مـؤيّدو "زواج الكهنة" ازدادوا "في شكل ملحوظ"ويدقون أبواب الفاتيكان
انها عدوى الشرق، يحلو لبعضهم ان يقول. زواج الكهنة اصبح مطلبا معلنا، بمثابة تيار واضح، ضاغط احيانا، يدق ابواب الفاتيكان بعدما بات موضع اهتمام المؤمنين الكاثوليك في الغرب. ما بين وقت وآخر، تتعالى اصوات في الاعلام، وتحرك مجددا استطلاعات للرأي الموضوع. 73% من الكاثوليك في بلجيكا يؤيدونه، في استطلاع نشر قبل نحو اسبوعين، مع ملاحظة "زيادة ملحوظة" لفئة المؤيدين، اذ لم تكن تتجاوز 66% في استطلاع مماثل جرى العام 2005. وكانت النسبة اعلى في فرنسا قبل نحو ثمانية اشهر، اذ ابدى 83% من الكاثوليك الفرنسيين و73% من الكاثوليك الممارسين، تأييدهم، في مقابل 71% العام 1982. في موازاة ذلك، لم يتوان اساقفة وكهنة كاثوليك ايضا عن رفع صوت التأييد في الاعوام الماضية، لا سيما في سويسرا والبرازيل...
يعزو خبير السينودوسات في العالم الاستاذ الجامعي في بيروت وروما وميلانو الاب الدكتور سمير خليل اليسوعي هذه الحركة، المطالبة بزواج الكهنة داخل الكنيسة الكاثوليكية الى سببين، "الاول هو تركيز الحضارة الغربية اليوم الكلام كثيرا على كل ما يخص الجنس، والآخر وجود ازمة حول العائلة في المجتمع الغربي". ويقول في حديث الى "النهار": "في الغرب، اصبح هناك تغيير جذري بين وضع الرجل والمرأة من جهة، وبين المبادىء المعترف بها في كل الحضارات، بين مفهوم العائلة ومفهوم الجنس. وبعدما رأينا ان كل الحضارات مبنية على مبدأ ثبوت العائلة، نرى اليوم اكثر مفهوم حرية الانسان الجنسية".
اياً تكن الاسباب الدافعة لهذه الحركة، فان ارتفاع نسبة مؤيدي زواج الكهنة يقرأه بعضهم انه يعكس هوة واسعة ما بين موقف الفاتيكان وآمال المؤمنين. ورغم الدعوات المتصاعدة، يحرص الفاتيكان على تأكيد تبتل الكهنة. "التبتل الكهنوتي المعاش بنضج وفرح وورع نعمة كبيرة للكنيسة والمجتمع نفسه"، قال البابا بينديكتوس السادس عشر في ايلول 2007. وبتجديده تأكيد "الطابع الالزامي" لتبتل الكهنة، اقفل الطريق على كل تغيير ممكن على هذا الصعيد.
التبتل احد الشروط الاساسية للكهنوت في الكنيسة الغربية الكاثوليكية. ويرجع الاب خليل الى التاريخ ليشرح نشأته. "المنطلق هو اولا الانجيل. فالمسيح كان بتولا، كذلك بعض الرسل. ووفق التقليد يقال ان القديس يوحنا كان بتولاً، ونعلم ان القديس بطرس كان متزوجا. وفي ما يخص بقية الرسل، فأغلب الظن انهم كانوا متزوجين. ويقول التقليد ايضا ان بولس الرسول كان بتولا. الزواج اذا كان الواقع العادي، والبتولية حالة استثنائية اختيارية".
ما بين الشرق والغرب
شهد تاريخ الكنيسة تطورات مهمة على صعيد زواج الكهنة وتبتلهم، شرقا وغربا. ويفيد الاب جان كمبي في كتابه "دليل الى قراءة تاريخ الكنيسة" (دار المشرق) ان في القرون الثلاثة الاولى، لم تكن هناك شريعة في الغرب او الشرق نهت رسامة رجال متزوجين او منعت كهنة متزوجين عن حقوقهم في الزواج. وفي القرن الرابع منع زواج الكهنة بعد الرسامة في الشرق والغرب، ويبقى المتزوج على حاله بعد الرسامة، كذلك الاعزب. وفي القرن الخامس، اجيز للاساقفة والكهنة والشمامسة في الشرق ممارسة الزواج. اما في الغرب، فطلب اسقف رومة من جميع الكنائس ان تفرض على الاساقفة والكهنة والشمامسة الامتناع عن الحقوق الزوجية، مع جواز مساكنة زوجاتهم فقط.
