكتبه هذا المؤرخ أو ذاك سوف يُصبح مصدراً لثقافة الأجيال، تستقي منه رؤيتها للتاريخ، والتي ستساهم مساهمة فعالةً في صياغة عقائدها. فحين يجتمع الناس على واحد من هذه المصادر التي استجابت لبعض تلك المؤثرات على حساب الحقيقة التاريخية، فمن البديهي أن تحمل أذهانهم برؤى مغايرةً للحقيقة. ومن هنا تتسرب العقائد الدخيلة إلى الأذهان، فيعتقد الناس بأشياء ومفاهيم ليست هي من الإسلام ومفاهيمه الحقة، وهم يظنون أنها الحق. وسوف لا يكون العوام وحدهم ضحية هذه الخطيئة، بل العلماء أيضاً، حين يقفون علومهم على هذه المصادر دون محاكمة وتمحيص.
والسؤال : كيف اجتازت عيون التاريخ الإسلامي تلك الأجواء والمؤثرات لتحفظ لنا حقائقه ؟
لا شك أن الوقوف على المشاهد الحية لإثبات حقيقةٍ ما هو أهم بكثير من البحوث النظرية والبراهين الفلسفية. وهذا ما سنكتفي به هنا.
ب – مشاهد حية :
المشهد الأول :
قال الزبير بن بكار: قَدِم سليمان بن عبد الملك إلى مكة حاجاً سنة 82 هـ فأمر أبان بن عثمان أن يكتب له سِيَرَ النبي (ص) ومغازيه. فقال له أبان : هي عندي قد أخذتها مصحَّحة ممن أثق به. فأمر سليمان عشرة من الكتَّاب بنسخها، فكتبوها في رِقٍّ، فلما صارت إليه نظر فإذا فيها ذكر الأنصار في العَقَبتين وفي بدر، فقال : ما كنت أرى لهؤلاء القوم هذا الفضل ، فإما أن يكون أهل بيتي غَمَطوا عليهم حقهم، وإما أن يكونوا ليس كذلك ! فقال له أبان : أيها الأمير، لا يمنعنا ما صنعوا أن نقول بالحق، هم على ما وصفنا لك في كتابنا هذا. فقال سليمان: ما حاجتي إلى أن أنسخ ذاك حتى أذكره لأمير المؤمنين لعله يُخالفه. ثم أمر بالكتاب فخُرِّق، ورجع فأخبر أباه عبد الملك بن مروان بذلك الكتاب، فقال عبد الملك : ما حاجتك أن تَقدِم بكتاب ليس لنا فيه فضل، تُعرِّف أهل الشام أموراً لا نريد أن يعرفوها ؟!
قال سليمان : فلذلك أمرت بتخريق ما نسخته (1) !
المشهد الثاني:
حدث المدائني عن ابن شهاب الزهري أنه قال : قال لي خالد القسري (2) : أكتب لي السيرة. فقلت له : فإنه يمر بي الشيء من سير علي بن أبي طالب، فأذكره؟ قال : لا، إلا أن تراه في قعر الجحيم (3) .
وكتب الزهري مغازيه، وجُلَّها رواه عبد الرزاق في مصنفه، فمن قرأها وجد علياً رجلاً غريباً على السيرة ليس له فيها خبر ولا أثر، مع أن الزهري لا يمر على أثرٍ لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما إلا فصّل فيه وزينه. أما عليَّ فلا ذكر له في مغازي الزهري : لا في العهد المكي بطوله، ولا في الهجرة.
ولا في المؤاخاة، ولا في بدر، ولا في أُحد، ولا في الخندق، ولا في خيبر، ولا حنين، ولا فتح مكة، ولا في غزوة تبوك، ولا في حجة الوداع، ولا في غير ذلك ! ومع هذا فإن الزهري كان يتهم شيخه الأول بالانحراف عن علي وبني هاشم !
فقد كان أكثر اعتماد الزهري في مغازيه على رواية شيخه عروة بن الزبير، وكانت أكثر رواية عروة عن أُمّ المؤمنين عائشة، فيما كان الزهري يقول فيهما معاً: إني اتهمهما.
في بني هاشم...
قال مَعْمَر : كان عند الزهري حديثان عن عروة عن عائشة في علي، فسألته عنهما يوماً، فقال : ما تصنع بهما وبحديثهما؟ الله أعلم بهما! إني لأتهمهما في بني هاشم (4).
وروى الزهري أيضاً حديث عُبيد الله بن عبد الله بن عُتبة عن السيدة عائشة في مرض رسول الله (ص) إذ قالت: فخرج ويد له على الفضل بن العباس ويد أخرى على رجل آخر، وهو يخط برجليه في الأرض.
قال عُبيد الله : فحدثت فيه عبد الله بن عباس، فقال : أتدري من الرجل الذي لم تسم عائشة؟ هو علي بن أبي طالب، ولكن عائشة لا تطيب لها نفس بخير (5).
المشهد الثالث :
إن عروة بن الزبير كان من أول من صنف في المغازي والسيِرَ. فإذا كان ذلك هو نصيب علي في مغازي الزهري، فكيف هو في مغازي عروة ؟ لقد تجاوزت مغازي عروة نصيب عليّ إلى نصيب غيره من بني هاشم ! فقد حدّث يزيد بن رومان عن عروة وهو يروي قصة مُهاجرة الحبشة وحديث النجاشي معهم، فقال فيه : إنما كان يكلم النجاشي عثمان بن عفان (6). هذا فيما تسالم أصحاب الحديث والسير أنّ ذلك كان جعفر بن أبي طالب !! وحديث عروة هذا بين جعفر وعثمان رضي الله عنهما هو من صنف ما سخر منه الزهري من صنيع أتباع بني أميه في التاريخ. قال معمر : سألت الزهري عن كاتب الكتاب يوم الحديبية؛ فضحك، وقال: هو علي بن أبي طالب، ولو سألت هؤلاء – يريد بني أمية – لقالوا : عثمان (7).
المشهد الرابع :
في قصة أبي ذر رضي الله عنه مع بني أُميّة، قال الطبري: في سنة 30 هـ كان ما ذُكر من أمر أبي ذر ومعاوية، وإشخاص معاوية إياه، أمور كثيرة كرهت ذكر أكثرها، فأما العاذرون معاوية فإنهم ذكروا في ذلك قصة كتب بها إلي السريِّ يذكر أن شعيباً حدَّثه سيف...)) ثم يسرد الطبري هذه القصة مردداً بين فقراتها : قال سيف، قال سيف، حتى أتى على آخرها، ثم قال: وأما الآخرون فإنهم رووا في سبب ذلك أشياء كثيرة وأموراً شنيعة كرهت ذكرها (8).
إذن لا شيء عن هذا الحدث الكبير الذي يكشف عن كثير من أسرار التاريخ إلا ما يرويه العاذرون معاوية، ولا أحد يستند إليه العاذرون معاوية إلا سيف بن عمر الذي أجمع أصحاب الجرح والتعديل على أنه (( كذاب، يضع الحديث، وأنه كان يتزندق )).. ثم من بعد سيف راويته المجهول شعيب !! ولا شيء بعد ذلك.
أما العاذرون أبا ذر فلا شيء عنهم في هذه الموسوعة التاريخية الكبرى ! وكذلك كان مع أهم مراحل التاريخ الإسلامي وأكثرها حساسيّة، تلك المرحلة التي ابتدأت بوفاة الرسول الأكرم (ص) وانتهت بانتهاء معركة الجمل... هذه المرحلة بطولها وضخامة أحداثها، لا شيء عنها في تاريخ الطبري إلا ما كان يقصه سيف. حتى إذا توقفت رواية سيف مضى الطبري على هذه الوتيرة، لا يُثبتُ في تاريخه أمراً لا يرتضيه العاذرون معاوية، فعندما وقف على المكاتبات التي جرت بين معاوية ومحمد بن أبي بكر، قال: كرهت ذكرها لما فيه مما لا يَحتملُ سماعَه العامة (9) !. وهذا كلام صريح في تحديد هوية الثقافة التي حملتها العامة!!
إنها الثقافة التي تستقيم تماماً مع ما يرويه العاذرون معاوية.. الثقافة التي اتهمت الطبري نفسه، مع تحفظه الشديد هذا اتهمته بالتشيع!!
