حسيب كيالي : حضور في الغياب
هل كانت محض مصادفة أن ألتقي بالزميل القاص خطيب بدلة، الذي نذر نفسه، ذات يوم ولا يزال، ليكون العين الساهرة على كل ما كتبه حسيب كيالي، يتابعه كما يتابع كتابته هو، بل بإخلاص أشد واهتمام أكبر، هل كانت محض مصادفة أن ألتقي هذا الزميل في سهرة عابرة -لم يكن مخططاً لها- جمعتني به عند أحد الزملاء القاصين، وأظنه القاص ابراهيم صاموئيل.. ما لم تخني الذاكرة، ووقتها كان حزن شفيف يلف محيا خطيب بدلة الساخر في كل تفاصيل روحه، لا ينج من ذلك حتى اسمه الذي لم يكن له في اختياره أي خيار، ومبعث حزن الزميل خطيب بدلة -وقتذاك- أن جريدة تشرين بدأت توجع قلبه على زوايا أبي زاهر التي يرسلها له من دبي، وبدأت تتلكأ في نشر بعضها وتكاد تعتذر عن نشر بعضها الآخر، وخطيب، قناعة منه بأهمية ما يكتبه حسيب رفض المس بأي حرف من حروفه، وقرر احتراماً لمكانة حسيب وتقديره الخاص له، أن يوقف تقديم زواياه بجريدة تشرين -مع تقديره الخاص لهذه الجريدة ورغبته في ألا يحرم القراء من متابعة زوايا حسيب النافذة، الواخزة، الجميلة، التي تقدم كل طريف ومفيد.
وهنا -لست أدري- كيف واتتني الجرأة، وأنا الذي لم أكن في موقع المسؤولية بالجريدة التي أعمل بها، ولا أزال، البعث، فقد كنت مجرد محرر لا يملك أي قرار، مع ذلك واتتني الجرأة للقول للزميل بدلة: إن جريدة البعث يسرها أن تستقبل زوايا حسيب، كما هي، وتنشرها كما هي، فهو أولاً جدير بكل حفاوة وثانياً لا ننسى أنه انطلق من هذه الجريدة مجدداً، بعد انطلاقته الأولى قبل الجريدة بسنوات، وذلك عندما عمل بها محرراً وكاتب زوايا لسنوات طوال..
وكأنني رميت بالطوق المناسب في وقته المناسب، فقد تهلل وجه الصديق خطيب وشعر كما لو أن حملاً قد انزاح عن صدره.. وناولني آخر زاوية كانت قد وصلته من حسيب، ولم تنشر بعد.. وهكذا بدأت عودة حسيب، في زواياه الناقدة التي نشرت في الصفحة الأخيرة من البعث، تحت عنوان ثابت للزاوية: حديث الصباح.
هكذا بدأت عودته مطلع العام اثنين وتسعين لتستمر حتى آخر زاوية نشرت له، وكانت بعد وفاته بنحو يومين أو أكثر.. فقد صدرت هذه الزاوية في صحيفة البعث بداية الأسبوع الثاني من شهر تموز من العام ثلاثة وتسعين..
وأعترف أن حسيب، كما أنه لم يكن وافداً على الجريدة ولا جديداً عليها، كذلك هو لم يكن وافداً على عالمي.. ولا جديداً عليه، فمن لا يعرف حسيب منا نحن الذين نعتقد أن الثقافة هي ساحتنا، وأن الكتّاب، على اختلاف درجاتهم، هم شغلنا الشاغل، فكيف لا يكون حسيب على رأس هؤلاء الكتّاب، فهو الرائد والمؤسس والمعلم، وهو -أيضاً- شريك معظم جلساتنا الأسبوعية، والممتدة منذ سنوات طوال، والتي يشكل فيها حضور الشاعر الكبير الأستاذ شوقي بغدادي محور تلك الجلسات، ومن يعرف الأستاذ شوقي، يعرف كم يجلّ رفيق دربه حسيب وكم يستحضره في أحاديثه وجلساته أيّاً تكن المناسبة.
مع ذلك كان لاستضافة البعث لزوايا حسيب في آخر ما كتبه حتى يوم رحيله، كان لهذه الاستضافة طعم خاص، ونكهة مميزة، من المؤكد أنني لست الوحيد الذي شعر بها، فقد بلغت بآثارها الملموسة جماهير القراء ومجالس الأصدقاء، ولكنها بالنسبة لي كانت شيئاً خاصاً ومميزاً.
