السكن الشبابي: أخطاء فادحة في التنفيذ والتسليم
تتفاقم الأزمات التي يواجهها المواطن السوري في حياته المعيشية اليومية، دون أن يتوقع نهاية لتوالد هذه الأزمات وتدفقها، حيث كلما ادعت الحكومة أنها تحاول حل مشكلةً ما، باستعادة دورها التدخلي (ظاهرياً فقط)، يبرز عدد جديد من المشكلات والأزمات، نتيجة عدم الجدية، والقصور في التخطيط، ووجود ثغرات في كثير من قرارات المشاريع، أو ظهور أخطاء في التنفيذ وعدم المتابعة والمحاسبة، أو ظهور من يستغل هذه المشاريع عن طريق الابتزاز والخداع وتجاوز الأنظمة والقوانين.. ولعل التعاطي مع أزمة السكن التي ما تزال على رأس هموم العائلة السورية، هي أبرز الأمثلة على ذلك.
تأخر في التنفيذ والتسليم رغم توفر الإمكانيات
قد يكون مشروع السكن الشبابي من أهم المشاريع الإسكانية في سورية، والتي سعت الحكومة من خلالها لحل جزء هام من أزمة السكن المتفاقمة بشدة، وقد صدر عن رئيس مجلس الوزراء القرار رقم 1940 لعام 2002، القاضي بفتح باب الاكتتاب على مشروع إسكان الشباب، وبلغ عدد المكتتبين 52000 مكتتب، في محافظات دمشق وريفها وحلب وحمص واللاذقية وحماة، وتم قبولهم جميعاً على عدة مراحل زمنية (5 – 7 – 10 – 12) سنة، على أن يدفع المكتتب عند التسجيل 10% من قيمة المسكن التقديرية، أي نحو 60000 ل.س، ويسدد أقساطاً شهرية بمعدل 2000 ل.س شهرياً لحين استلام المسكن، ويسدد الرصيد المتبقي على 25 سنة بفائدة تقسيط 5% سنوياً، ليصل سعر الشقة 75م2 إلى 960 ألف ل.س.
وبحساب بسيط نجد أن الرصيد الأولي الذي جمعته المؤسسة العامة للإسكان من الاكتتاب قد بلغ حوالي ثلاثة مليارات و120 مليون ل.س، ومجموع الأقساط الشهرية التي سددها المكتتبون حتى الآن قد زادت عن مليار و245 مليون ل.س، أي بمجموع يزيد عن أربعة مليارات ونصف المليار ل.س، فأين تم توظيف هذه المليارات؟ ولماذا البطء في التنفيذ والتسليم؟ ولماذا لم تُسلَّم بعد أكثر من ست سنوات على بداية المشروع، سوى عدد قليل من الشقق للمكتتبين، لا يتجاوز بضع مئات؟!
المساكن الموزعة تخضع لسوق المضاربات والإتجار
الآن وبعد أكثر من خمس سنوات على بدء مشروع السكن الشبابي، تجري محاولات علنية ومخالفة للقانون، لاستغلال هذا المشروع الذي تعود ملكيته وأمر تنفيذه إلى المؤسسة العامة للإسكان، التابعة لوزارة الإسكان والتعمير، حيث يخضع هذا المشروع لعمليات المتاجرة واستغلال الشروط الميسرة، من شركات ومكاتب استثمارات عقارية تحاول اقتناص الفرص والمكاسب والأرباح الكبيرة، على حساب المكتتبين على السكن الشبابي من ذوي الدخل المحدود، وكل ذلك على مرأى من الجهات المعنية التي تقف موقف المتفرج، ولا تستطيع فعل أي شيء أكثر من التوعية والتنبيه، والضحية دائماً هو المواطن المكتتب الذي سيحاسَب قانوناً، وكذلك المواطن الشاري الذي سيكتشف فيما بعد أن البيع والشراء ممنوع قطعاً قبل مضي خمسة عشر عاماً على تخصيص المكتتب على السكن الشبابي، أو سداد ثمنه كاملاُ للمؤسسة، ولا يمكن إحلال عضوية الشاري مكان المكتتب، رغم أن بعض السماسرة يقنعه بذلك، وتولدت بذلك حلقة جديدة من النصب والاحتيال، وأسلوب آخر للالتفاف على المواطن والقانون، وممارسة الفساد والابتزاز تحت أنظار الحكومة، دون أن تستطيع منع هذه الممارسات لأنه فيما يبدو، جُلّ من يمارسها من المتنفذين أو من المحظيين.
بطء شديد بإنجاز أعمال الإكساء
للوقوف على حقيقة ما يجري على أرض الواقع، جالت «قاسيون» على مدى يومين في مشروع السكن الشبابي في ضاحية قدسيا، واطَّلعت عن كثب على سير العمل في المشروع، والتقت بعض المواطنين الذين استلموا شقق السكن الشبابي وسكنوها، من مكتتبين أو مستأجرين، وكانت لنا المشاهدات واللقاءات التالية..