ثم جاء التابعون للطبري فنقلوا عنه ما كتبه، ثم زادوا على ذلك بأن ارتكبوا خطأ علمياً وتاريخياً لا يُغتفر، وذلك حين جزموا بصحة كل ما رواه الطبري من أحداث هذه السنين، وجزموا بكذب كل ما أعرض عنه الطبري من أخبارها، ذلك الأمر الذي تبرأ منه الطبري في مقدمة تاريخه إذ قرر أنه إنما يروي ما يرويه بذكر أسانيده الكاملة لتكون تبعاته على رواته لا عليه هو، وما على القارئ إلا أن ينظر في أحوال الرواة. أما التابعون للطبري فقد عمدوا إلى هذه الأسانيد فحذفوها، ثم صححوا الروايات واعتمدوها... قال ابن الأثير في التعريف بكتابه ( الكامل في التاريخ ) :
ابتدأت بالتاريخ الكبير الذي صنفه الإمام أبو جعفر الطبري فلما فرغت منه أخذت غيره من التواريخ المشهورة فطالعتها وأضفت منها إلى ما نقلته من تاريخ الطبري ما ليس فيه، إلا ما يتعلّق بما جرى بين أصحاب رسول الله (ص) فإنّي لم أُضِفْ إلى مانقله أبو جعفر شيئاً، وإنّما اعتمدت عليه من بين المؤرّخين إذ هو الإمام المُتقِن حقاً، الجامع علماً وصحة اعتقادٍ وصدقاً. (7)
هذا مع أنّ هذه الأحداث خاصّةً قد اقتصر فيها الطبري على رواية سيف الذي عُرف بالكذب والوضع والزندقة!!
- وقال ابن خلدون، بعد ذكر موقعة الجمل: هذا أمر الجمل ملخّصاً من كتاب أبي جعفر الطبري، اعتمدناه للوثوق به، ولسلامته من الأهواء الموجودة في كتب ابن قتيبة وغيره(11). هذا مع أن الطبري لم يوثّق ما رواه، بل ذكر اسم الراوي لِتعرفَه الناس فتُصدّق روايته إن كان صدوقاً، وترُدَّها إن كان معروفاً بالكذب واتّباع الهوى. وموقعة الجمل قد رواها الطبري عن سيف بن عمر!
- وقال ابن خلدون أيضاً بعد أن فرغ من الكلام في أمر الخلافة وأخبارها: هذا آخر الكلام في الخلافة الإسلامية وما كان فيها من الردّة والفتوحات والحروب ثمّ الاتّفاق والجماعة، أوردتها مُلخَّصةً عيونها ومجامعها من كتاب محمد بن جرير الطبري، فإنّه أوثق ما رأيناه في ذلك، وأبعد عن المطاعن والشُبَهِ في كبار الأُمّة من خيارها وعدولها من الصحابة والتابعين، فكثيراً ما يوجد في كلام المؤرّخين أخبارٌ فيها مطاعن وشُبَه في حقّهم أكثرها من أهل الأهواء، فلا ينبغي أن تُسَوّدَ بها الصحف. (12)
وهنا يُثار:
1- ما هو الميزان الذي يُعرف به صدق الأخبار وكذبها؟
أيُعرف ذلك من مساندتها للوضع السياسي في مرحلة من المراحل، وموافقتها لأهواء العامّة ورغباتها؟ أم الصحيح أن يعرف صدقها أو كذبها من خلال معرفة أحوال الرواة أنفسهم، ومطابقتها لحقيقة أحوال الناس من صحابة وغيرهم؟
2- أيّما أكثر شناعةً: الخبر الذي يفيد بأنّ صحابياً ما كان مائلاً إلى الدنيا ولم يَتَوخَّ العدل في حكمه، أم الخبر الذي يصف الصحابي بأنّه كان من أتباع اليهود والنصارى؟
إن الأخبار التي أعرض عن ذكرها هؤلاء المؤرّخون وعَدُّوها من أخبار أهل الأهواء الذين يأتون بالكلام الشنيع إنّما كانت تضع الحقَّ مع أبي ذرّ الغفاري وتصف خصومه السياسيين بالميل إلى الدنيا وعدم توخّي العدل في الحكم...