فأولاً: أتيح لي، بحكم عملي المباشر في إعداد تلك الصفحة، أن أكون من بين القلائل المحظوظين الذين يقرؤون الزاوية قبل نشرها، فبعد الأستاذ خطيب غالباً ما أكون أول من يقرأ الزاوية والتي يفترض بي أن أرفعها للمدير العام مرفقة بتعليق صغير أو من دونه، وكانت معظم تلك التعليقات تلفت نظر المدير العام إلى بعض شروح يسيرة تفسر كلمة هنا أو إشارة هناك كي لا يقع السيد المدير العام بسوء تفسير يفضي إلى رفض الزاوية أو عرقلة نشرها، وقد نجحت بعون الله، ثم بقوة إبداع حسيب، في جعل الجريدة تنشر -وبالكامل- ومن دون نقصان أي كلمة أو تعديلها، كل ما وصلني من الأستاذ حسيب عن طريق الأستاذ خطيب، وحين نشرنا له -بعد وفاته بيومين- آخر زاوية وصلتنا منه شعرت وقتها أنني وفيت بتعهدي للزميل الأستاذ خطيب بدلة، ولكنني بدلاً من شعور الرضا كما يفترض بكل من أدى مهمته كاملة.. شعرت بفراغ كبير.. فقد انتهت رحلتي مع قراءة أسبوعية لزاوية كنتُ أنتظرها بكل شوق، وها أنا الآن- وبعد عقدين متتاليين من السنين- أؤكد بأنني قلما شعرتُ حيال أية زاوية أسبوعية.. مثلما شعرتُ حيال زوايا حسيب، وها هي الأيام تمضي دون أن تحمل إليّ في الزاوية التي ما زلتُ أشرف عليها، شيئاً من البهجة أو الفرح أو الضحك الصافي الذي كان يأتينا مع زاويا حسيب.
فلماذا كلّ هذا (الإبهار) من حسيب..؟! ولماذا هو وليس أحد سواه...؟!
في ظني أن الأمر يستحق الدراسة فعلاً، ومع أن محاولات بدت جادة، سعى إليها الأستاذ بدلة ذات يوم، أرادت أن تستخلص بعض المعايير في الأدب الساخر وتقف عند بعض كتّابه.. إلّا أن تلك المحاولة أُجهضت لأسباب لا أعرفها،، وإن كنت أتوقع أن وعورة البحث في موضوع ما يزال غفلاً ويحتاج إلى التفرغ والمتابعة فوق ما يستطيعه كاتب شاب يرجو أن ينال حصته من الانتشار أولاً، ونصيبه من الشهرة والمردود ثانياً، وهو ما كان حال الأستاذ خطيب الذي لو وجد العون الكافي، والمردود المجزي لكان مضى في بحثه حتى يصل به إلى بعض الخلاصات المفيدة، وأعتقد أن الفرصة متاحة الآن- له بشكل خاص- فقد أصبح الكاتب ذائع الصيت، وقد نال نصيباً مناسباً من المردود المادي.. الذي لا بدّ منه لحياة مستقرة، ومن ثم فها هي زوايا حسيب وكتبه تكاد تدعو كل راغب في الدراسة الجادة ليبدأ وينال فيها ما يستحقه صبره من جزاء..
وإذا كنت أدعو وزارة الثقافة، ممثلة بالسيد الوزير، الأديب الباحث قبل أيّ لقب آخر، وهو الدكتور رياض نعسان آغا، وكذلك بالزملاء العاملين معه في حقل الإبداع قبل أيّ اعتبار آخر، إذا كنت أدعوهم إلى إعادة نشر زوايا حسيب كيالي التي نشرها في «البعث»، وتلك التي نشرها في تشرين وسواها... فإنما لأنني- على أهمية حسيب في كل ما كتبه- أجد في تلك الزوايا بالذات أهميةً خاصةً تتعلق بشكل الزاوية وفكرتها وطريق معالجتها مما يصلح أن يكون بحق أفضل توجيه لكل من يريد كتابة الزاوية الأسبوعية في جريدة يومية..
