ماذا لدينا?...ثقافة جنسية ..أم غرائز بلا ثقافة
كنا أطفالا حقيقيين لوقت متأخر، ويبدو أن هذه الظاهرة التي لا أعلم لحد الآن إذا كانت إيجابية ام سلبية، يبدو انها صارت جزءا من تاريخ لا يعود ولا نملك المعطيات الحقيقية لتقييم صلاحه من عدمه ..
خرجنا إلى مدارسنا الثانوية نساء صغيرات،لكن بدون إدراك حقيقي لهذا الواقع الجديد، لا أعني بهذا الكلام أن أبرئ جيلنا المنتمي لشباب الثمانينات،والتسعينات، لأني وبكل صدق حتى هذه اللحظة،لم أتوصل لمقاربة صحيحة أو تحليل مناسب لهذا الوضع الذي يمكن تلخيصه بكلمتين، إما طالبة المدرسة أو الأنثى..
كما أن الصحن الجالب للملذات لم يكن ضمن ثقافة المجتمع وقتها، وظل لمرحلة متأخرة يجلب لمن يقتنيه بسعره العالي جدا آلاف التهم،التي يفترض ان ينبري في كل لحظة لنسفها بمبررات عديدة .
شريحة كبيرة من البنات في مدرستنا في ذلك الوقت،وهم المصنفات كطالبات مجدات، لا يدركن أي سر من أسرار الجسد،أو يدركن أن هناك شيئا خفيا يعتمل في النفس ويلون احلام اليقظة بصورة جمال سليمان أو حسين فهمي ولكن في صمت، وبكل السرية التي تضمن إبعاد تهمة عار الانشغال بأي ذكر حتى لوكان صورة في مجلة، ولا يسمحن لخيالهن أن يذهب بهن إلى التفكير بما يفعله هذا الجسد بالآخر المراقب لفورة المراهقات، وإذا فاجأتهن قصيدة لنزار ترسم هذا الجمال المسكون في جسد امرأة يخفين الديوان وبعد دفنه في ركن سري، يحفظن جزءا من القصيدة بعد قصقصة ما لم تقصقصه الرقابة التي تبحث عن كلام غير هذا،ويخترن الجزء الأعف لتلاوته سرا في جلسة مع اقرب المقربات، ومجرد التفكير بابن الجيران أو قبول رسالة غرام طفولية معناه الجريمة الكبرى فكيف إذا امتلكت الجرأة وقرأتها..
ربما يرى البعض أن هذا كلام مبالغ فيه لكنه واقع عشناه، ولا ندري من المسؤول عنه أهلنا،أم المدرسة، أم الشوارع التي تراقب زلة المراهقة.
بلغ الحديث في الجنس أوجه في سن السادسة عشرة حين واجهتنا إحدى الزميلات بشرح مفصل من خلال مجموعة تصورات ختمتها إحدى المستمعات بسؤال لازلت أذكره حين قالت : هل يفعل كل المتزوجون هذا ؟ وردت العارفة بالتفاصيل،الأكثر وعيا وانفتاحا، بالطبع لا لكن البعض قليلو أدب ..بعد أيام عادت أخرى بتتمة للحديث أكدت من خلالها أن جميع المتزوجين لا ينجبون إلا بهذه الطريقة، وشرحت بشكل علمي ما قالته لها خالتها،أذكر أن ذلك اليوم حمل في أنفسنا استهجانا تجاه أهلنا،إن لم يكن حقدا عليهم لأنهم أنجبونا بهذه الممارسات المنحرفة حسب مفعول الخبرية،ووقتها، وصار أبشع الأوقات، وقت يدخل الأبوين لغرفتهما.
أنا لا أجزم من خلال هذا الحديث أن جميع الفتيات لم يعرفن ما عرفناه متأخرين، لأن العودة بالذاكرة قادت إلى تحليل عدد من المشاهد مرت بلا جواب في مراحل سابقة، فقد كانت إحدى الزميلات من الراسبات في الصف السابع تتحدث بعبارات ملغومة،لكن الوالدة التي سمعت الكلمات التي طالبنا بتفسيرها وقتها، أكدت ان هذه البنت غير مهذبة، ويجب عدم مخالطتها، والاحتفاظ بالشلة التي تعرف هي كل المعلومات عن أفرادها وعن أهلهم والتي تجعل منهم الأصدقاء الوحيدين.
المفارقة الأكبر تزامن دخولنا المرحلة الإعدادية مع فضيحة حمل إحدى البنات، واكتشاف المدرسين لها، تلك المأساة التي لم نستوعب فصولها، وبررتها لنا أمهاتنا جميعا بمبررات لسذاجتنا وقتها صدقناها .
اليوم بعد مرور خمسة عشر عاما أملك الجرأة لأقول إن حمل فتاة في الثالثة عشرة هو جريمة مجتمع.