أمّا الأخبار التي رواها الطبري وعنه ابن الأثير وابن خلدون فقد دافعت حقّاً عن خصوم أبي ذرّ، ولكنّها وصفت أبا ذرّ بكلّ صراحة، ومن بعده عمّار بن ياسر، بأنّهما كانا أوّل المخدوعين باليهودي الزنديق عبد الله بن سبأ والمتأثرين بأفكاره، المندفعين وراءها في الفتنة!
فأيّ الخبرين أكثر طعناً على كبار الصحابة لو كان هذا هو الميزان المتبع في قبول الأخبار وردِّها ؟
ج - بين التاريخ والسنة الشريفة :
الأنصار، رفعت السُنّة الشريفة منزلتهم، فقال فيهم رسول الله (ص) : «الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق » (13). وقال فيهم: (( آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار )) (14). وأخبرت السنة الشريفة أن بغض الأنصار سيظهر عند قوم عن قريب، ولهؤلاء القوم غَلَبة، فسوف يستأثرون على الأنصار ويحبسون عنهم حقوقهم ويصرفونهم عن مكانتهم، فقال رسول الله (ص) للأنصار : (( ستلقون بعدي أثرةً، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض))(15).
فلما ظهر هؤلاء القوم وتغلبوا على الأمور وأبعدوا الأنصار واستأثروا عليهم، جاء التاريخ فاستأثر على الأنصار وحالف خصومهم، ناسياً أن حب الأنصار آية الإيمان، وبغضهم آية النفاق....
وهكذا كان مع أبي ذر. وقفت السنة الشريفة إلى جنبه، فقال (ص) : (( ما أقلت الغبراء، ولا أظلت الخضراء أصدق لهجةً من أبي ذر )) (16). لكن حين كذَّبه الحاكمون كذَّبه التاريخ، وحالف خصومه يصنع لهم الأعذار ولو على ألسن الكذّابين.
وعمار، حين أجاره الله من الشيطان على لسان نبيه (17)، وجعله النبي (ص) آية للفِرقةِ المحقة إذا افترق الناس، جاء خصومه فاتهموه بإتباع الشيطان وركوب الفتنة، فجاء التاريخ يصدق خصومه ويكذب فيه السُنّة الشريفة.
ولما كان عليّ هو العنوان المستهدف من قبل خصومه المتغلِّبين، كان هو وفئته عرضة لجور التاريخ على الدوام، قد حالف التاريخ خصومه على الدوام يلملم لهم الأعذار من هنا وهناك، ناسياً أن السُنّة الشريفة قد ثَبَّتت أحكامها، بأن حب عليّ فرقان بين الإيمان والنفاق، ومعاداة لله ورسوله، وحرب علي حرب لله ورسوله !!
فقد عهد النبي (ص) لعلي عهداً: (( لا يُحبِّك إلا مؤمن، ولا يُبغضُك إلا منافق )) (18). وقال فيه : (( من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه )) (19).
وقال فيه وفي أهل بيته : (( أنا حربٌ لمن حاربتم، وسلم لمن سالمتم )) (20).
وهكذا رسمت السُنَّة مساراً، وسلك التاريخ مساراً آخر !!.
فما لنا لا ننظر إلى السُنًّة الثابتة في محاكمة التاريخ ؟
وإذا كان التاريخ قد كُتب في أجواء صعبة أرغمته على متابعة المتغلِّب دائماً والإعراض عن أخبار الثقات من خصومه فقط، بل حتى عن السُنَّة الثابتة التي قد تكون سياسة المتغلِّب أحياناً حرباً صريحةً عليها، إذا كانت تلك هي ظروف التدوين، فما لنا نحن الذين أتينا من بعد لا نتنَّبه لذلك ؟ ما لنا لا نتنبه لأسرار هذه السُنَّة الشريفة التي امتدت إلى المستقبل لتكشف آفاقه ؟ فلماذا خص الأنصار بهذه العناية ؟ لماذا كان أبو ذر وحده أصدق لهجةً من كل من أقلت الغبراء وأظلت الخضراء ؟ لماذا كان عمار وحده مجاراً من الشيطان، وآية لأهل الحق؟ لماذا كان علي فرقاناً بين الإيمان والنفاق، ومن حاربه فقد حارب الله ورسوله ؟ ألا نفهم من ذلك أن السُنَّة قد جاءت لتهدينا إلى الحق الذي يجب أن نحالفه ونكون معه حين يفترق الناس وتظهر النزاعات ؟
لقد قالت السنة بلسان صريح : إذا رأيتم من يكذب أبا ذر، فاعلموا أنه هو الكاذب أياً كان، فليس على هذه الأرض أحد أصدق لهجةً من أبي ذر !! وإذا رأيتم من يستأثر على الأنصار ويُبعدُهم، فاعلموا أن تلك واحدة من علامات النفاق !! وإذا رأيتم من يتهم عماراً بالركون إلى الفتنة وغواية الشيطان، فاعلموا أن أولئك هم المفترون، لأن عماراً قد أجاره الله من الشيطان، وأنه على الحق أبداً لا يفارقه !!. وإذا رأيتم من عادى علياً وحاربه، فاعلموا أنه إنما يحارب الله ورسوله !! أليست تلك هي نداءات السُنَّّة ؟!