وكان القرن السادس مفصليا، اذ حددت الكنيسة في الشرق نهائيا، وفق المرجع نفسه، نظامها في مجمع القبّة "ترولّو" الذي عقد في القسطنطينية العام 692، والذي لا يزال ساريا حتى اليوم: على المتزوج، اذا انتخب اسقفا، الانفصال عن زوجته. وبرز ميل متزايد نحو اختيار الاساقفة من الرهبان. اما بالنسبة الى الكهنة والشمامسة المتزوجين، فلم يطرأ تبدل على حياتهم الزوجية. في المقابل، تم تعزيز امتناع الاكليروس عن الحقوق الزوجية في الغرب، واتخذت عقوبات بالمخالفين.
وتعاقبت المجامع والقرارات البابوية: مجمع الفيرا في اسبانيا (300-305)، مجمع نيسي (325)، مجمع قرطاج (390)، قرار البابا سيريس (386)، والقانون الثيودوسي (428)... غير ان "فوضى" سادت على مرّ الاعوام. وقد تمكن البابا غريغوريوس السابع (1073- 1085) من ضبط الامور عبر اصلاح اصدره (الاصلاح الغريغوري) العام 1074، منع بموجبه الكهنة عن كل مساكنة للزوجة قبل الرسامة وبعدها، تحت طائلة الحرمان من القيام بالخدمة الرسولية. وقد سار مجمع لاتران الثاني العام 1139 في تثبيت هذا القرار. زواج الكهنة غير صحيح.
في القرن السادس عشر، ثبّت "المجمع التريدنتيني" (1545- 1563) التبتل كرد على الفلتان السائد في الكنيسة. والعام 1917، صدر شرع كنسي غربي يقول ان "الزواج يشكل مانعاً يحول دون الرسامة". وجاء "المجمع الفاتيكاني الثاني" (1962-1965) ليؤكد الاتجاه نفسه: "لقد نظرت الكنيسة دائماً الى العفة الكاملة والمستمرة، خصوصا في الحياة الكهنوتية، نظرة اعتبارٍ فائق. فهي في الوقت عينه علامة المحبة الراعوية والدافع إليها، والمصدر الفريد للخصب الروحي في العالم...".
"افضلية التبتل على الزواج"
هذا المنحى المؤيد لتبتل الكهنة، شرقا وغربا، يفسره الاب خليل بان "الكنيسة توصلت عمليا، وفقا لخبرة الخدمة، الى انه من الصعب ان تكون خدمة الاسقف كاملة وهو متزوج. وقد توصلت ايضا الى انه ليس من السهل ان يوفق الكاهن المتزوج ما بين الحاجات المادية والعاطفية لعائلته ومتطلبات رعيته. لا اقول ان وضعه هذا يتنافى والخدمة الرعوية، انما يتضارب معها. فالمطلوب من الراعي ان يكون، اذا امكن، في خدمة الرعية ليل نهار".
ويضيف الى ذلك "ان المسيح، وهو مثالنا الاعلى والوحيد في المسيحية، كان متبتلاً. والتبتل لا يعني عدم الزواج فقط، انما هو مسألة روحية ايضا تعني ان حياة الكاهن او الراهب مكرسة لله، وخدمته الاولى هي الصلاة".
تجاه ذلك، ينطلق تمسك الفاتيكان بالتبتل من ان "افضليته على الزواج واضحة في الانجيل وعند بولس الرسول، لكنها ليست مطلقة، بل هي أفضلية من اجل الخدمة"، يقول. "الهدف هو ان يكون كل من يريد ان يخدم البشرية حرا في القلب والاهواء، ويكون هدفه الله". اما الموقف من الكهنة المتزوجين في الكنائس الشرقية، فأوضحه المجمع الفاتيكاني الثاني: فهو "إذ اوصى ببتولية الكهنة"، أكد انه "لا ينوي تغيير مثل هذه الأنظمة التي نجدها حية شرعاً في الكنائس الشرقية".
"من يضع القانون له ان يغيره"
المسألة اذن تقاليد مختلفة بحكم التباعد الجغرافي، وليست "مسألة تمييز" بين كهنة الشرق المتزوجين وكهنة الغرب المتبتلين، يفسر بعضهم هذه الكلمات. لكن المفارقة لا تكمن فقط في ما يراه بعضهم "إزدواجيةً" في موقف الفاتيكان تجاه الكهنة المتزوجين الشرقيين: احترام معلن لهم، وتحفظ ومنع ضمنيان تجاههم في الغرب، إنّما ايضا في ما اقدم عليه اخيرا لجهة اعلانه انشاء هيئة خاصة لاستقبال الانغليكان الراغبين في اعتناق المذهب الكاثوليكي، وعدد كبير منهم كهنة متزوجون. وطرح السؤال: لماذا يجيز الفاتيكان انضمام كهنة متزوجين الى الكنيسة الكاثوليكية، في وقت يحرم زواج الكهنة في الغرب؟ وهل هذه الخطوة قد تحمل تساهلا تجاه شرط التبتل؟
"قبول الفاتيكان جماعة الانغليكان لا يعني اطلاقا ان هناك ثورة في الكنيسة الغربية (حول التبتل)"، يؤكد الاب خليل، مشيرا الى ان "المبدأ هو ان الكنيسة تقول باحترام خصوصية الفئات والجماعات والامكنة. ونرى ذلك في تنوع الطقوس الدينية في مختلف الكنائس". بالنسبة اليه، طبيعي جدا ان تقبل الكنيسة فئة الانغليكان تلك بخصوصياتها. "فالانغليكان، الذين ابدوا رغبة في الانضمام الى الكنيسة الكاثوليكية، يشكلون جماعة كبيرة. وفي هذه الحال قالت الكنيسة: هؤلاء جماعة. اما بالنسبة الى الكهنة المتزوجين منهم، فلا يجوز ان يُطلَب منهم الانفصال عن زوجاتهم، لان ذلك ضد قانون الله والطبيعة".