وإذا أردت (الإجمال) كما تقتضيه طبيعة مداخلتي هذه، فإنني أجد في زوايا حسيب الملامح والسمات التالية:
- فأولاً يأتي العنوان لصيقاً بالموضوع ومنبثقاً عنه، فهو يبتعد عن الاثارة المفتعلة قصد اجتذاب القراء، بل يعتمد فعلاً على براعته في بثّ الحيوية في أي موضوع مهما بدا عادياً ومألوفاً، ومن هذه العناوين على سبيل المثال:
آفة التنظير- التاريخ هذا الحكيم- ولي طالبات القرب- النقد ممنوع- الإعلام وما أدراك- الحماصنة والشطارة- بعض حصاد العام- حذف النون- أفلوطين في القهوة- تتمة أخرى- البكاء على الاطلال- رائحة الأهل- من لعب بعقلها.. الخ.
- وثانياً لا يتهيب حسيب في تناول أيّ موضوع، مهما بدا عصياً على الاحاطة بزاوية محدودة في مساحتها وعدد كلماتها، لا يرهبه أن يكون موضوعاً علمياً أو سياسياً أو فكرياً، بل يحكم سيطرته عليه ويستطيع فعلاً بكلمات محدودة وجمل لا اجتزاء فيها أن يضع قارئه بصورة الموضوع وغايته من طرحه عليه.
فعن آفة التنظير.. وقد نشرها في مطلع عام ثلاثة وتسعين يوجز بكلمات متلاحقة وجمل متكاملة عرض المشكلة ورأيه فيها بآن، فهو يقول:
«قلما أقع على صفحة ثقافية في صحيفة أو مجلة دون أن تكون افتتاحيتها أو إحدى مقالاتها الرئيسية تنظيراً في الشعر الخليلي أو الحر..».
أقول: إن بعض التنظيرات في الشعر تجزم وأنت تقرؤها أن صاحبها أو أصحابها يحتاجون إلى بعض الحياء الذي هو الإيمان، ولذلك أقدموا على نشرها. مثلاً قرأتُ مقابلة مع شاعر ما سمعت باسمه قط يتكلم من رؤوس منخريه رافعاً هذا الشاعر إلى الطبقة الأولى من شعراء العالم، وخافضاً ذلك الشاعر إلى أسفل سافلين، فلما سأله مدير الحوار «وأنت في أيّة طبقة تضع نفسك؟ قال: أنا بعد أدونيس مباشرةً.. ويأتي شعراء القطر كافة، أقصد شعراء الحداثة، بعدي بخمسين درجةً».
وبعد هذه الزاوية بنحو أسبوعين من الزمن يتناول موضوعاً إشكالياً كبيراً تحت عنوان«التاريخ هذا الحكيم» ،ومجدداً يكشف عن وعي كبير بهذا الموضوع، وقدرة متميزة على معالجته، وها هو يقول:« هؤلاء الكتّاب الثلاثة : نجاة قصاب حسن، وخيري الذهبي وأحمد فايز الحمصي تكلموا على(عجائب المقدور) كل من وجهة نظر خاصة به: نجاة فاخر بالمقاومة البطولية التي أبدتها قلعة دمشق فأرهقت تيمورلنك مدة طويلة على الرغم من ان المدافعين عنها لم يتجاوزوا الاربعين عدداً، ومن قبل هؤلاء زها بصمود دمشق المدينة مع أن سلطانها وحكامها وامراءها المماليك هجروها وتركوها وحيدة لقدرها.
وفي ذلك يقول خيري الذهبي: (تمنيت كثيراً لقاء الكاتب المؤرخ ابن عرب شاه الذي كان شاهداً على واحدة من أعجب حوادث التاريخ، حيث (هجر المماليك دمشق وتركوها لقدرها وقد أطعمتهم).
وقد وقع خيري الذهبي بخطأ عندما قال: ان سلطان دمشق آنذاك (فرج بن قلاوون) والصحيح ان فرجاً هو ابن الناصر برقرق وليس ابن المنصور قلاوون وبين الرجلين فرق زمني يعادل اكثر من قرن».