أثناء جولتنا الواسعة على المباني الكثيرة المشادة والتي مازال معظمها على الهيكل، رأينا أن أعمال الإكساء تجري ببطء شديد، حيث يوجد عدد قليل جداً من العمال المنتشرين داخل المباني، يقومون بأعمال الدهان أو الطينة أو التمديدات الصحية والكهرباء، عدد قليل جداً من العمال ضمن مشروع كبير مترامي الأطراف، وذي إمكانات مادية كبيرة تقدر بالمليارات.
بعض الأبنية يتم العمل فيها، وأبنية أخرى كثيرة لم تبدأ أعمال الإكساء فيها بعد، ومن المنظر الخارجي لبناء الجدران وقفنا مذهولين أمام هذا التنفيذ السيئ لبناء (البلوك) في معظم الأبنية، فالجدران مبنية بشكل عشوائي غير متين، وأغلب قطع البلوك مكسورة الزوايا وتبرز بشكل مقزز عن بعضها، وقد قال أحد العمال: (بكرة الطينة بتسترها). أما عن التنفيذ الداخلي وجَودة الشقق، فكان لنا في اليوم الثاني اللقاءات التالية:
ـ المواطن أحمد ع. قال: «دائماً حلول الحكومة تأتي منقوصة، أو يتم التلاعب بها، ولولا اضطرارنا للقبول بالمسكن كيفما كان، لما كنا سنقبل أن «نزرب» أنفسنا في هذه الأقفاص، فمساحات الشقق صغيرة جداً، شرائحها على ثلاث فئات: شقق 60م2 مؤلفة من غرفتي نوم مثل علب الكبريت ومنافع، شقق 70م2 فيها غرفتا نوم وغرفة معيشة ومنافع، والشقق التي تعتبر فخمة 80م2 فيها غرفتا نوم وغرفة معيشة وصوفا ومنافع، والغرف صغيرة جداً لا تتسع إلا سرير متوسط الحجم وخزانة فقط، ونحن مضطرون للالتزام بها وعدم التصرف ببيعها لمدة 15 سنة، مع أن الأسرة تزيد ونحتاج مع الزمن إلى شقق أكبر، ولكننا محبوسون هنا لمدة 15 سنة».
ـ المواطن زياد الحسن قال: «خسارة ثمن الشقة، وحرام على الحكومة تسلم هكذا مساكن للمواطنين، فالإكساء الداخلي سيئ جداً، ولم تتم مراقبته أثناء التنفيذ، ولم يتم استلامه ضمن الشروط والمواصفات المطلوبة الصحية على الأقل، فالماء يتسرب من الجدران من كل الشقق المسكونة، فقد شكا لي جارنا في الطابق الأسفل وجيراننا في الطابق الأعلى المشكلة نفسها، والتسريب يتم من تمديدات المياه المالحة، ففي كل مرة نضطر فيها لغسل أيدينا، تنفر المياه من الجدار، دليل أن التمديدات شكلية فقط».
ـ المواطن فؤاد أخذنا في جولة إلى داخل الشقة كاشفاً لنا غرف النوم والحمامات، مشيراً إلى الشقوق بين بلاط الأرضيات وسيراميك المطبخ، فسوء التنفيذ يعطيها منظراً منفراً ومقززاً، وقال: «هكذا يسلِّمون الشقق السكنية، بالتأكيد لم يأخذوا في حسبانهم أن الذين سيسكنونها بشر، فهي لا تصلح للسكن الآدمي، أو سيضطر المواطن لإعادة ترميم الصحية والطينة والدهان، ما يشكل عبئاً إضافياً كبيراً على كاهل صاحب الدخل المحدود، الذي يبحث عن حل اضطراري لمشكلة سكنه».
ـ المواطن حسان قاسم قال: «كل المشاكل التي لا تعرِّضك للخطورة الجسدية يمكن حلها والسكوت عنها، أما أن يكون هناك خطر يلحق بالمواطن نتيجة الإكساء السيئ، والذي يدل على قلة الضمير وانعدام الوجدان عند منفذه، فهذا أمر لا يمكن السكوت عنه، فتمديدات الكهرباء تم التلاعب بها، رغم ما يرافق ذلك من خطورة، وأحياناً سمعنا عند الجيران أن الأسلاك احترقت بمجرد وصل التيار الكهربائي، حيث كان الخطان موصولين على الحامي، وأما عندي مثل كثير من الجيران أيضاُ فلم تعمل الكثير من الأباريز، وعند الكشف عليها وجدنا أن الإبريز قد وُضِع على الحائط للمنظر فقط، وتم توصيل سلك داخل الجدار لا يتجاوز العشرين سم، وغير موصول بالدارة، ناهيك عن مياه الشرب غير الصالحة للشرب، فهي مياه كلسية غير مستساغة، ونضطر لجلب مياه الشرب حين عودتنا من الوظيفة».
