معركة الحضارة في مواجهة التخلف

05-05-2010

معركة الحضارة في مواجهة التخلف

يحدد الكاتب حيدر غيبة هدف كتابه الصادر بعنوان "هكذا تكلم العقل، المفهوم العقلاني للدين"، الصادر لدى "دار الطليعة" في بيروت، بأنه احدى المساهمات الخاصة بتنمية المجتمع الانساني من الزوايا الفكرية والثقافية، والمادية والروحية في الآن نفسه، مما يضعه في سياق السعي الى تحقيق التنمية البشرية الشاملة. في هذا المعنى، يهدف الكاتب الى تجاوز التفكير الذي يحصر التنمية بالمعنى الاقتصادي عبر ما يعرف بالنمو، ليدخل على التنمية الدور الذي يمكن الدين ان يؤديه في مجال التطور الانساني، بالنظر الى تأثيره في العوامل البشرية المساهمة في عملية التنمية. لكنه، عبر ادخاله الدين في التنمية، يجد نفسه امام تعيين جملة شروط وعناصر لممارسة الدين هذا الدور، في مقدمها تحكيم العقل في قراءة النصوص الدينية وكيفية ممارستها على ارض الواقع، وهذا ما جعله يتطرق الى قضايا تتصل بالتأويل العقلاني للنصوص، وتعيين ما يتصل بالاله من فهم لجوهره، ومعنى الوحدانية، والوحي والنبوة والانبياء والرسل، وصولا الى الملائكة والشياطين والجن، وكل ما يتصل بالحياة الآخرة.
يشكل المفهوم العقلاني للدين المحور الذي تدور عليه اقسام الكتاب، فيحسم ان احد ابرز عوامل التخلف التي تعاني منها المجتمعات العربية والاسلامية انما يكمن في "تجميد" الدين ومنع تطوير الأداء الديني بما يتوافق والتطورات التي يشهدها العصر والتحولات التي يتركها على صعيد مستويات التقدم. فالمشكلة الاساسية التي تواجه مجتمعاتنا انما تكمن في الممارسات المكبلة للعقل والمانعة من جعله حكما ومقياسا، والمعرقلة لمسار العلم كشرط اساسي للانماء، في استشراف القضايا التي تدخل في باب الغيبيات، او في تفسير العوامل الطبيعية، والممارسات المتصلة بالحياة العامة والخاصة. هذه المشكلة "الإعاقية" لا تقتصر على الجهلة في المجتمع، بل تشمل شرائح اجتماعية واسعة من المتعلمين من اصحاب الشهادات العليا ايضا.
تكمن المعضلة الاساسية في أن قسماً كبيراً من النصوص الدينية المقدسة ورد في شكل رموز ومجازات وكنايات، وبلغة محددة كانت الكلمة فيها تحمل معاني مختلفة عما تحمله في زمننا الحاضر. عمد المفسرون والفقهاء من رجال الدين والعلم الى شروح لهذه النصوص، مستندين الى الحدود المعرفية المتوافرة لديهم في ازمانهم، فأتت الشروح مختلفة ومتفاوتة، منها ما حاول تجاوز النصوص وفق ما تقدمه من تأويلات ظاهرية، نحو تأويل يدخل الى باطن النص، مستخدمةً العقل مقياسا، وساعيةً لتحريره مما يدخل في باب غير القابل للتصديق عقلياً، على غرار مفاهيم الشيطان والجن والعفاريت، مما هو اقرب الى الخرافة، من دون ان ينكر هؤلاء المجتهدون الدلالات الرمزية لحكايات النصوص المقدسة وما تهدف اليه من دروس اخلاقية وانسانية. ارتكز المفهوم العقلاني للدين على كونه عنصرا مساهما في توحيد مفاهيم الدين وتحقيق التماسك بين معتنقيه، وهو موقف سبق ان قال به اوائل من العصر الاسلامي، خصوصا منهم فرقة المعتزلة وغيرها من اتباع علم الكلام، وصولا الى فلاسفة مرموقين في التاريخ الاسلامي على غرار ابن باجه والرازي وابن رشد وغيرهم. اصطدم هذا التفسير العقلاني بالموروث المتراكم من تفسير ادخل على النص، إما على شكل احاديث نبوية، وإما على لسان الصحابة، واكتسب على مر الزمان مفعول النص المقدس، اي القرآن.
هذا التغييب المتواصل لتحكيم العقل والعقلانية في قراءة النص الديني وتفسيره، والذي باتت تحمله المؤسسات الدينية ومعظم رجالها، ادى الى فصل عجيب بين العقل والدين، انما بإعطاء الاولوية للنص الديني وفق التفسير الذي يراه رجل الدين، حتى ولو اتى هذا التفسير مناقضا للعقل والمنطق. يستند هذا الموقف الى تراث من الصراع بين الفرق الكلامية منذ العصور الاسلامية، والتي كان بعضها يقول بعجز العقل الانساني او قصوره عن ادراك بعض الامور الغيبية التي لا يعرفها سوى الله وحده. مما يعني ان السجال في الدين استنادا الى العقل امر عقيم، وما على المؤمن سوى التسليم بما يرد في النص الديني فقط، وبالشكليات المندرجة فيه. وهو موقف ازداد عدد القائلين به على امتداد التاريخ الاسلامي، بل تعزز في العقود الاخيرة مع صعود الحركات السلفية والاسلام السياسي الاصولي والمتطرف، والقائلة بالتفسير الحرفي للنص المقدس واخذه بجملته بعيدا من الاجتهادات والتفسيرات العقلانية للكثير من النصوص الغامضة والملتبسة فيه، او تلك النصوص التي كانت ذات وظيفة معينة في زمان نزول الآيات ولم تعد هذه الوظيفة ذات صلة بالحاضر، على غرار آيات الجهاد والتكفير. وهي دعوة تصل بنا عمليا الى الاحتكام الى رجال الدين والقبول بتفسيراتهم على علاّتها في وصفهم يحملون مفتاح فهم هذه النصوص.
يتحمل تغييب الفهم العقلاني مسؤولية اساسية في عصرنا عن الكثير من الصراعات السياسية والاجتماعية التي تستخدم الدين عبر التأويلات التي يُلجأ اليها في تفسير النص بما يخدم مصالح المعنيين ويعزز موقفهم في الصراعات الدائرة. ليس الدين مصدر النزاعات او التخلف، لكن الفهم غير العقلاني لمعنى النصوص ومغزى الآيات والاهداف الداعية اليها، هو المشكلة الجوهرية. في هذا الصدد يشير الكاتب الى ان "الدين، اذا فهم فهما عقلانيا بمغزى نصوصه واهدافه، ولا سيما بإطار مثله العليا واخلاقه الانسانية، فهما صحيحا بعيدا عن التعصب، فيمكن اعتباره عاملا من عوامل التنمية البشرية، يغذي الروح ويهدي سواء السبيل".
في زمن التقدم التكنولوجي والعلمي، وتوصل الانسان الى القبض على تفسير اسرار الكون، وفي عصر اقترن فيه العلم بالعقل لتحقيق الانجازات الهائلة التي ارتفعت بالبشرية الى مصاف متقدم في المعرفة والادراك والتطور، تبدو الحاجة ماسة جدا لدخول الدين في العصر، وهو امر لا يتحقق من دون اقتران الايمان بالعقل، وخضوع تفسير النصوص وتأويلها الى منطق العقل اياه. انها معركة الحضارة في مواجهة الخرافة والتخلف.

خالد غزال

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...