غسان رفاعي: أحلام عام 2009

12-01-2009

غسان رفاعي: أحلام عام 2009

ـ 1 ـ قد يتعذر عليّ اطلاق العنان لقلمي، في مثل الظروف الاستثنائية الداكنة التي نعيشها اليوم، ونحن نشاهد مظاهر العهر السياسي والأخلاقي التي يجابه بها المجتمع الدولي «المتحضر» ما يجري في غزة، وما يتعرض له الشعب الفلسطيني من قتل وتجويع ومحاصرة. ويبدو أنني فقدت القدرة على السخرية ـ وكنت موهوباً في صناعتها وتصديرها ـ بعد أن تراكم في شعوري ولاشعوري معاً غضب أسود لا يمكن التحرر منه، واذن، فليسمح لي أن أقتنص هذه السخرية من كتّاب آخرين، حتى ولو لم يكونوا عرباً فقد يجيدون التعبير أفضل مني.

قرأت في صحيفة «البايس» الاسبانية الواسعة الانتشار مقالاً للأديب الاسباني «جوان غويتيسولو»، عن «أحلام في عام 2009» أظهر فيه قدرة على السخرية الممزوجة بالغضب، من النادر أن تصدر عن كاتب غربي، وفي المناخات المتوترة السائدة في المجتمع الغربي الآن. ‏

لقد أصدر هذا الأديب الموهوب أربعين كتاباً في الرواية والدراسة والنقد، والاجتماع، ترجمت الى عدد من اللغات الأخرى، ولد في مدينة لشبونة عام 1930، وأقام في باريس منذ عام 1956، ولكنه فضل، آخر الأمر، أن يستقر في مدينة مراكش. ‏

ـ 2 ـ ‏

حلمت بأنّ عناصر ناشطة من الأنتربول «البوليس الجنائي الدولي» قامت بمصادرة كل التماثيل والمجسمات والدمى التي ترمز إلى بابا نويل، والمنتصبة أمام المخازن الكبرى في عواصم ومدن العالم، بتهمة «التطهير العرقي» و« التصفية العنصرية»، وزجها في غرفة واحدة مع المجرم العنصري الصربي «كاراجيك» في سجن محكمة لاهاي، بعد أن ثبت أن بابا نويل لا يعترف إلاّ بـ «10%» من سكان الأرض من المتخمين والمرفهين والفاسدين. ‏

وحلمت ان العقلاء في المجتمع الدولي اتخذوا قراراً بضم الأصناف التالية الى قائمة الارهابيين المطلوبين للعدالة: المضاربين الماليين في شارع وول ستريت، ومديري المصارف العملاقة، وملاك الكازينوهات التي يتردد عليها الأثرياء والمتخمون، بتهمة تدمير برجي التجارة في مدينة نيويورك ورشوة السياسيين لكي يتكتموا على الجناة الحقيقيين، ويخترعوا ما سموه، عدوان الـ 11 أيلول. ‏

وحلمت أن الرئيس «بوش» ساكن البيت الأبيض المطرود، بعد انتهاء ولايته، يتقدم بطلب الى قيادة الجيش الأميركي لقبوله كمتطوع برتبة جندي غير متدرب، لخدمة بلاده في العراق. ‏

وحلمت بظهور شركة عراقية عملاقة تغرق الأسواق بملايين الأحذية والصنادل والجزمات والمشايات، تمهيداً لاشتراكها في مسابقة دولية للرماية على أهداف محدودة. ‏

وحلمت بالكشف عن رسائل ودية متبادلة بين الرئيس «بوش» و«بن لادن»، تؤكد تصميمها المشترك على التعاون، وأن جهاز المخابرات الأميركية الـ «سي.اي.اي» هو الذي تولى تسريب هذه المعلومة الى الصحف. ‏

وحلمت بجهاديين متزمتين، كانوا على استعداد للتضحية بحياتهم، وحياة الآخرين، وهم يتدافعون الى صالونات الحلاقة الحديثة، للتخلص من لحاهم، وذقونهم المطحلبة، وليعلنوا استعدادهم للعمل «كموديلات» للدعاية لمستحضرات التجميل الجديدة التي تنتجها شركة أوريال. ‏

وحلمت بصقور البنتاغون، وهم يتخلون عن مناصبهم، ويشكلون فرقة موسيقية، تقدم عروضها على المسارح، وهي تفاخر بأغنية جاز جديدة اسمها «غوانتانامو» يرقص على أنغامها هواة الموسيقا الالكترونية. ‏