ـ العامل عبد الله في إحدى ورش الإكساء، قال كلاماً خطيراً فيه توجيه أصابع الاتهام للمؤسسة العامة للإسكان، لإتباعها أساليب الهدر والفساد والتلكؤ في إنجاز عمليات الإكساء، فقال: «أنا أنصح من يريد التخصص بشقة في السكن الشبابي أن يتخصص ضمن الأبنية التي نفذها المتعهد وليس المؤسسة، فالإكساء يختلف وسرعة الإنجاز تختلف، وسبب البطء في تسليم الشقق بشكل عام هو أن المؤسسة تعطي بعض الأبنية في كتلة ما للمتعهد لإكمال إكسائها، وتبقى الأبنية الباقية متوقفة عن العمل لحين تسليم الأبنية السابقة، ثم تسلمه مجموعة جديدة وهكذا..».
كيف يتم الاستلام والتسليم؟
تركزت شكاوى المواطنين على الآلية المتبعة في تخصيص المكتتبين بمساكن جديدة ويحصل التخصيص غالباً على المقاسم التي لم يكتمل العمل فيها بعد، وتكون هناك فترة طويلة تفصل بين التخصيص والاستلام، حيث أن التخصيص هو مجرد حجز شقة ذات رقم معين باسم المكتتب على الورق فقط، ليتم بعدها إكمال تفاصيل الإكساء، ليستلمها المواطن بعد فترة على أساس أنها جاهزة، وتنظم محاضر الاستلام التي اصطُلِح على تسميتها «محضر استلام مسكن شعبي ـ وصل إبراء عام» يتضمن أن المكتتب استلم بكامل إرادته المسكن بعد المعاينة، الأمر الذي ينفي جهالته بتفاصيل الموضوع، ويبرئ ذمة المؤسسة من كل مطلب أو تعويض، وقد وقع الكثير من المواطنين الذي استلموا الشقق بالمحظور، حيث كان الإكساء مجرد شكل فقط، عديم الجدوى والتخديم.. وهنا من الضروري الإشارة إلى أن استلام الشقق هو مسؤولية المؤسسة أولاً وأخيراً، حيث من المفترض أنه يتوفر لديها الكادر المختص العارف بمدى صلاحية البناء والإكساء عند الاستلام من المتعهد، وبالتالي فأية شكوى بهذا الخصوص من المواطنين، تخفي وراءها فساداً من العناصر الفنية والإشرافية للمؤسسة أولاً، ومن المتعهدين الذين أنجزوا أعمالهم بصورة سيئة وناقصة ثانياً.. ولا ضير من فتح تحقيقات واسعة بهذا الخصوص، وهذا نضعه برسم الجهات الرقابية..
مشروع جدير بالاهتمام والاستفادة الحدية
في الوقت الذي سعت فيه المؤسسة العامة للإسكان إلى التدخل لحل جزء من مشكلة السكن، كان هناك من يتربص لتحقيق الأرباح والمكاسب الشخصية على حساب الضعفاء اقتصادياً ومحدودي الدخل، كما ظهرت بعض الممارسات التي تدل على تشجيع القطاع الخاص على حساب المؤسسة العامة، علماً أن هناك من الإيرادات المادية ما يمَكِّن المؤسسة من إنجاز المشروع بالشكل المثالي وبالزمن القياسي، فلماذا لا تستغل المؤسسة العامة الإمكانات المادية الكبيرة التي توفرت لديها لتشغيل الكوادر واليد العاملة التي تنتظر فرصة عمل بفارغ الصبر؟! إن مشروعاً كهذا يتطلب على الأقل مائة ألف فرصة عمل، للأعمال المختلفة في الإكساء والتخديم، قد تستطيع المؤسسة أن تقدمها من بين جيوش العاطلين عن العمل.
إننا نهيب بالشرفاء من القائمين على المشروع أن يوكلوا بالأعمال للقطاع العام، تحت بند الإشراف والمحاسبة، وتوظيف اليد العاطلة عن العمل كمساهمة بسيطة في حل مشكلة البطالة. كما نهيب بالمعنيين للعمل على الاستفادة من المناطق الجرداء، والطبيعة الجبلية الملائمة المحيطة بالمشروع لتشجير السفوح بغزارة، فهي تعتبر الرئة الغربية الرئيسية التي تتنفس منها دمشقنا الحبيبة، فلنعمل على صيانتها وتنظيفها، ففي ذلك الخير والصحة للوطن ولكل المواطنين.
يوسف البني
المصدر: قاسيون
إضافة تعليق جديد