محرّدة حاضرة الأرثوذكس: «مشرق الشمس» لن يحجبها الظلام
لا شيء يلطّف حرّ العصر ليوم من آب في محافظة حماه، سوى كاسة «متة» فاترة، تحت خيمة متواضعة. درجة الحرارة تخطّت الأربعين، وثلّة من حملة السلاح من أبناء مدينة محرّدة في استراحة مقاتل، قرب خطوط التماس مع مسلحي «جبهة النصرة» و«الجبهة الإسلامية» بانتظار ما يخبئه الليل، كل ليل. الزوار يلهثون بدورهم لـ«استراحة مسافر»، ومحرّك السيارة لا يزال يخرّ كثورٍ فلح يوماً بأكمله.
فالطريق من بيروت إلى محرّدة، أكبر تجمّع أرثوذكسي في الشرق، عبر حقول القصير ووادي العيون، وصولاً إلى مصياف ثم سهول حماه، طويل ومتعب، والرحلة أشبه بسياحة الحرب.
تنتقل «المتة» من يدٍ إلى يد، و«الخبريات» والآراء من فمٍ إلى فم، ورشاش الطائرة الحربية السورية الذي يغير على مواقع المسلحين في مورك (شمالي شرقي محردة)، كالخلفية الصوتية لمسرح في الهواء الطلق. الأفق هنا ليس أبعد من ساتر ترابي قريب، بات يفصل بين عالمين بعدما تمخض مسخ «الربيع العربي»: محرّدة المسيحية وشوارعها الفارغة في عطلة عيد السيدة (يوم الجمعة الماضي)، وحلفايا الملاصقة لها في الشمال الشرقي، حيث تسود باسم الإسلام منذ أكثر من عامين شريعة إله غريب.
«انتباه وحذر، سوخوي من حمص، سوخوي من حمص»، يخرج الصوت من جهاز اللاسلكي في قبضة جوزف، أحد المقاتلين هنا. الأربعيني ذو الشعر الرمادي والسجائر التي لا تنطفئ، يحمل السلاح ويحرس بلدته منذ عامين. وهو في مثل هذه الأوقات، اعتاد أن ينقل جهازه على موجات مسلحي المعارضة السورية لمعرفة أوضاعهم، وخصوصاً في ظلّ غارات الطائرات السورية الكثيفة. الجبهة في ريف حماه مشتعلة على أشدّها. وعلى ما تقول المعطيات العسكرية، فإن المسلحين الإسلاميين يستغلون انهماك الجيش في جبهات حلب، فيقضمون ريف حماه شيئاً فشيئاً لدخول المدينة ومطارها العسكري. بدوره، يحاول الجيش صدّ الهجمات، ويحاول السيطرة على مورك، العقدة الاستراتيجية في الشمال لفصل حماه ثم حمص عن طرق الإمداد التركية. أما محرّدة، فقصة أخرى.
مشرق الشمس
من سوء حظّ محرّدة أنها وقعت تاريخياً على طريق «السرير العثماني»، أو معبر الحج التركي إلى مكة في ظلّ حكم العثمانيين لسوريا، وربما لا تزال إلى الآن! لكن محرّدة «مشرق الشمس» في اللغة القديمة، وفي لغة الجغرافيا.
على مر العامين الماضيين، وقعت المدينة شيئاً فشيئاً في طوق من القرى التي يسيطر عليها مسلحو المعارضة في الجنوب والشرق والشمال. بدءاً من معرزاف والمجدل في الجنوب، ثمّ خطاب في الجنوب الشرقي، ثم طيبة الإمام واللطامنة وكفرزيتا في الشمال، التي تسيطر عليها «النصرة» بالكامل، وحلفايا في الشمال الشرقي. بقيت خلفية المدينة مفتوحة نحو السقيلبية عبر طريق حيالين إلى الشمال، وطريق مصياف عبر سلحب في الغرب، والطريق الدولي إلى حماه. وفي الفترة الماضية، سيطر التكفيريون على بلدة خطاب جنوبي شرقي محرّدة، القريبة من طريق حماه.