إذن فالسنة قد أدانت التاريخ مرات ومرات.... وثمة عِلَّة هامة من العلل التي قادت التاريخ إلى هذا الاتجاه !
لقد عمدنا إلى مرحلة من مراحل تاريخنا بعد الرسول الأكرم (ص) فأضفينا عليها القداسة التامة، ومنحناها سِمَةَ العصمة فعلاً وإن لم نقر بها قولاً، فعمدنا إلى كل ما لا ينسجم مع بعض تفاصيلها من قرآن أو سُنَّة فأوّلناه لنَصرِفَه عن ظاهره لكي لا يصطدم معها،، فكيف إذا عارض قداستَها خبرٌ عن واقعة ؟! نعم، لو تحقق الإجماع حقاً على مسألة ما في تلك المرحلة بالذات، لكان حجة، ولكن لا يصح بحال من الأحوال أن ينظر إلى الأمر النافذ بالفعل على أنه إجماع دائماً، وبحجة أنه كان في عصر الصحابة ! ولقد أدرك الكثيرون حقيقة أن معظم المؤرخين الذين صاغوا هذا التاريخ هم من الموالين للسلطات سياسياً في عهود تأجج فيها النزاع السياسي وازدادت حدته حتى امتد إلى كل ميادين الحياة، فكان أقِلّ ما يفعله المؤرخون هو تبرير أعمال الخلفاء والأمراء والكف عن ذكر ما يزعجهم وإن كان هو الحق... كما أن معظم المؤرخين كانوا أيضاً موالين للسلطات مذهبياً في عهود كان فيها النزاع المذهبي على أشدِّه، فكان كل فريق لا يروي عن مخالفيه إلا ما يشينهم، وقد لا يروي عنهم إلا الكذب والبهتان....
د - مصادر تاريخية مضادة :
ظهر في مقابل المصادر المتقدمة مصادر أخرى مالت عن الحق ولكن في الاتجاه المعاكس، وكأنها ردة فعل... ومثال هذا النوع من الكتب : كتاب أبي القاسم علي بن أحمد الكوفي، الذي عرّفه النجاشي باسم ( كتاب البدع المُحْدَثة ) وهو مطبوع باسم
( كتاب الاستغاثة ) طبعة قديمة في دار مجهولة؛ مما يوحي بأنه كتاب غير مجاز. وقد قال النجاشي في هذا المؤرخ وفي سائر كتبه ما نصه : أبو القاسم الكوفي رجل من أهل الكوفة كان يقول إنه من آل أبي طالب، وغلا في آخر أمره وفسد مذهبه، وصنف كتباً كثيرةً أكثرها على الفساد. ثم ذكر منها : كتاب البدع المحدثة، وكتاب تناقض أحكام المذاهب الفاسدة، ووصفه النجاشي بأنه تخليط كله (21).
وقال فيه ابن الغضائري : أبو القاسم الكوفي، المدّعي العَلويّة، كّذابٌ غالٍ صاحب بدعة ومقالة، رأيت له كتباً كثيرة خبيثة (22).
وزاد العلامة الحلي على ذلك فقال : أقول : وهو المخّمس، صاحب البدع المحدثة، وادّعى أنه من بني هارون بن الكاظم (ع)..
ومعنى التخميس عند الغُلاة لعنهم الله : أن سلمان الفارسي، والمقداد بن عمرو، وعمار، وأبا ذرّ، وعمر بن أمية الضمري هم الموكلون بمصالح العالم ! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً(23).
فكتاب كهذا لا يعد في تراث المسلمين أصلاً، وإنما هو من تراث الغلاة، وعدّه في تراث الشيعة خطأ كبير وجناية مضاعفة.
هـ - خلاصة :
من كل ما تقدم، وكثير مثله، نخلص إلى حقيقة لا شك فيها، وهي : إن معلوماتنا عن التاريخ بحاجة إلى مراجعة جادة، ودراسة في ضوء رؤية شمولية للتاريخ الإسلامي...
رؤية تحيط بجوهر رسالة الإسلام... رؤية تكون فيها الشريعة الإسلامية بمصدريها الأساسيين ـ القرآن والسنة ـ هي المعيار الذي تقوم على أساسه الأطراف والمنازعات والفئات المختلفة.
وبدون ذلك لا نستطيع أن نتقدَّم خطوة واحدة نحو الفهم الصحيح لحقائق تاريخنا ومعرفة الصدق والكذب والحق والباطل فيه.
وبدون ذلك لا نستطيع أن نتقدم خطوة واحدة نحو التقريب، إلا أن يكون تقريباً وهمياً يتداعى أمام أدنى إثارة !! وإني لأخشى أن تكون إثارتي هذه وحدها كافية لتداعيه !
إن الدهشة لتأخذني حقاً حين ينشد التقريب من بين كتابين حشي أحدهما بأخبار النواصب، وامتلأ الآخر بأخبار الغُلاة !!
وأكثر من هذا ينتابني حين ألمس تردداً في قبول ضرورة تصحيح تراثنا الإسلامي العزيز وتنقيته مما تراكم فيه من الأخبار والآثار !.
الهوامش:
(1) الموفقيات / للزبير بن بكار : 222.
(2) والي مكة للوليد بن عبد الملك ثم لسليمان بن عبد الملك، ووالي العراق لهشام بن عبد الملك. سير أعلام النبلاء 5: 425.
(3) الأغاني 22: 21 أخبار خالد بن عبد الله القسري.
(4) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4: 64.
(5) المصنف/ عبد الرزاق 5: 429-430.
(6) نقله ابن إسحاق في سيرته: 217-218 ثم رد عليه فقال: وليس كذلك، إنما كان يكلمه جعفر بن أبي طالب.
(7) المصنف / عبد الرزاق 5: 343/9722.
(8) تاريخ الطبري 4: 283-286.
(9) تاريخ الطبري 4: 557.
(10) الكامل في التاريخ 1: 3.
(11) تاريخ ابن خلدون 2: 622.
(12) تاريخ ابن خلدون 3: 650.
(13) صحيح البخاري – كتاب فضائل الصحابة – باب 34ح/3572.
(14) صحيح البخاري – كتاب فضائل الصحابة – باب 34ح/3573.
(15) صحيح البخاري – كتاب فضائل الصحابة – باب 38/ح/3581- 3583.
(16) سنن الترمذي 5ح/3801، 3802، سنن ابن ماجة 1ح/156.
(17) صحيح البخاري – كتاب فضائل الصحابة – باب 20 ح/3533.
(18) صحيح مسلم – كتاب الإيمان – ح /131، سنن الترمذي 5ح/3736، سنن ابن ماجة 1: 42ح/114.
(19) مسند أحمد 1: 119، 152و4: 281، 370، 372، سنن ابن ماجة 1: 43ح116.
(20) مسند أحمد 2: 442، سنن الترمذي 5: 699/3870، سنن ابن ماجة : 1: 52ح/145.
(21) رجال النجاشي: 265-266 وهذا صريح في نقض ما أدعاه الدكتور علي حسين الجابري: من أن (( كثيراً من كتبه وباعتراف المؤرخين كانت في فترة استقامته الاثنا عشرية )) الفكر السلفي عند الشيعة الاثنا عشرية: 207.
(22) الرجال /لابن داود: 259-260، وانظر أيضاً: معجم رجال الحديث 11: 246-247/7876.
(23) رجال العلامة الحلي ( الخلاصة ) : 223/10.
صائب عبد الحميد
الجمل
إضافة تعليق جديد