وحلمت بقداسة البابا «بينوا»، بعد أن قرر أن يقتفي خطا السيد المسيح، لا السيد «ارماني»، وهو يتخلى عن عربته الكهنوتية، وتاجه الأسقفي، وطيلسانه، ومظاهر الزينة الأخرى، ويتنزه في ساحة القديس «بيير»، وهو يحمل محفظة صغيرة، وينتعل صندلاً متواضعاً حيث يخشى عليه أن يكون من ضحايا حراسه الذين لا يتحملون رؤية الغرباء في موكب قداسته. ‏

وحلمت بأصحاب الجلالة، هنا وهناك، وهم يستقبلون، بمناسبة العام الجديد، وفداً رسمياً تم اختياره من صفوف الشحاذين والمدمنين على المخدرات والمتشردين، المتنشرين في شوارع وأزقة العالم، كيما يصار الى تقلديهم أوسمة مثل ربطات عنق فاخرة من انتاج «بيير كاردان»، و«ايف سان لوران». ‏

وحلمت بنساء أفغانيات محجبات، وهن ينزعن النقاب الأفغاني عن وجوههن، ويقدمنه هدية الى زعماء الطالبان وقادة العشائر الأفغانية، للحفاظ على طهارتهم من جهة، وتجنب الوقوع في الخطيئة من جهة أخرى. ‏

وحلمت برؤية الطغاة والمعتدين، ورؤساء ـ مدى الحياة، في العالم كله، وهم يقدمون استقالاتهم من مناصبهم، ليتفرغوا لقرض الشعر، وممارسة الرقص الشعبي في الساحات العامة. ‏

وحلمت بأن تتوقف اليخوت الفاخرة التي تجوب البحر الأبيض المتوسط، في ميناء غزة، كيما يتمكن أصحابها من ممارسة لعبة «الجولف» والتمتع برؤية الخرائب والدمار في كل مكان. ‏

وحلمت بأن يتفق زعماء فتح وحماس على محاصرة إسرائيل وقصفها براً وجواً وبحراً، واخضاع الاسرائيليين للاذلال بعد اقامة الحواجز التفتيشية بين المدن والقرى الاسرائيلية، وبناء جدار عازل يمنع الاسرائيليين من السفر الى الخارج، والاختلاط بالآخرين، ولا بأس من أن تحلّق الطائرات الفلسطينية في الفضاء الاسرائيلي، وأن تلقي بعض القنابل والصواريخ «للتسلية» و«فش الخلق». ‏

وحلمت أن الأفارقة السود قد توصلوا الى أن يكون مستوى معيشتهم مساوياً لمستوى السادة في أوروبا وأميركا، بفضل تدخل العذراء السوداء التي ظهرت أخيراً في مونتسارات، وأن يخصصوا وظائف الخدمة للمتفوقين من البيض، على شرط أن يثبتوا أصالة جذورهم. ‏

ـ 3 ـ ‏

حينما قرّر الكاتب المكسيكي «غيرمرفادانلي» أن يتوقف عن متابعة ما يجري في العالم، وأن يقلع عن الاستماع الى نشرات الأخبار، ومشاهدة التلفزيون، وقراءة الصحف، شعر بالسعادة، وتبين له أن فهمه قد زاد واتسع. كتب غاضباً «ما يدعو الى الريبة ان منابر المعرفة والمعلومات هي منابر متسخة، يملكها أناس لا أثق بهم، بنزاهتهم، ولا بحيادهم، ولن أسمح لهم أن يتحكموا بما ينبغي أن أعرفه، وما ينبغي أن أجهله، واستشهد بمخترع الكمبيوتر «اسن تورينغ» الذي انتحر قبل أن يكمل الأربعين من عمره، تاركاً وصيته التي تقول: «ستصابون بالهستريا جميعاً، وستحفرون قبوركم بأيديكم، ولن تتحملوا هذا الإمطار من المعلومات الكاذبة التي ستتساقط على رؤوسكم». ‏

قامت البارحة، يوم السبت، مظاهرة عملاقة في شوارع باريس، اشترك فيها عشرات الألوف من المواطنين الفرنسيين والعرب والمسلمين، وعشرات من الزعماء السياسيين، والمثقفين البارزين، وكان يتقدم التظاهرة شعار عملاق كتب بالحبر الأحمر: «الموت للإعلام الملوث المنافق» وكان هذا الشعار بمثابة رد على نفاق الإعلام الفرنسي وتحيزه الفاضخ لمصلحة إسرائيل، ولكن أكثرية المواطنين لا يخدعون بهذا النفاق وهم قادرون على معرفة الحقيقة بوسائلهم الخاصة. ‏

د. غسان رفاعي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...