وقبل أسبوعين، سقطت بلدة أرزة الواقعة على الضفة الشرقية للأوتوستراد ذات الأغلبية العلوية، في أيديهم أيضاً. وهؤلاء لا ينتمون إلى «داعش»، لكنهم من الصنف ذاته، تكفيريون بكلّ ما في الكلمة من معنى، على ما ثَبت بالنسبة إلى أهالي محرّدة من أعمال الذبح والقتل والـ 470 صاروخاً التي سقطت على المدينة والشاحنة التي فجرها انتحاري في المدينة قبل عامين، وأكثر من 50 شهيداً مدنياً. يتوزّع المسلحون بين «النصرة» و«الجبهة الإسلامية» وفصائل محلية أخرى، وبينهم كثيرون من جنسيات مختلفة. الهدف التالي للمسلحين هو بلدة الشيحة، في الضفة الغربية للطريق. وسقوط الشيحة بالنسبة إلى محرّدة هو كابوس، يقطع الطريق كلياً إلى حماه.
التجوال بين البيوت الريفية الأنيقة، يعني أن تمرّ في شوارع العَالِم «ابن الهيثم»، والشاعر الجاهلي «طرفة بن العبد»، والاستشهادية سناء محيدلي، وطبعاً شارع بطلة العالم الرياضية غادة شعاع، ابنة المدينة. وما لا جدال فيه، أن من يسمي شارعاً باسم محيدلي، لن يسمي آخر على اسم ضابطٍ فرنسي، ولا حتى الرئيس الفرنسي «الحنون» فرنسوا هولاند، الذي وجّه دعوة قبل أيام إلى مسيحيي العراق للهجرة إلى بلاده، بعدما مهدت له الطريق «داعش».
مأساة الخير
لم ينتظر أهالي محرّدة جلجلة المسيحيين المقتلعين من الموصل، حتى يتخيّلوا المصير الذي سيلاقونه في حال سيطرة التكفيريين على سوريا. من ينسى قطع الرؤوس في وادي النصارى وتهجير صدد السريانية في ريف حمص وأحياء حمص ومسيحيي درعا والرقة وكسب؟ غير أن الفاعلين في المدينة يميّزون بين المسلحين، وبين غالبية أهالي القرى المجاورة المسلمين، الذين يخضعون لحكم الأقوى تحت نير «محاكم التفتيش»... «الشرعية».
سقط على المدينة 470 صاروخاً وخسرت 50 شهيداً مدنياً
لم ينتظر أهالي محرّدة جلجلة المسيحيين المقتلعين من الموصل
التين الأحمر والعنب الممشّح، ضيافة البيت عند الأستاذ أمين البيطار، المدرس المعروف ورئيس «المجلس الأهلي»، الذي تشكّل قبل نحو عام من ثلاثين عضواً في المدينة بفعل تطورات الحرب. ضيافة الفاكهة الشهيرة في محرّدة إلى جانب الزيتون والقمح والقطن، ليست وحدها في جعبة السبعيني. «محرّدة طول عمرها منيحة مع جوارها، محرّدة بتموت بلا جوارها والعكس صحيح» يقول البيطار. «لهلق أصحابنا بيحكونا ومنحكيهم، وبيقولولنا هيدي مو عاداتنا ولا تقاليدنا، شو مفكّر المسلمين مبسوطين باللي عم يصير؟ ليش هيدا الإسلام؟»، يضيف.
الرهان على فاعليات البلدات المجاورة والعقلاء، لا يتردد على لسان الأستاذ فحسب، يكرّره منفذ عام حماه في الحزب السوري القومي الاجتماعي المدرس غسان ناصر، وممثل محافظ حماه في منطقة محرّدة القومي فاضل درويش، مع اقتناع الثلاثي بأن «ما حدا بقا يسمع صوت العقل، الكلمة للي معو سلاح».
