تعقيبا على حديث وزير العدل إلى جريدة (الاقتصادية)
الجمل- المحامي عبد الله علي: مما لا أشك فيه لحظة واحدة أن مرحلة الوزير محمد الغفري على رأس وزارة العدل ستكون من أكثر مراحل هذه الوزارة إثارة للجدل منذ ما يقارب أربعين عاماً. وذلك نظراً لما شاب هذه المرحلة من اتخاذ خطوات حاسمة سيكون لها تأثيرها البعيد على المؤسسة القضائية برمتها ولسنوات طويلة قد لا يدرك السيد الوزير نفسه عددها.
ومن أكثر الخطوات إشكاليةً تلك التي تقرر على أساسها تسريح عشر قضاة سورية دون محاكمة ودون إعطاء القضاة المسرحين فرصة للدفاع عن أنفسهم أو الطعن بقرار تسريحهم. وهي خطوة لم يسبق اتخاذها في تاريخ سوريا إلا عام 1966 عندما كان الدكتور محمد الفاضل على رأس الوزارة آنذاك. وما زال بعض القضاة المسرحين في ذلك الحين يعاني من آثار تسريحه حتى وقتنا هذا وبعضهم ـ للمفارقة ـ أصبح يمثل مرجعية حقوقية في مجال حقوق الإنسان ومن الطريف أن الوزير محمد الغفري قد استقبل أحد هؤلاء القضاة المسرحين عام 1966 وذلك بوصف القاضي المسرح رئيساً لجمعية حقوق إنسان يسعى لترخيص جمعيته.
وهناك خطوات أخرى لا تقل إشكالية وإثارة للجدل عن خطوة تسريح القضاة، منها توقيف رئيس محكمة النقض ونائبه لمدة تقارب العام. وإصدار تشريعات جديدة تطبق على القضاة ذات الأحكام التي تطبق على الموظفين العامين ولاسيما في موضوع الترفيع.
ولن ندخل هنا في تفاصيل تلك الخطوات والإشكاليات الدستورية والقانونية التي تترتب عليها ومدى مخالفتها لمبدأ استقلال القضاء المنصوص عليه في صلب الدستور السوري. ولكننا أردنا فقط أن نشير إلى أن مرحلة السيد الوزير محمد الغفري ستكون من أكثر مراحل وزارة العدل إثارة للجدل وهذا ما سيعطيها أهمية خاصة في التاريخ القريب.
على هذه الخلفية التي نتصورها لمرحلة السيد الوزير سوف نحاول أن نقرأ بين سطور الحوار الذي أجراه مع جريدة (الاقتصادية) محاولين تبيان أهم محاور هذا الحديث وبعض المغالطات التي وردت فيه والتي قد لا يتبينها المواطن العادي بسبب عدم اختصاصه بالعلوم القانونية. وسوف نحرص قدر الإمكان على عدم الإطالة.
أولاً ـ ما زال غير واضح بالنسبة لنا ما هو مفهوم السيد وزير العدل لمبدأ استقلال القضاء مع أن السيد الوزير لا يدع مناسبة دون أن يتحدث عن هذا المبدأ. ونتمنى فعلاً ذات يوم أن يقول لنا السيد الوزير صراحة ما هو مفهومه لهذا المبدأ؟ وهل هو متوفر في القضاء السوري؟ وما هو المعيار الذي يمكننا الاستعانة به لنعرف ما إذا كان القضاء مستقلاً أم لا؟ وهل هناك فرق بين استقلال القضاء كمؤسسة واستقلال القاضي كفرد؟ وهل يمكن أن يكون القضاء مستقلاً طالما أن أحد أعضاء السلطة التنفيذية (وزير العدل) يمسك بزمام السيطرة عليه؟
ثانياً ـ أليس من المغالطات الكبيرة أن يقول السيد الوزير أن أهم المشاكل التي يعاني منها القضاء هي بطء إجراءات التقاضي؟ وهل بطء إجراءات التقاضي مشكلة بحد ذاتها أم هي من الآثار السلبية التي تترتب على المشكلات الحقيقية التي يعاني منها القضاء؟ ...إن هذه النظرة في تأصيل مشكلة القضاء هي تسطيح وتلاعب على وعي المواطنين. وإنني أعتقد أن مشكلة القضاء أعمق من ذلك بكثير فهي مشكلة ماهية واستقلال أكثر مما هي مشكلة ممارسة وأداء. لأن الأخطاء الحالية والآثار السلبية (ومنها بطء التقاضي) الموجودة في الممارسات القضائية هي نتيجة لما يشوب المؤسسة القضائية من خلل في ماهيتها وطبيعتها وعلاقتها بالسلطات الأخرى للدولة وما نتج عن هذا الخلل من فقدان القضاء لاستقلاله وحياده.
ثالثاً ـ كان من المؤسف حقاً رد الفعل الذي اتخذه السيد وزير العدل تجاه استطلاع الرأي الذي أجرته جريدة الثورة وتبين بموجبه أن المستطلعة آراؤهم يرون أن القضاء يحتل المرتبة الأولى في الفساد.
فقد حاول السيد الوزير أثناء حديثه مع جريدة الاقتصادية الطعن في مصداقية الاستطلاع وصحة النتائج التي انتهى إليها وذلك بدل أن يسارع إلى اتخاذ خطوات جادة وصائبة لتصحيح مسار الأمور قبل فوات الأوان.
وفي سياق توجيه اللكمات على الاستطلاع المذكور حاول السيد الوزير التلميح إلى أنه لا يجوز أن يكون القضاء موضوعاً لاستفتاء الرأي العام حوله. وكأنه فات السيد الوزير أن الدستور الذي يؤسس القضاء وينص على استقلاله ويمنحه كافة صلاحياته إنما وضع بموجب استفتاء الرأي العام، وكذلك فاته أن الجهة التي يقوم القضاء بإصدار الأحكام باسمها تملك دون شك سلطة محاسبة القضاء ومحاكمته وإعطاء الرأي حوله. فالقضاء ليس مقدساً بذاته وإنما بمدى احترامه للمهمة المنوطة به وهي إحقاق الحق وإبطال الباطل فإذا تخلى القضاء لسبب أو لآخر عن أداء مهمته فلا بد وأن يكون موضع مساءلة من قبل الرأي العام.
كما حاول السيد الوزير أن يشكك بمصداقية الاستطلاع من خلال القول أن عدد المستطلعة آراؤهم عدد قليل لا يمثل رأي عشرين مليون سوري، وتابع أن الجهة التي أجرت الاستطلاع لم تبين صفة ومستوى الناس الذين شاركوا في الاستطلاع: ما هو مستواهم الثقافي ؟ هل هم مدعين أم مدعى عليهم؟ هل لهم تجربة مع القضاء أم لا ؟ ليخلص سيادته إلى القول أن مقومات الاستطلاع عاجزة عن حمل نتائجه.
ونحن نتساءل: أي فرق يترتب على كون المشاركين في الاستطلاع هم من المدعين أو المدعى عليهم؟ لنفترض أن جميع المشاركين هم من المدعين أو من المدعى عليهم فما هو الفرق في ذلك والذي من شأنه أن يؤثر على نتيجة الاستطلاع وصحته؟
والغريب بعد ذلك اعتراف السيد الوزير أنه لا يلم بعلم استطلاع الرأي !! فكيف أجاز لنفسه أن ينتقد ما ليس له به علم على حسب قوله.
هذه بعض الملاحظات التي أردنا أن نسجلها على حديث السيد وزير العدل، مع الإشارة إلى احترامنا لشخص السيد الوزير وتقديرنا للمحاولات التي يقوم بها في سبيل ما يراه الأفضل والأحسن للقضاء رغم مآخذنا على هذه المحاولات، وكذلك مع الإشارة إلى إدراكنا لحجم الضغوط التي يعمل بها السيد الوزير وضيق هامش المناورة أمامه في أحيان كثيرة. ونحن نؤمن بالقول أن من لا يعمل لا يخطئ ... ولكن تبقى الشفافية مع المواطن واحترام رأيه، والعمل في مناخ من التعاون والمشاركة بين جميع المعنيين بالشأن القضائي من أهم العناصر التي يجب مراعاتها في أي عملية إصلاح قضائي.
الجمل
إضافة تعليق جديد