وطبعاً لايفوت حسيب مايرجوه منه قراؤه من خفة الدم وظرف النقد والمشاكسة المحببة فتأتي زواياه الاجتماعية بكل ما يخلب اللب حقاً فتجده يغرف من معين الحياة، ومن هنا وهناك مما عرف وشاهد وخبر عن قرب ، ومسألة (خبر عن قرب) تصح ان تكون درساً حقيقياً لكل كاتب يظن أن بإمكانه الاتيان بموضوعات لم يعايشها حقاً، ويعتقد انه يستطيع الامساك بها.. كما لو كانت مما عاشه وخبره حقاً:
حسيب في الحقيقة، بكل تواضع الكبار، كان يصر على أن يعيش الموضوع قبل أن يكتبه.. وهذا ما يبدو جلياً في (مناوشاته) لقضايا المجتمع بشكل أساسي، يقول في زاوية له تحت عنوان:( ولي طالبات القرب):
«قلت لدليلتنا نورا وأنا أستعرض سيل النازلات- الصاعدات الدفاق- وقد كان وقتها يزور ضريح احد الاولياء في تركيا -..ولكن فيهن الدرد (بلا اسنان)، المصوفنات، اللهم لاتجعلنا نحكي كلمة كبيرة في حق احدى بنات ديننا: انظري الى تلك- هناك عن شاهدة القبر الرأسية.. أنا ابن السبعين اطلع قد أولادها! ماعساها ان تأمل من تيلي بابا أو علي بابا ذات نفسه! استحي أنا عليَّ الجيرة».
وفي زاوية أخرى تحت عنوان:( النقد ممنوع) يتناول قصة قصيرة لصديقه ومجايله حنا مينة، وعنه يقول: «سمعت مرة حديثاً قيّماً للدكتور مصطفى محمود كان يرى في المرض نوعاً من النقد، من المعارضة، يقوي الصحة يرفع من شأنها، مثل المعارضة السياسية، وهو تتراءى له المعارضة في كل شيء، في الفصول مثلا،ً فالشتاء نقد للصيف ومعارضته، وكذلك الربيع نقد للشتاء ومعارضته.
وكان بين ماقرأت مجلة يصدرها اتحاد كتاب الامارات في الشارقة اسمها«شؤون ادبية» فيها قصة لاخي حنا مينة ابي سليم عنوانها: الرجل الذي يدب الى فراشه..
إلا أنها قصة تستدعي الاسف والرثاء.. وهناك البيان الذي يطرد الشيطان: خلاصة القصة ان عتالاً في السنجق(لواء الاسكندرون) مصاباً بفتق يدلف من معلمه الخواجة عبد الله الظالم المستبد الذي لايطيق حواراً مع عتاليه اذا استمر نصف دقيقة إلا طلع خلقه بتطاول هذا الجنس الواطىء عليه.. ولكن الحوار بينهما يستطيل- واغوثاه- نحو عشر صفحات.
ثم يتساءل كيف ينحدر كاتب شُهر بكونه كاتباً غائياً الى درك تقديم عامل شجاع بمثل هذا الذل».
وهكذا هو في تناوله لموضوعات عصية شائكة، كالإعلام وما أدراك، وكيف يمكن أن يكون الإعلام أولى أبجديات الوحدة العربية وأكثرها أهمية وتأثيراً، حيث يقول في زاوية له تحت هذا العنوان، (الإعلام وما أدراك): «.. إذا كانت الظروف الموضوعية - كما يقول رجال السياسة - لما تصبح مهيأة بعد لقيام وحدة عربية من الدار البيضاء على الاطلسي إلى المنامة في البحرين على الخليج، فلنجعل الجامعة العربية، التي كانت في تونس ثم انتقلت إلى مصر، ذات جدوى في وحدة من نوع آخر مختصرة المطامح، كأن تهتم بتوحيد مناهج الدراسة، أو وضع دراسات تفصيلية عن اقامة خطة إعلامية موحدة تضفر الجهود الإعلامية في الأقطار العربية في محرق واحد مؤثر يعود على المواطن بمنافع الإعلام بعد الثورة التكنولوجية المعلوماتية، ونجنبه مضاره ، إذا هو ظل على الفوضى والتمزق الحاليين».
وميزة ثالثة في زوايا حسيب، أحسب أنها في غاية الأهمية، وهي أنه - في نقده اللاذع وتهكمه الساخر - لا يحط من شأن من يتهكم بهم.. بل يكتفي بتعرية مواقفهم وبيان الضعف فيها، ففي زاوية طريفة له تحت عنوان: ( الحماصنة والشطارة) يتحدث عن محتال ثقافي، من مدعي الثقافة من المصريين العاملين في الامارات، وعنه يقول:
«.. وما هي إلا بضعة أيام من (عمل محموم) على حد تعبير السيد الزيبق حتى أعلن ملهوفاً أنه اضطر إلى تبديل الممثلة التي ستقوم بدور البطولة:
- ولكن الممثلة الجديدة (تكلف شوية)..
وظل علي الزيبق يجري تعديلات مع (شوية تكاليف جديدة)، حتى بلغ ما انفقه تماماً الوفر الذي في الخزينتين، وهو على تقدير مرعي حلبان في جريدة البيان (350) ألف درهم، درهم ينطح الدرهم.