قد يكون حال محرّدة، ببيوتها الجميلة وخير حقولها مدعاة مأساة في حربٍ من هذا النوع الآسن. فالغزل بالمدينة في الوقت الحالي يثير القلق بالنسبة للبيطار، «من غير شي هني عم يفكروا فيها ليل مع نهار». فلا تزال سوقاً للخضر، ومركزاً صناعياً يستقبل العمال، ومركزاً طبياً يستقبل حتى جرحى حلفايا في المستشفيات الخمسة، فضلاً عن المحطة الحرارية في شمال المدينة قرب البطيش، والتي تغذّي الشبكة السورية المركزية والمحيط بنسبة كبيرة.
خيار من اثنين
ماذا يريد المسلحون من محردة؟ «الربط مع الموصل لا يفيد ويمكن يضرّ » برأي المهندس أنور بيجو، أحد الفاعليات البارزة. عملياً، لا قيمة عسكرية لمحرّدة بالنسبة إلى سير الحرب. وما يقوله الإعلام في الفترة الأخيرة عن المدينة «بيخلي المسلحين يفكروها دمشق، ويجربوا يجتاحوها كضربة معنوية» يقول بيجو. أما الهدف الحقيقي في نظر أحد المراجع الكنيسة الأرثوذكسية فهو «تهجير محردة»!
في الفترة الأخيرة، يشعر الأهالي بالخطر أكثر فأكثر. حاجز البطيش، أحد مواقع الجيش على كتف المدينة الشمالي سقط بأيدي المسلحين، وسيطروا على تلة بيجو لفترة قصيرة، قبل أن يستعيدها الجيش والقوات الحليفة له، فضلاً عن قصف المحطة الحرارية وإحراق أحد محولاتها الرئيسية. وبحسب الأرقام، يتجمّع في حلفايا ومحيطها أكثر من ثلاثة آلاف مسلح، لا يضمرون الخير لمحردة. فحلفايا لم تبخل على أغلبية البقع الساخنة في سوريا وصدرت إليها المسلحين. حتى إن جزءاً من معامل حلب المفككة حطّ عند «الجيران». ومع ذلك، لا يمنع أن «فلاناً من حلفايا اتّصل يريد هذه الخدمة، وأن فلاناً اتّصل يطمئن على أصدقائه ومعارفه في محرّدة». «المشكلة مع المسلحين»، يجزم الجميع. وإذا ما أُخذ تعلّق «المحرداويين» ببلدتهم (حتى القوقعة) بعين الاعتبار، فإن المصير هنا في حال قرر المسلحون شنّ هجومٍ عليها، هو واحدٌ من اثنين: إمّا الصمود وردّ المهاجمين، وإما الموت والتهجير المحتم.
بدأت «العسكرة» في محرّدة قبل عامين تقريباً، بعد سلسلة من أعمال الخطف والاعتداءات. كلّ يحرس حيّه. وعسكرة المدينة، لا تنفي «السِّلمية» التي لا تزال ترسم معالم الحياة هنا، حتى إن «الخطف المضاد»، هو آخر الأجوبة عن سؤال: «كيف تردّون إذا خطف واحد منكم؟».
قبل عام بالضبط، صدّت اللجان الشعبية بالتعاون مع الجيش هجوماً «متوسطاً» على المدينة. أما اليوم، فمقاتلو الدفاع الوطني والقوميين في حالة تأهب دائم في نقاطهم العسكرية، وقلة قليلة من الرجال لا تحمل السلاح، وتتعاون النساء على مدّ المقاتلين بالطعام.
فادي، 17 عاماً، يرابض في موقعه القريب من القلعة والمطل على بلدة «شيزر». الشاب في ثيابه العسكرية وبندقيته ومنظاره لا يزال تلميذاً ثانوياً، لكنه «مقاتل شرس» كما وصفه أحد المسؤولين العسكريين في الدفاع الوطني حين ربّت كتفه.