• ولكن اذا كانت احوال هذه الجماعة تعارض قوانين الكنيسة الكاثوليكية، فكيف يمكن عندئذ قبولها؟ يجيب: "لا مشكلة في ذلك. فمن يضع القانون له ان يغيره. وهناك استثناءات. يقال عندها: هناك قانون جار، لكن ثمة ظروفاً اهم من القانون الكنسي. والزواج يرجع الى الشريعة الطبيعية، والوضع الطبيعي يسود وضع الكنيسة. وهذا مبدأ مهم جدا. وفي حال الكهنة الانغليكان هؤلاء، لا يمكن إلغاء زواجهم بالارتكاز على هذا المبدأ، وقد وافقت الكنيسة على انضمامهم".
"الحل... ضبط النفس"
مؤيدو زواج الكهنة يبرزون نقاطا عدة لتعزيز موقفهم، في مقدمها ان واضع هذا "الاصلاح" بابا، وبالتالي يمكن بابا آخر ان يغيره، وان ثمة باباوات (نحو 14 وفق بعض المراجع) كانوا ابناء باباوات واساقفة وكهنة، وآخرون (نحو 11) كان لديهم ابناء شرعيون وغير شرعيين، (تفيد اخرى ان اول 37 بابا يمكن ان يكونوا تزوجوا)، وان التبتل هو العامل الرئيسي امام تراجع عدد الكهنة في الكنيسة الكاثوليكية الغربية، بينما لا تعاني مختلف الكنائس البروتستانتية او غيرها من تلك التي تتيح زواج الكهنة من هذه المشكلة.
وفق الدليل الحبري السنوي (Annuario pontificio) للعام 2009، زاد عدد الكهنة في الاعوام الثمانية الماضية في شكل ضئيل، من 405,178 الفا العام 2000 الى 408,024 العام 2007. ويعود الفضل في هذه الزيادة الى ارتفاع اعداد الكهنة في افريقيا وآسيا خصوصا، في مقابل ثبات الاعداد في اميركا وتراجعها في اوروبا. وبيّن ايضا ان عدد الكاثوليك في العالم زاد بنسبة 1,4%، مرتفعا بذلك الى مليار و147 مليونا العام 2007، في وقت سجل عدد طلاب الكهنوت ارتفاعا طفيفا بنسبة 0,4% (115,919 الفا). وكما في حال الكهنة، فالارتفاع مؤثر في افريقيا وآسيا، بخلاف اميركا واوروبا. الى جانب ذلك، افادت مجلة Civilta Cattolica الايطالية اليسوعية العام 2007 ان عدد الكهنة الذين تركوا كهنوتهم ما بين عامي 1964 2004 بلغ 69,063 الفا، وعاد منهم 11,213 الفا ما بين عامي 1970 و2004.
يوافق الاب خليل على ان هناك تراجعا في اعداد الكهنة في الغرب، لكنه يعارض التفسير القائل بان التبتل هو العامل المؤثر عليه. ويرجع سبب هذا التراجع الى امرين: "الاول الثقافة السائدة التي وضعت الجنس في كل صغيرة وكبيرة، مما ادى الى فلتان، وصولا الى الزواج وتغيّر شكل العائلة، بحيث اصبح مفهوم الحرية مضادا للمفهوم المسيحي. والآخر هو ضعف الروحانية المسيحية داخل العائلات الكاثوليكية".
حلّ اساسي يجد انه يتيح معالجة هذا التراجع. "يجب تغيير مفهوم العلاقة بالجنس في الكنيسة، ولا اعني على مستوى الكهنة، بل على مستوى المسيحيين، ومن خلالهم كي يؤثروا في المجتمع المدني الذي يعيشون فيه. ومن الضروري ان يتعلم كل انسان، من الصغر، ضبط النفس". ومع انه يقر بان "هذا الحل، اي ضبط النفس، وبالتالي العودة الى مبادىء الانجيل وخصاله، بطىء وصعب حتما"، الا انه يؤكد "اقتناعه بان الامر ممكن من دون شك".
هالة حمصي
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد