مقاومة التكنوقراط 6: دروس الثورة الكندية
الأيهم صالح: تقدم الطريقة التي يتم بها سحق ثورة سائقي الشاحنات في كندا العديد من الدروس لمن يرغب في مقاومة التكنوقراط، ورغم أن المعركة ما زالت مستمرة، فهناك دروس واضحة يمكن استخلاصها من الأحداث الحالية.
اللاجدوى
منذ أكثر من عام استشهدت بما يحصل في كندا لأقول أن ما يحصل في العالم يستعصي على التصديق، ويثير الرعب مما سيحصل بعده (المصدر). وقتها لم أكن قد درست حركة التكنوقراط، ولم أكن أعرف الكثير عن المنتدى الاقتصادي العالمي، ولم أكن أعرف أن كلاوس شواب كان قد تفاخر في 2017 أن أكثر من نصف حكومة كندا من جماعته.
ولكن وقتها كان واضحا لي أن الحكومات في كندا واستراليا ونيوزيلاند وغيرها لا تكترث بدساتيرها ولا بالقوانين التي وضعتها، وأن الشعوب أدمنت الخضوع لأن أفرادها فقدوا سيادتهم على أنفسهم منذ وقت طويل، وقد تجلى ذلك واضحا تماما في ثورة كندا وفي المظاهرات التي تحصل في استراليا ونيوزيلاند. فإصرار هذه الشعوب على الخضوع للقوانين التي تستعبدهم هو نقطة الضعف الأساسية في حركتهم. ما حصل في كندا يشبه أن يحتج عبد على إساءة سيده لمعاملته، وليس على العبودية من أساسها، ورد فعل التكنوقراط في كندا كان تلقين كل العبيد درسا في الطاعة وفي معنى كون بعض الناس سادة والآخرين عبيدا.
لم يستوعب الكنديون أن ما يحصل معهم ليس نتيجة لقرار حكومي، بل هو نتيجة للنظام الذي يسمح لفئة حاكمة أن تفرض ما تشاء على من تشاء. وأية ثورة تريد النجاح يجب أن تنطلق من هذه الفكرة، وتضع هدفا لها القضاء على إمكانية تكرار المظالم التي خضع لها الناس، أي على إمكانية أن يفرض أحدا ما قرارات على أي أحد آخر، وإلا فهي مجرد دوران في حلقة مفرغة من اللاجدوى.
التخطيط للفشل
بدأت ثورة سائقي الشاحنات على شكل حركة فردية، بضعة سائقي شاحنات قرروا السفر إلى العاصمة للاحتجاج على قرارات الحكومة. لاحقا انضم إليهم آلاف سائقي وحياهم الشعب الكندي عند مرورهم على التقاطعات وظهر بشكل جلي أن حركتهم تمثل شرائح واسعة من المجتمع الكندي. وقد وصل هؤلاء إلى العاصمة واحتجوا حوالي ثلاثة أسابيع قبل أن يتم سحق احتجاجهم. يمكن القول أن من أطلقوا الحركة قد حققوا هدفهم، فقد احتجوا على القرارات وأوصلوا صوتهم للعالم كله. ويمكن القول أنهم كانوا يدركون الخطر وأنهم مستعدون لدفع الثمن، ولذلك فثورتهم كانت ناجحة بالقياس إلى أهدافها.
ولكن هل يعتقد سائقوا الشاحنات الآن أنهم نجحوا في تحقيق أهدافهم؟ هل تحسن وضعهم؟ هل تغير أي شيء في كندا نحو الأحسن؟ من يتابع مؤتمراتهم الصحفية يدرك أنهم يشعرون بفشل جذري، ولكنهم حتى الآن لم يكتشفوا أن سبب فشلهم الجذري هو تخطيطهم للفشل. لو خططوا للنجاح لقاموا بما يجبر الحكومة على الخضوع لهم، وبما يمنع الشرطة من قمعهم، وبما يقنع الناس أنهم قوة يعتد بها، ولا يمكن التعامل معها كحيوان سيرك مروض.
نتيجة ثورة سائقي الشاحنات كانت واضحة منذ بدايتها، ينجح دائما من يخطط للفشل.
الفشل الجماعي
تضرر عشرات ملايين الكنديين من قرارات الحكومة الكندية، وعندما رغب بضعة أشخاص بالاحتجاج تضامن معهم الآلاف ودعمهم الملايين بتبرعات نقدية، وتحولت احتجاجاتهم الفردية إلى نشاط جماعي، فكيف شارك به الكنديون؟ اعتبر الكنديون أن هذا النشاط فرض كفاية، ويكفي أن يقوم به أشخاص محددون في حين يدعمهم الآخرون بالمال. اعتقد الكنديون بشكل عام أن التبرع ب 50 دولار لسائقي الشاحنات يبرر لهم عدم المشاركة في الاحتجاجات، ولذلك لم تتسع حركة الرفض لتشمل فئات أكبر من المجتمع. لم ينضم عمال قطاع السياحة إلى الاحتجاجات رغم أن الحكومة دمرت دخل قطاعهم، لم ينضم أصحاب المؤسسات الصغيرة إلى الاحتجاجات رغم أن الحكومة منعتهم من العمل وأفلست الكثيرين منهم. باختصار تضامن الكنديون بالعواطف وب 50 دولارا مع حركة احتجاج على قرارات تسيء إليهم جميعا.
