«درس في التاريخ»: عندما يقع «الوثائقي» في خدعة الموضوعية!
اختار هادي زكاك مخرج وكاتب سيناريو الفيلم الوثائقي «درس في التاريخ»، خمسة عشر طالباً من خمس مدارس واقعة في مدينة بيروت وضواحيها وهي: «سيدة الجمهور»، «الإمام الحسين»، «المدرسة الإنجيلية»، «الإيمان النموذجية»، و«المدرسة الألمانية». وقبل البدء بمشروعه، التقى بمئةٍ طالب من طلاب «البروفيه» (الصف التاسع) للإطلاع على دروس التاريخ في هذه المدارس.
رتب زكاك أجندة فيلمه على طريقة التحقيق الصحفي المصور، متناسياً عن قصد أو عن غير قصد، أن ما يدعى بـ«الحقيقة الإعلامية» أمر يصعب بلوغه، لارتباط ذلك بترتيب مضمون التحقيق الصحفي، الذي يضع الصورة في أحيان كثيرة تحت رحمة المونتاج.
يأخذ «زكاك»، عبر تمرير كل سؤال للتلاميذ، لقطات قريبة ومتوسطة لوجوه الطلبة، كمن يستنبط العبرة. ويسأل في درس اللغة الإنكليزية عن أشهر الأطباق اللبنانية، فيجيب الطلاب: «التبولة.. الفتوش.. السلطة.. الحمص». ثم يسأل: من هي الدولة العدوّة للبنان؟ ويجيب الطلاب: «إسرائيل.. إسرائيل.. سوريا.. إسرائيل».
ويطلب المخرج من الطلاب أداء النشيد الوطني اللبناني. ويتدخل عبر آليات المونتاج في كل مرة يتلكأ فيها طالب عن استكمال النشيد. طبعاً تريد الكاميرا أن تقول هنا: الطلاب لا يحفظون نشيد علم بلادهم! ثم يسأل كل منهم: هل أنت فينيقي أم عربي؟ تجيب طالبة بانزعاج: «عربية؟ شو يعني عربية.. ليش عم تقلي هيك؟!» ويرد آخر: «يمكن أنا فينيقي، الفينيقيون كانوا يحبوا يقطعوا الأِشجار»!
ينحاز الوثائقي فجأة إلى لافتات الحرب الأهلية في شوارع بيروت، والتي ذهب ضحيتها أكثر من مئتي ألف قتيل. ويتدخل المونتاج مجدداً، فيظهر رأس أحدهم بين الفينة والأخرى عبر نافذة، في بناء مطل على شوارع بيروت. لا أحد يعرف من هذا الشبح، ربما علينا التكهن. لعله الباحث عن التاريخ، وعن الكتاب الموحد لهذه المادة، والذي ما زال في أدراج وزارة التربية والتعليم اللبنانية، برغم الانتهاء من صياغته. ليبقى الكتاب المعتمد للبروفيه بنسخة عام 1970!
تمر الكاميرا بين الصفوف والممرات الفارغة في المدارس الخمس، فتبحث وتبحث.. طلاب يلعبون في باحة المدرسة، بينما يعود التلميذ «مجد سلهب» لتفحص صور، بالعدسة المكبرة، من أرشيف لخسائر الحرب الأهلية. ثم تتجه الكاميرا الى حفل عيد ميلاد «سلهب»، ثم حفل تخرجه المدرسي، حيث يهديه أساتذته «ملف الحرب الأهلية» كهدية نهاية العام الدراسي.
إذن لا حقيقة عبر هذا الوثائقي، حيث المونتاج يتكفل في توصيل وتقطيع أوصال الصور المنقولة. وعلى المتفرج أن يأخذ بصور متداخلة، بالاعتماد على عينة عشوائية في مجتمع لا يمكن دراسته أو التنبؤ باتجاهاته، انطلاقاً من منطقة أو حي أو مجموعة مدارس متوسطة هنا وهناك.
وينهي المخرج فيلمه ببقاء التلميذ سلهب في الكادر الأخير، كأمل لأجيال لا تشبه آباءها، مع لقطات من لافتات في شوارع بيروت من مثل: «كلنا لأي وطن».
يتدخل المونتاج مرةً أخرى في تحويل الوثائقي إلى «ديكو- درامي»، عبر إطلالة خاطفة لرأس الرجل المجهول ذي الإطلالات الغريبة، ما يدفع للسؤال: هل يوضع الفيلم الوثائقي العربي في خدمة أجندات إعلامية معينة؟ لا سيما أن الوضع السياسي في لبنان لا يحتمل إيحاءات من أي نوع. وهل بمقدورنا استنباط الحقيقة الإعلامية وفق خدعة الموضوعية، التي تحولت إلى عشرات الحقائق الوثائقية المصورة، بمساعدة «آلة» المونتاج؟
سامر اسماعيل
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد