معركة القيم الفرنسية وعصر سيسيليا ساركوزي
تكاد حكايات سيدة قصر الإليزيه الجديدة، سيسيليا ساركوزي تطغى على أخبار الحكومة الفرنسية الوليدة التي ينتظر أن تحدث تغييرات كبيرة في حياة الفرنسيين. فللقصص الشخصية جاذبيتها وبريقها، وقد زار اكثر من 70 ألف شخص، خلال أقل من 48 ساعة الموقع الذي نشر الفضيحة المزدوجة التي عصفت بالزوجين ساركوزي، ومفادها ان سيسيليا لم تنتخب (زوجها) في الدورة الثانية، وأن ساركوزي تدخل شخصياً ليمنع صحيفة «لو جورنال دو ديمانش» من نشر الخبر. وبالكاد انتهى ساركوزي من ضجيج إجازته الوثيرة في ضيافة صديقه الملياردير، وأصدائها السيئة عند الفرنسيين الميالين للاعتدال السلوكي، حتى وجد نفسه مضطراً لمواراة حكاية زوجته التي لم تنتخبه ومن ثم تبرير فعلته أمام الرأي العام، وتبييض صفحته كرئيس يعد مواطنيه بالليبرالية، ويتدخل عند اول فرصة، ليقمع الصحافة.
وكما كتب الباحث الأميركي ايزرا سليمان، فإن السؤال الصعب المطروح على ساركوزي اليوم، هو «هل بمقدوره ان يغير برمجة العقول الفرنسية» المعتادة على نمط تقليدي قديم؟ والسؤال الأصعب: هل ان ساركوزي يستطيع ان يطبق على نفسه أولاً، القيم التي يبشر بها؟ وهو الذي بقي متربصاً لمدير تحرير مجلة «باري ماتش» حتى أطاحه، انتقاماً لنشر صورة زوجته سيسيليا على غلاف المجلة، متأبطة ذراع صديقها الذي قضت معه الصيف الماضي متنقلة بين باريس ونيويورك. وقبلها كان ساركوزي قد قاضى صحيفة سويسرية، لأنها نشرت أخباراً عائلية تخص علاقة سيسيليا العاطفية أيضاً.
وهكذا فإن الحذر الخارجي من سياسات ساركوزي التي قد تنحو صوب يمين بليري او برلسكوني، يقابلها انقلابات فرنسية داخلية تطال قيماً مجتمعية وعائلية، بقيت البرجوازية الفرنسية تعتبرها من مقدساتها. وها هو نموذج نسائي، متمرد ومغامر، من صنف سيسيليا، يصل في غفلة من الفرنسيين إلى الإليزيه، وبدون تمهيد، ليحل مباشرة بعد برناديت شيراك، الوديعة، الصابرة التي تشبه في حنوها واحتوائها لزلات الرئيس النساء الشرقيات المتفانيات.
وقبل برناديت شيراك، ضربت زوجة فرانسوا ميتران، مثالاً عجيباً، في التستر والمكابرة، حين قبلت بوجود غريمة لها في كواليس الإليزيه، مع ابنة غير شرعية للرئيس، في قصة هي اقرب إلى حكايات عصر الحريم منها إلى فرنسا المتباهية بحريتها ومساواتها. المساواة والحرية، هاتان اللتان تحاول انتزاعهما سيسيليا من اليميني ساركوزي رغما عن أنفه، وسيغولين رويال من صديق عمرها اليساري، والأمين العام للحزب الاشتراكي فرانسوا هولاند. والسيدتان الشهيرتان، اللتان كانت إحداهما ستصل حكماً إلى الإليزيه، وإن بصفتين مختلفتين، تقدمان دلالات يصعب تجاهلها، على ان عواصف قيمية تجتاح المجتمع الفرنسي وتهدد بتغيير سريع في بنيته الحالية، بصرف النظر عن وصول اليمين أو اليسار إلى سدة الرئاسة.
بدأت رويال حياتها السياسية حريصة على صورة الأم/الوزيرة، التي تنجب أربعة أطفال وتمسك بوزارة البيئة والتعليم والعائلة، وتشوي اللحم وتطعم الأطفال. وهي الصورة التي استثمرتها بقوة في معركتها الانتخابية، وبدت مغايرة تماماً لتلك التي كشفها الكتاب الفضائحي الجديد «المرأة الفاتنة» الذي يشغل الرأي العام الفرنسي اليوم، ويثير غضب رويال وصديق عمرها، حد مقاضاته.
سيغولين في الكتاب، ليست على الإطلاق، الوديعة، الرقيقة، ذات الجلد الأملس، والابتسامة السمحة التي ترسمها أمام الكاميرا، فهي صلبة، وشرسة، انقضت على فرصة الترشح للرئاسة التي كان يتمناها أبو أولادها، واستطاعت ان تقود معركتها باستقلالية كافية عن الحزب الذي يترأسه كي تكف شره عنها، وعندما أحست انه قد يعترض دربها بمرشح تنافسي هو ليونيل جوسبان هددته بحرمانه من رؤية الأولاد. هكذا تدخل الحياة العائلية في الانتخابات الرئاسية، لتشكل كوكتيلا متفجراً، تظهر أصداؤه الآن كتباً وفضائح صادمة. وكل ذلك «كوم» وحكاية سيغولين مع المفكر اليهودي ـ الفرنسي الشهير برنار هنري ليفي، في الشهور الأخيرة، «كوم آخر»، فهو يكتب لها الشعر، ويتعاطف مع وحدتها، وتخصص له باستمرار جزءاً من وقتها المشحون بالمواعيد. برنار هنري ليفي الذي هاجمها مع بداية الحملة الانتخابية صار أقرب المقربين وأحسن المستشارين، فيما يبدو أبو الأولاد ألد الأعداء. ولا يستبعد بعد الحملة الشعواء التي أثيرت حول شريك العمر، أن تنتزع رويال الحزب الاشتراكي من بين يديه وتقوده ـ أي الحزب ـ على طريقتها.
وليس خافياً على من حضر المواجهة الأخيرة بين ساركوزي ورويال عشية الدورة الثانية للانتخابات، ان ساركوزي بدا أشد هدوءاً وأكثر أنوثة من رويال التي ظهرت صدامية، هجومية، وغاضبة في أحيان. وهو ما جعل الصحف في اليوم التالي تصفها بالقتالية والمقدامة، وتتحدث عن فوزها على غريمها، رغم ان الاستطلاعات تقول غير ذلك.
كل هذا يؤكد، ان المزاج الشعبي الفرنسي، ينحو صوب وجهة جديدة، ليست بالضرورة يمينية الهوى، تقبل بالتخلي عن الضمانات الاجتماعية، والحقوق العمالية وتبرئ ساحة الدولة من واجباتها الأبوية، ودورها الحاني بكرمه الطائي، لكنها نزعة صوب مزيد من الليبرالية الاجتماعية والتعبيرية. فها هي إحدى كاتبات المؤلف المثير للجدل «المرأة الفاتنة» تتساءل: لماذا اقرأ أخبار نزاعات سيغولين رويال مع زوجها في الصحف الأميركية، ولا استطيع ان اكتب ما في جعبتي من أسرار في بلدي. سؤال لا بد سيتكرر كثيراً في الأسابيع المقبلة في فرنسا، وسيستدعي الأمر حتماً إعادة نظر في كثير من المسلمات القديمة. وهذا ليس بسبب ساركوزي الذي سيواجه بمقاومة شرسة من مواطنيه الذين يرغبون بالشيء وضده، ولكن لأن الفرنسيين وضعوا أنفسهم طويلا في ثلاجة من القيم والمفاهيم، بعضها تجاوزه الزمن، والنتيجة وخيمة. فالبطالة ليست وحدها ما يشكو منه الفرنسيون وإنما الأهم، هو الفكر الخلاق والقدرة على التجديد، وتجاوز البيروقراطية العجفاء والأساليب التعليمية العتيقة التي هبطت بمستوى الجامعات وطالت مراكز الأبحاث، وأثرت على ديناميكية سوق العمل، وسط منافسة عالمية متوحشة.
فرنسا نامت طويلاً على امجادها، وخلدت إلى الراحة متكئة على مبادئ ومسلمات جميلة تطرب لها كل اذن. لكن الواقع بات اصعب من ان يترك أحفاد فولتير ينعمون بأغنياتهم الثورية والإنسانية التي خلبت العالم ذات يوم. ومعركة القيم الذي تمتد مروحتها من أعلى سلم في السياسة إلى العلاقات العاطفية، باتت تدور داخل كل دار. وهنا يتساوى قصر الإليزيه مع أصغر بيت في أقصى قرية فرنسية نائية
سوسن الأبطح
المصدر: الشرق الأوسط
إضافة تعليق جديد