هذا مصير الحلول الجماعية في كل زمان ومكان، كان هذا مصير الحركة المضادة للحروب في أول هذا القرن، ومصير حركة احتلال وول ستريت في أول العقد الماضي. لا يحتاج قمع هذا النوع من الحركات إلى خبرة التكنوقراط، فالبيروقراطيون قادرون على التعامل معها بكفاءة، ولا مجال لنجاح أية حركة من هذا النوع إلا في تحقيق أهداف تكافئ الفشل التام.
مواجهة التكنوقراط مسؤولية فردية، بمعنى أنها مسؤولية كل فرد، وليست جماعية. القرار أمام كل إنسان هو: هل تشعر أنك إنسان حر ذو سيادة على نفسك، أم أنك مواطن خاضع للحكومة؟ يؤسفني أن توم مازارو، الناطق باسم سائقي الشاحنات الكنديين، مازال يصر على أنه مواطن خاضع للحكومة وملتزم بالقانون حتى وهو يحس بسطار الغستابو على رقبته (شاهدوا مؤتمره الصحفي هنا). توم مازارو يمثل ملايين الكنديين، وهم جميعا يشعرون ببسطار الغستابو على رقابهم بل في أعماق حناجرهم، ويصرون على الخضوع للحكومة الكندية.
لقد حصل الألمان والروس والصينيون على ما استحقوه في القرن الماضي، وفي هذا القرن يحصل الكنديون والنمساويون والاستراليون وغيرهم على ما يستحقونه فعلا. ولن يتغير واقعهم حتى يدرك كل فرد منهم أن عليه أن يعمل بنفسه من أجل حريته.
أبو علي خبية الكندي
في حين تمسك ثوار كندا بالقوانين وأصروا على الالتزام بها، لم تكترث الحكومة بأي قانون. مثلا حصلت عدة اعتقالات في صفوف الثوار، واستسلم الثوار للاعتقال مباشرة وهم يعتقدون أن القانون في صفهم، ولكن الشرطة التي اعتقلتهم لم تأخذهم إلى السجن، بل أخذتهم إلى مناطق جرداء وألقتهم على قارعة الطريق ليواجهوا برد الشتاء الكندي في العراء، ثم أنكرت أنها اعتقلت أي أحد. في إحدى الحالات وصلت الشرطة لدرجة تفعيس امرأة عجوز على عكاز بالأقدام أمام الكاميرات ثم القول أن الحادثة لم تحصل.
وهذا الأسبوع طلبت الحكومة من البنوك إيقاف حسابات آلاف الأشخاص بدون مستند قانوني، وقامت بعض البنوك بذلك، مما يؤدي لتعريض آلاف الأشخاص للإفلاس، ولعدم القدرة على شراء الطعام، وللطرد من منازلهم بسبب عدم القدرة على دفع الإيجار أو القروض. كما أعلنت الشرطة أنها ستصادر ممتلكات من شاركوا في الاحتجاجات وستبيعها بالمزاد العلني لتغطية تكاليف مرحلة الاحتجاجات، رغم أنه لا يوجد أي قانون في كندا يسمح بذلك. عمليا تقوم الحكومة الكندية بما يشبه قيام إرهابيي سوريا بالتكبير على ممتلكات الناس لنزع ملكيتهم، ولا يقف التشابه عند هذا الحد، فالحكومة الكندية تملك "قضاة شرعيين" يستطيعون تبرير أي سلوك تقوم به، وتملك تنسيقيات إعلامية تسوق كل ما تقوم به على أنه فرض عين عليها.
باختصار، الحياة في كندا، أو أي مكان يحكمه التكنوقراط، تشبه الحياة في دوما أيام أبو علي خبية، وفي إدلب حاليا من ناحية حقوق الانسان واحترام القوانين، وثوار كندا حاليا يشبهون من يحتجون سلميا على بعض قرارات أبو علي خبية الكندي.
ثمن الحرية
لا يكفي فهم مخطط التكنوقراط لتأسيس مقاومة فاعلة لهم، بل يجب أن يضاف إليه فهم منطلقاتهم النظرية ودراسة أساليبهم. هؤلاء أناس بالغو القوة ومشروعهم المعلن هو إعادة هندسة المجتمعات، وشعاراتهم هي "The great reset” و “The New Normal” و “Build back better”. من الخطأ التعامل معهم كحكومة تقليدية أو كبيروقراطيين، أصلا أول ما يفعله التكنوقراط بأي مكان هو تفكيك الحكم القائم، أي تفكيك البيروقراطية القائمة، بهدف إعادة بنائه بشكل "أفضل" متناسق مع ما يسمونه الوضع الطبيعي الجديد. التكنوقراط لا يحترمون القوانين بل يحتقرونها ويحتقرون من يحترمها ومن يطبقها، ويريدون استبدالها بقوانين جديدة من صناعتهم. وفي وضعهم الطبيعي الجديد يفقد الإنسان أية قيمة شخصية ويتحول إلى مجرد أداة من أدوات الإنتاج. بالنسبة للتكنوقراط، من يعارضهم هو آلة عاطلة ومصيرها السحق في مكب الخردة. هذا ليس تشبيها، بل هو تعبير عن نظرتهم للإنسان كما كتبوها في منهجهم (راجع مقالة منهج التكنوقراط).