ليس هذا كل ما في الأمر، فقد تبين أن (الستاف) العامل من بابه إلى محرابه على بكرة أبيهم من أقرباء علي الزيبق، وحتى الممثلة الأولى ظهر أنها زوجته بكتاب عرفي.. ».
وكان هنا يتحدث عن مدعٍ ابتز دولة الامارات بمبالغ طائلة بزعم أنه سينتج لهم مسرحية هائلة من تأليفه واخراجه وإشرافه بالكامل، وهو ما لم يحصل قط، رغم ما استجره من أموال أُريد لها أصلاً أن تكون عوناً لكل مبدع في مجال الثقافة والادب، فيا للخسارة.. !!.
وفي زاويته التي عنوانها «بعض حصاد العام» يعود الى مخزونه النقدي الكبير ليعيد الاعتبار لكل من أغمطوا حقهم بأقلام من لا يعرفون قيمتهم، حيث يقول: «لمًَّا توفي تشارلز ديكنز سنة 1870 عن ثماني وخمسين هتف طفل: «تشارلز ديكنز مات اذاً قد يموت في غد سانت كروس» وسانتا كروس عند الانكليز هو بابا نويل عند الفرنسيين، وقد قيل في كلمة ذلك الطفل الانكليزي أنها كانت أعظم مراثي الكاتب العظيم ديكنز.. هذه واحدة.. والثانية سقتها الى حضراتكم في حديث أسبق: لمَّا خرج انطون تشيخوف بعد هجوم النقدة على إحدى قصصه الخارقة يتمشى وتوقف أمام نوافذ أحد الأقبية البائسة، حيث رأى جد الأسرة يقرأ القصة المهاجمة للأجيال الثلاثة الذين كانوا من صلبه، قال منشرح الصدر: «هؤلاء هم نقدتي الحقيقيون».
ولابد أن نقف أيضاً عند شيء من طرائفه النقدية هو، حيث يواجهه في حياته واسعة الاتجاهات، متعددة الاهتمامات الكثير من المتزلفين وطالبي الشهرة السريعة، والذين يظنون أن مجرد لقائهم بالكبير من الأدباء يجعلهم من صف هؤلاء الأدباء الكبار، فيروحون يتصرفون على هذا النحو.. وما أكثر هؤلاء المدعين، وما أحوجنا- في كل يوم- لمواجهتهم وإعادتهم الى حجومهم التي لا يستطيعون تجاوز حدودها، وها هو في زاوية طريفة له عنوانها حذف النون، يقول: «عمري لم أر- قبل هذه الآنسة الشاعرة- إنساناً يزوج القطة للفأر في اللغة، كما تفعل هذه الآنسة الجذابة حتى أن أخطاءها القاصمة للظهور- جعلتني أغفل عن حسنها وصباها «22 سنة» المبرعم.. بل أكاد أراها، أستغفر الله العظيم، غير جميلة ولا صبية إطلاقاً..».
كانت تقرأ على النحو التالي تقريباً:
إن الطوفان الكارثة على قلب روحي «تسكن كلمة قلب ثم تتوقف لتسألني»:
- قلب بالفتح أم بالضم.
فلا أفهم سؤالها بادىء الأمر وأجيب بسؤال:
- فتح ماذا وضم ماذا؟
- كلمة قلب.
- تقصدين ما حركتها؟»
وبعد هل يتسع المقام للمزيد والمزيد مما تدعو اليه كتابات حسيب.. ربما يتسع ولكن في مقام غير هذا، وبانتظار من يجد في نفسه الكفاءة والمقدرة، والصبر الطيب.. لتقديم هذا المزيد.
ويبقى لحسيب، بعد كل ما تقدم، أثره الباقي والملحوظ في أكثر من جيل ممن تلاه من الأدباء، من أبناء محافظته البررة من أمثال خطيب بدلة وتاج الدين الموسى وحتى نجم الدين السمان، ومن غير أبناء محافظته ممن أترك للقراء والنقاد تسميتهم، وأكتفي بالقول: إن استمرار تأثيره هو تأكيد لأصالته، فلا يؤثر في سواه إلا كاتب أصيل، ولا يصح أن يكون ثمة مريد إلا لشيخ كار حقيقي، وهو ما كانه حسيب بحق.. ولم يصح إلا للقلائل من الكبار.
جمال عبود
المصدر: البعث
إضافة تعليق جديد