المادة الثامنة في الدستور: تحطيم الأصنام لا يعني انتفاء الوثنية
الجمل- عبدالله علي: ترمز المادة الثامنة من الدستور إلى النهج التاريخي الذي سارت عليه السلطة في بلادنا منذ قيام الخلافة الاسلامية وحتى وقتنا الراهن، وأهم السمات التي تميز هذا النهج هي السلطة المطلقة وحظر المعارضة السياسية. لذلك من الخطأ أن ننظر إلى المادة الثامنة من الدستور على أنها بدعة جاءنا بها حزب البعث العربي الاشتراكي فالإنصاف يقضي منا أن نعترف أن بلادنا لم تعرف طريقة مغايرة للحكم منذ عام 640 ميلادية تاريخ فتح سورية على يد المسلمين العرب وحتى أيامنا هذه، وبالتالي فإن المادة الثامنة ما هي إلا صيغة حديثة للجوهر القديم نفسه.
***
فالدولة الاسلامية منذ نشأتها قامت على أساس لحزب الواحد الذي يحتكر السلطة ويرفض أي معارضة سياسية منافسة له سواء كانت إسلامية أم غير إسلامية.
وقد يحتج علينا البعض بأن الإسلام رسالة سماوية وشريعة دينية ولا يجوز الحديث عنه باعتباره حزباً سياسياً. ونحن إذ نقرّ بأن الإسلام رسالة وشريعة ذات طابع إلهي، إلا أننا نعتقد أن أي تنظيم يكون من أهدافه تأسيس دولة أو تولي الحكم فيها وإدارة شؤونها هو تنظيم سياسي ولو انطلق من منطلقات دينية، وبالتالي يمكن أن نطلق عليه اسم الحزب.
وبغض النظر عن تباين المبادئ والمنطلقات واختلاف الأهداف والغايات، وفي مقاربة مع الأنظمة السياسية الحديثة، يمكن القول أن نظام الحكم في الدولة الإسلامية، أشبه ما يكون بأنظمة الحكم التي قامت في الديمقراطيات الشعبية في أوروبا الشرقية وغيرها من الدول التي دارت في فلك الاتحاد السوفياتي، وذلك من حيث احتكار سدة الحكم في الدولة من قبل حزب واحد لا منافس له واعتبار نفسه وصياً على المجتمع بكافة تفاصيل حياته ومعيشته.
وقد أدت هذه الصيغة الأحادية في تركيب بنية الحكم إلى حالة من الجمود أصابت العقل السياسي العربي، وتكرست هذه الحالة بشكل خاص في العهد العثماني الذي كان يسعى جاهداً لنشر الجهل والتخلف وإحلال الفرقة الدينية والطائفية والعشائرية بين المواطنين العرب، لتسهيل السيطرة عليهم ومنعهم من الانتفاضة ضد حكمه.
***
وفي العصر الحديث، تدلنا تجربة الكتلة الوطنية على أنها سعت جاهدة على ترسيخ مفهوم الحزب القائد وبناء نظام الحكم على أساسه، ولا يقلل من أهمية هذا الاستنتاج ألا تكون الكتلة الوطنية قد استخدمت مصطلح الحزب القائد صراحة، لأنها في الواقع كانت أكثر فجاجة في طرح الفكرة عندما وضعت شعار "الجهاد للجميع والطاعة للكتلة الوطنية".
ومقتضى هذا الشعار، أن من واجب فئات الشعب أن تجاهد في سبيل تحرير الأرض وتحقيق استقلالها عن سلطات الاحتلال. لكن لا يستطيع الشعب أن يخرج عن الرأي الذي تطرحه الكتلة الوطنية في الشأن الوطني. فطاعتها واجبة ومفترضة ولا يجوز التصرف عكس ذلك.