اليوم أقف بين عدد من الفتيات في أعمار لا تتجاوز الخامسة عشرة لأسمع منهن أحاديثا وحكايا تكبلني بالعجز، فالأمهات لم يتغيرن، والآباء مازالوا في معظمهم ينتخون لقتل مجرمات الشرف، ولكن الجيل يغرق في ثقافة الفيديو كليب، وقنوات التعري، والإنترنت في جزئه الداعم لكل أشكال الشذوذ، وبطلة المسلسل التركي التي تحمل كل القيم الإيجابية للأمومة لطفلها الذي حملت به من حبيبها حبيب الملايين بدون زواج، وفي مسلسل آخر تلك التي أنجبت وزوجها عاجز، ويتعاطف معها كل الجمهور العربي على الشاشات آملا أن يأتي يوم لتعيد الطفل للأب الحقيقي الذي اخترق بعينيه قلوب نساء الشرق العربي المسكونة ببرودة غرفهن المقفلة على فشل ذريع في الحب في ظل واقع التهافت على الخبز، أو الشذوذ المترافق بأبناء طبقة خلقت وفي فمها ملعقة من ذهب، وتاه من تاه مع اب مشغول، وأم مترفة سلمت أبناءها للخادمات، ورحلت تبحث عن آخرين يمكن أن يتركوا عد الملايين ليلعبوا بعقل امرأة مشحونة بالفراغ، والهرمونات .
كيف ننتصر لحماية جيل لم يترك لنا الجنس المتاح بأرخص ثمن دروبا نسلكها معه؟
كيف ندفع بالغرائز التي شرحها فرويد لمرحلة التهذيب، ونحن بين متساهل لحد الفجور، ومتطرف لحد خنق الجيل، نحن شعب ردات الفعل التي لا تتناسب مع الفعل، نحن الذين نترك الورم يلتهب دون علاج ثم نطالب دفعة واحدة بالبتر .
لم نقدم لهذا الجيل ثقافة الإنسانية، ونبحلق بالمسلسل التركي متعاطفين لحد الموت مع بطلته الفاجرة حسب أعرافنا المحلية، ثم نبرر قائلين هؤلاء أجانب،ونحن عرب...
من يترجم لمراهق او مراهقة هذا الكلام الرادع غير المقنع، ومن يمتلك زمام غريزة أي منهما حين يحصلان على فيلم ثقافي من أي بسطة، أي نوع من الفضيلة غرسنا ونحن بين رافع للحواجز ومهدم لها ((واشكم؟!! واحد يسكر، وواحد يصلي))، فوراء الحاجز العالي هناك غريزة وفتيات وأجساد تنمو بلا ثقافة تنبض باحتياج وفراغ تام بلا مشروع ثقافي أو نهضوي أو فكري مع همسات ولمسات من الإنترنت، إلى الشوارع، إلى الإعلام الانفتاحي عبر الفضائيات، وراء تلك الأسوار يجب أن نقلق جميعا من ظواهر المثلية التي يتشدق الجميع بها بين متسامح، وهادر للدم، وكلاهما لا يتساءل لماذا، وكيف، كيف الوقاية؟ وما هو العلاج ؟
في الجانب الآخر هناك من تركوا الحبل لأبنائهم على الغارب، إما بسبب انشغالهم عنهم فقرا، أو ترفا وفي الحالتين تربيهم الأرصفة بين المزابل، أو مقاهي الأنس، والملاهي، بين السيارات الفخمة وما يمكن أن تلملمه من بقايا ليالينا المتألقة في وشم لصبية تعمل في ديسكو أو عابرة تنتظر احد العابثين لتبيعه لحظة مسروقة على هوامش رصيف ..وبين السرفيس الذي قد يجمع إحدى صغيراتنا بمتحرش يهز ركبتيه ويتململ على الكرسي ليسرق منها تلامسا منزوع القيم ...
في هذا الواقع المتفرد بنشره ثقافة الغرائز، وضياع المفاهيم الحقيقية للحرية، ولعبة التخفي تحت السواتر، وفي الزوايا المظلمة، وانعدام أشكال التثقيف الحقيقية، وغياب الكتاب من جلسات الشباب وامتلاك ناصية النراجيل في مقاهي كانت يوما ملتقى للراغبين بالحوار البناء، وانشغال الصبايا، والشباب بتوزيع نظرات الصيد في الأماكن العامة، ولكل فريسته التي يرمي لها الشباك المناسبة .
ليس عندي حل، وبالتأكيد لن يجدي مسلسل النصائح المدرسية التي تبدأ بكلمة (يجب علينا ) لأننا حقيقة أمام مشروع تدميري حقيقي لجيل كامل استلمته منا سياسة الانفتاح على تكنولوجيا لا نعرف منا إلا كيفية شرائها، وتشغيلها، لن أكثر من الندب، فنحن جميعا مرهقين من كثرة النواح.. والويل لنا من ترويج مفاهيم الحرية في مجتمعات لم تعد تقرأ، وصارت متعتها المشاهدة ..
ميس نايف الكريدي
المصدر: مجلة ثرى
إضافة تعليق جديد