ما تفعله الحكومة الكندية بمن احتج على قراراتها حاليا هو أفضل دليل على ذلك، فدعسهم تحت الأقدام أو إلقاؤهم في مناطق مهجورة ثم مصادرة أموالهم وممتلكاتهم وبيعها بالمزاد العلني هو الخطوة الأولى، وما سيليها أشنع بكثير. وما يحاول الكنديون تجاهله حاليا هو أن مصيرهم جميعا تحت حكم التكنوقراط سيكون أشنع من مصير هؤلاء الآلاف من المحتجين، فعندما يسيطر التكنوقراط تماما على الحكم، وينجحون في إخماد الحركات الاحتجاجية، سيدرك ملايين الكنديين أنه كان عليهم أن يعارضوا حكم التكنوقراط عندما كان ذلك ممكنا، وسيندمون على عدم مشاركتهم مع سائقي الشاحنات وعلى كل فرصة فاتتهم لمقاومة الحكم الذي تؤسسه الحكومة الكندية حاليا، ولهم في تجارب الألمان والروس والصينيين في القرن الماضي موعظة وعبرة لمن يعتبر.
وعندما أعلن أنا أنني أعارض التكنوقراط ومخططهم، فأنا أعرف تماما أنني سأواجه محنة لا تقل عن محنة سائقي الشاحنات الكنديين، ولكنني بالمقابل أعرف أن أفضل فرصة لمستقبل جيد لي ولأطفالي هي مواجهة التكنوقراط بأسرع وقت، وبالطريقة التي تناسب هذا النوع من المعارك.
هل تعتقد أن سائقي الشاحنات كانوا على حق في إصرارهم على الخضوع للقانون؟ وهل تعتقد أن من الأفضل مواجهة التكنوقراط مبكرا، أم أن من الأفضل الخضوع لهم وتجنب المواجهة؟
التعليقات
ماذا لو أن احتجاجات السائقين…
ماذا لو أن احتجاجات السائقين الكنديين قد مولتها جهات أجنبية معادية، ودعمها جهاديون بشاحنات مفخخة، وأظهرت قنوات فضائية أعمالهم على أنها ثورة حرية.. كلامك صحيح حول محنة المجتمعات الغربية تحت حكم التكنوقراط، لكن في بلادنا العربية فإن الإستبداد الديني يوازي الإستبداد السياسي، وهما متفقان على إخضاع الجمهور، منذ ألف عام، لذلك فإن الإمتناع مثل التمرد، لايجديان نفعا، وعلينا أن نجد أساليب ضغط سلمية جديدة في مواجهة السلطات السياسية والدينية ..
الامتناع لا يجدي نفعا؟ما…
الامتناع لا يجدي نفعا؟
ما رأيك بأطروحة العبودية المختارة، وهو كتاب اقتبسته الحلقة الثانية من هذه السلسلة، وفيها رابط لقراءته بالعربية. في هذا الكتاب فكرة أساسية، لست مضطرا لمحاربة الاستبداد ولا تحتاج أية أساليب للضغط عليه، يكفي أن تمتنع عن دعمه، وعلى الأقل أن تمتنع عن فعل ما يضرك أنت.
وما رأيك بامتناع أي شخص عن فعل ما يضره، هل يجدي ذلك أي نفع؟
أيضا، احتجاجات السائقين الكنديين مولتها فعلا جهات معادية للحكومة، وهي الشعب الكندي وبعض أصدقائه، ولكنهم كانوا أضعف نفسيا بكثير من أن يفكروا بالضغط على أعدائهم، كل ما طالبوا به هو الحديث مع الحكومة، بالمقابل تعاملت الحكومة معهم كقوة احتلال، كجيش غاز، وضغطتهم تحت الأقدام بالمعنى الحرفي للكلمة.
على فكرة حكومتهم دعمت أبو علي خبية وأشكاله من ثورجية الناتو في بلادنا.
هذا خيار غاندي ضد الإستبداد…
هذا خيار غاندي ضد الإستبداد البريطاني وأنا أؤيده بقوة
غاندي لم يطلب الحوار مع…
غاندي لم يطلب الحوار مع البريطانيين ولا مع شعبه. لم يطلب الحوار من أجل ضريبة الملح، بل قال أنه سيستخرج الملح بنفسه. لم يطلب الحوار من أجل وقف العنف، بل أعلن عن الصيام من أجل وقف العنف.
استراتيجية اللاعنف لا تعني حل المشاكل بالحوار بل تعني رفض الخضوع والتحدي بدون عنف أو تسبيب أذى للآخرين.
إضافة تعليق جديد