وسوف تتعزز القناعة بصحة ملاحظتنا حول اتجاه الكتلة الوطنية إلى احتكار "النضال الوطني" واستلام "القيادة" في الدولة والمجتمع وحدها دون منافس، عندما نقرأ نص المادة الثالثة من منظومة المبادئ التي وضعتها الكتلة الوطنية في المؤتمر الذي عقد في حمص بتاريخ 4/11/1932 ، حيث ورد فيها: ((من الواجب جمع قوى الأمة وتوجيه جهودها لتحقيق الآمال الوطنية، ولذلك تعتبر الكتلة الوطنية تأليف الأحزاب السياسية مخالفا لوحدة الجهود)). فهذه المادة تشبه كثيراً نص المادة الثامنة من الدستور الحالي والتي تتحدث عن حشد طاقات الجماهير لتحقيق أهداف الأمة العربية بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي، بل إنها تزيد عليها بحظرها علناً تشكيل أية أحزاب سياسية معارضة.
وأكثر من ذلك، فإن الكتلة الوطنية ذهبت إلى اعتبار المبادئ السابقة من قبيل الثوابت الوطنية التي لا يجوز تعديلها أو المساس بها لأنها جوهرية بالنسبة لحياة الأمة وكيان الكتلة الوطنية. ولا شك أن من يعطي نفسه الحق بالانفراد في تحديد ثوابت الأمة التي تعتبر جوهرية لحياتها ولا يجوز لأحد المساس بها، يعتبر نفسه ولياً ووصياً على هذه الأمة ويملك أن يحدد لها المجال الذي عليها أن تحيا به وتتنفس من هوائه. وهذا يبين بشكل أكيد ولا يحتمل الجدل بأن الكتلة الوطنية كانت تعتبر نفسها بمثابة الحزب القائد للدولة والمجتمع وإن لم تعبر عن ذلك بذات الألفاظ والمصطلحات.
***
واليوم نجد أنفسنا وجهاً لوجه أمام المادة الثامنة من الدستور برمزيتها التي تخفي وراءها قروناً من نمط الحكم الأحادي ودهوراً من الاستبداد والطغيان. ونسمع في كل يوم مطالبات كثيرة بضرورة إلغاء هذه المادة لأنها تتناقض مع حركة التاريخ والزمن كما يقول الكاتب السوري نبيل فياض.
وبالتالي نجد أنفسنا أيضاً وجهاً لوجه أمام الفكر الديني والسياسي الذي أنتج هذه الصيغة في الحكم والتي تعتبر المادة الثامنة واحدة فقط من تجلياتها الكثيرة، لكننا هنا لا نسمع أحداً يطالب بضرورة التخلص من هذا الفكر وإلغائه ويسود صمت مريب حول هذه النقطة التي لا يريد أحد التطرق إليها.
من السهل جداً أن نقوم بكافة الإجراءات الدستورية الشكلية التي يستلزمها إلغاء المادة الثامنة من الدستور وأن نستعيض عنها بنص آخر قد يكون أكثر ليبرالية وديمقراطية، لكن ما الفائدة التي سوف نجنيها طالما بقي الفكر الذي أتحفنا بها على مدار تاريخنا ما زال حياً وقادراً على إعادة إنتاجها بطريقة أو بأخرى؟
إنني لا أدافع هنا عن بقاء المادة الثامنة، لكنني ألفت الأنظار إلى أن إلغاء هذه المادة لن يحل أياً من مشاكلنا ما لم نسارع إلى النظر في الفكر الديني والسياسي الذي أنتجها وعملنا على استئصاله واجتثاث مبررات وجوده واستمراره، لاسيما وأن هذه المادة على سبيل المثال لم تكن موجودة عندما كانت الكتلة الوطنية تمارس القيادة على الدولة والمجتمع وتعطي نفسها حق الوصاية عليهما.
وختاماً أجد الصراحة تضطرني للقول بأن مطلب إلغاء المادة الثامنة من الدستور قد يكون له قيمته في جدول احتساب النقاط بين السلطة والمعارضة، وهذا حق مشروع في لعبة السياسة، لكن المجتمع الذي يقف متفرجاً على شد الحبل بين الطرفين سيكتشف أنه لم يستفد شيئاً من هذه اللعبة إلا متعة الفرجة وسيعلم علم اليقين أن "تحطيم الأصنام لا يعني بالضرورة انتفاء الوثنية".
الجمل
التعليقات
مغالطة
خلق أصنام جديدة
ن ف !!اللي ماقبل يردد
إضافة تعليق جديد