يحسد أهالي محرّدة أهالي السقيلبية كون «المؤازرة أقرب إليها». الخطر هنا على بعد أمتار، والخطر الأقرب للسقيلبية يقع على بعد 12 كلم من «قلعة المضيق»، حصن المعارضين في شرق سهل الغاب.
أما جائزة «نكتة الموسم»، فبالتأكيد ينالها أحد أبناء السقيلبية، المسيحي الذي شكّل «كتيبة مار جرجس» وحده، ثم عين نفسه قائداً عليها، والتحق و«نفسه» بـ«الجيش الحر»!
«ميغ من حماه، ميغ من حماه»، يعود جهاز اللاسلكي المولّف على موجات المسلحين إلى الصراخ، ورشاش طائرة أخرى يحكم الصوت. قرب الإرشادية الزراعية قبل المغيب، يتحضّر المقاتلون من جديد إلى الليل الطويل، ويهمدون للمراقبة من خلف السواتر الترابية. على خطّ التماس هذا، تبدو الحدود التركية على مرمى حجر، يدلّ المقاتلون عليها بأصابعهم المغبّرة... ربما خلف حلفايا مباشرةً.
محرّدة «الثانية»
اختارت «جمعية أصدقاء المغتربين» في محردة تمثالاً لامرأة شرقية من الحجر الأبيض لتزين به الحديقة الصغيرة، وثلة من أعضاء الجمعية لـ«دردشة مع الضيوف». أخبار محردة «الثانية» في المغترب، لا تقلّ أهمية عن أخبار محردة «الوطن» بالنسبة إلى الجمعية التي تأسست إثر سقوط «طائرة كوتونو» اللبنانية في أفريقيا قبل 11 عاماً. عرفت محردة الاغتراب قبل مئة عام، «من أميركا اللاتينية في بداية القرن الماضي إلى أفريقيا والخليج في الستينيات» على ما يقول رئيس الجمعية نزيه زرّوف.
لم ينس المغتربون بلدتهم، مستشفى «المحبة» وجرّ مياه العاصي إلى المدينة التي عرفت المياه والكهرباء منذ الخمسينيات، يشهد على ذلك. اليوم يملك 200 مهاجر بيوتاً في محردة، ويقدّر عدد المغتربين بـ 1500. نعمة أخرى على محردة: التعليم. إذ يحسب في حساب المدينة التي نال أحد أبنائها أول شهادة بكالوريا سنة 1932، ألف مدرس و450 مهندساً و160 طبيباً عاملاً.
أولى الحواضر المأهولة
تقع محرّدة في الشمال الغربي لمدينة حماه على حوض نهر العاصي الآتي من الهرمل اللبنانية، ويفصلها عنها 25 كلم. كما تبعد عن منطقة السقيلبية المسيحية في شمالها الغربي المسافة نفسها. وتعدّ أولى الحواضر المأهولة في المنطقة المفتوحة على لسان البادية السورية من الشرق، ولا يحد الأفق من الجهة الغربية للبلدة سوى قمم جبال الساحل السوري، مروراً بسهول الغاب، مدخل حماه إلى إدلب، المزروع بالقمح. صمدت محرّدة منذ القرن الرابع الميلادي تحت نير الغزوات والفاتحين، وفيها قلعة «شيزر» التاريخية المشرفة على حوض العاصي في الشمال، ودير تاريخي مغمور للقديس مار جرجس، في ظلّ الشهرة الواسعة لدير «مار جرجس الحميرة» في مرمريتا الحمصية. يقطن المدينة 22 ألف نسمة في حارات أربع، تتوزع فيها خمس كنائس وخمسة مستشفيات. ومن عائلاتها: فلاحة، عفور، سلوم، بيطار، يعقوب، هزيم...
فراس الشوفي - إيلي حنا
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد