كردستان جديد في قلب السودان
دخلت الأزمة حول إقليم "دارفور" منعطفا خطيرا بعد تصاعد لهجة التحريض الغربية تجاه السودان أرضاً وحكومة، وكانت أبرز هذه التحريضات وأكثرها فجاجة دعوة توني بلير ــ رئيس الوزراء البريطاني ــ إلى تحويل الإقليم الواقع غربي السودان إلى منطقة محظورة جوياً، وذلك على غرار إقليم "كردستان" الذي مثل "رأس الحربة" في الغزو الأمريكي للعراق، والذي يسعى الأكراد إلى الانفصال به عن الدولة الأم .
حيث نقلت صحيفة الـ "جارديان" البريطانية عن مصدر في مكتب رئيس الحكومة ، قوله : إن بلير يأمل أن تفرض الأمم المتحدة منطقة للحظر الجوي فوق إقليم دارفور. مضيفاً، أنه "يمكن أن يتم التوصل إلى اتفاق في مجلس الأمن" حول هذا الموضوع لوقف ــ ما زعم أنها ــ غارات للطائرات السودانية على الإقليم. وقالت الـ "جارديان" نقلاً عن المصدر ذاته : إن ضربات جوية يمكن أن تستهدف المطارات العسكرية السودانية، إذا لم تحترم الخرطوم منطقة الحظر الجوي .
ويأخذ المحللون هذه التصريحات على محمل خطير بحق السودان ــ كبلد عربي وجزأ من الأمة الإسلامية ــ يهدد أمنها واستقرارها، ولم يكن بلير أول مسؤول غربي يدلو بدلوه في هذا الإطار، بل سبقه قادة غربيون أمثال الرئيس الأمريكي، جورج بوش، والفرنسي ،جاك شيراك، والمستشارة الألمانية، انجيلا ميركل، وغيرهم، وهي تصب جميعها في خانة التحريض على السودان باستخدام كافة الوسائل من أجل تهديده وتمزيق وحدته.
حيث أصبح موضوع تشكيل قوة أجنبية لحفظ السلام في دارفور ــ طبقا لقرار مجلس الأمن رقم 6071 ــ الشغل الشاغل للقوى الكبرى ، والاتحاد الأوروبي ، ومجلس الأمن ، والأمم المتحدة ، والاتحاد الأفريقي ، والقوى الإقليمية، زاعمين أن هذه القوات تمثل الحل الوحيد لحماية المدنيين وإقرار الأمن في المنطقة.
والتهديدات التي توجه للسودان ليست بالجديدة إلا أن نبراتها آخذة في الارتفاع والتصعيد، وهو ما يكشف إلى أي مدى بات ثبات السودان على موقفه الرافض لدخول القوات الأجنبية مخيباً للآمال الغربية وأجندتها الاستعمارية المعلنة والمستترة، تجاه هذا البلد، وأمام البرلمان الأوروبي، هددت إنجيلا ميركل ــ المستشارة الألمانية ــ السودان "بأشد العقوبات" إذا لم "يمتثل في النهاية" لقرارات الأمم المتحدة، وقالت : إن ألمانيا ــ التي تتولى الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي ــ تسعى لقرار دولي صارم فيما يتعلق بالعقوبات على السودان، "يجب العمل وحشد الجهد داخل أروقة الأمم المتحدة لإحراز تقدم نحو مزيد من الضغط"، وألمحت ميركل إلى إمكانية القيام بعمل أوروبي منفرد إذا ما فشلت الجهود في مجلس الأمن الدولي، "أتساءل لماذا لا نبحث إمكانية فرض عقوبات أوروبية أو إتخاذ إجراءات (..) من طرفنا كأوروبا موحدة"، وقالت : "إن الاتحاد الأوروبي يجب أن يكون مستعداً". مضيفة : "لا يمكننا أن ندير ظهورنا للوضع في دارفور" .
وكان فيليب دوست بلازي ــ وزير الخارجية الفرنسي ــ قد حذر السودان، قائلاً : إن على حكومة الخرطوم أن تفهم الرسالة الراهنة، وإلا فإن الأمر قد يستدعي توجيه رسائل من نوع آخر، واتخاذ إجراءات أخرى هي الآن قيد الدرس، في مجلس الأمن لتضاف إلى تلك التي ينص عليها القرار 1591.
كما دخل على خط التحريض أدباء ومفكرون أوروبيون، نددوا ــ بما أسموه ــ انشغال قادة أوروبا عن الاهتمام بفرض عقوبات صارمة على السودان. وفي رسالة تحريضية نشرتها صحيفة "الاندبندنت" البريطانية، قال مجموعة من المشاهير الأوروبيين : "باسم الثقافة المشتركة وقيمها ندعو القادة الأوروبيين السبعة والعشرين إلى فرض عقوبات فورية صارمة على قادة النظام السوداني". وتساءل هؤلاء "كيف نتجرأ نحن الأوروبيين على الاحتفال بأنفسنا (..) في حين يجري قتل الناس الأكثر فقراً وضعفاً في السودان" على حد زعمهم. وقال الموقعون على الرسالة : "إن أوروبا التي سمحت باوشفيتز وفشلت في البوسنة يجب ألا تقبل الجريمة في دارفور". وقع الرسالة كل من الكاتب الإيطالي (اومبرتو ايكو) والممثل والمخرج الإيطالي (داريو فو) وزوجته الممثلة المسرحية (فرانكا رامي) والكاتب الألماني (غونتر غراس) وعالم الاجتماع والفيلسوف الألماني (يورغن هابرماس) والكاتب المسرحي والرئيس التشيكي السابق (فاتسلاف هافل) والشاعر الأيرلندي (سيموس هيني) والفيلسوف الفرنسي (برنار هنري ليفي) والكاتبان البريطانيان (هارولد بنتر) و(توم ستوبارد) .
حيث تشكلت في أنحاء كثيرة من العالم، خاصة في الولايات المتحدة والدول الغربية، جماعات تطلق علي نفسها "المدافعون عن حقوق سكان دارفور" واستغلت القضية في واشنطن، خاصة من جانب الأمريكيين السود، سواء في الكونجرس أو خارجه تحت مزاعم أنها قضية عرقية تقوم فيها القبائل العربية بإبادة القبائل الإفريقية بدوافع عنصرية، الأمر الذي يمنح الأمريكيين قوة الدفع لممارسة ضغوطها علي السودان. وقد دفعت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة لإثارة هذه القضية، ووجه كوفي أنان السكرتير العام السابق رسالة قوية إلي المجتمع الدولي بأنه لا يصح السكوت على الجرائم التي ترتكب ضد سكان دارفور .
وفي هذا الإطار، يرى المراقبون أن مجتمع القوى الكبرى بات مستعداً سياسياً وثقافياً وشعبياً لخوض الحرب ضد السودان، من أجل إقليم دارفور. حيث صارت تلك الحرب تلقى استجابة دولية لا تماثلها أي حرب أخرى في العالم. وأصبحت الحكومات الغربية ــ بما فيها الأوروبية التي توصف بالمعتدلة ــ مقتنعة بضرورات الحل العسكري إن لم تأت الضغوط السياسية على حكومة السودان أكلها. ويقول المحللون : إن السودان ربما يكون أقرب إلى حرب دولية من إيران، على خلفية برنامجها النووي .
فقد أصبحت "دارفور" سياسياً تشكل العصب القوي في الترتيبات الخارجية لشرق القارة الأفريقية، وقد تتحوّل سريعاً في هذا الإطار إلى محور انجذاب استراتيجي، خاصة وأن الأمريكيين ــ الذين انشغلوا عن القارة الأفريقية فترات من الزمن في اتجاه الشرق الأوسط والخليج ــ باتوا يدركون أن أفريقيا ستكون الحديقة الخلفية لمصالحهم في التجارة والنفط والحرب على ما يسمى الإرهاب .
وقد شاركت الولايات المتحدة بقوة في كل مراحل مفاوضات دارفور، سواء في أبوجا أو تلك التي عقدت في نيروبي أو تشاد، وأنشأت علاقات قوية مع حركات التمرد، ويقال إن تلك الحركات حصلت علي دعم مادي بل وعسكري من واشنطن، وسمحت لقادة هذه الحركات بزيارات متعددة لواشنطن للدعاية لمطالبهم ، كما عين الرئيس الأمريكي السفير زوليك وكيل الخارجية ممثلا له في مفاوضات دارفور، وقد استخدم كل أساليب التهديد والوعيد والإغراء حتى تم توقيع اتفاق سلام. وكان الوفد الأمريكي يضم خبراء عسكريين لبحث الجوانب الأمنية في المفاوضات إلي جانب خبراء في موضوعات تقاسم الثروة والسلطة .
وقد استغلت هيلاري كلينتون ــ زوجة الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون والمرشحة للرئاسة ــ موضوع دارفور في نطاق حملتها الانتخابية، وقدمت طلبا إلي وزير الدفاع للنظر في إمكانية تدخل الولايات المتحدة عسكريا في دارفور وفرض حظر جوي علي الطائرات السودانية في الإقليم وحصار بحري علي ميناء بور سودان الذي يصدر منه النفط السوداني. كما يستغل الحزب الجمهوري الحاكم أيضا هذا الموضوع، ويعد الرئيس بوش توقيع اتفاق سلام دارفور في أبوجا نجاحا لإدارته. وعندما لم يستتب السلام، صعد من لهجة التهديد لحكومة الخرطوم .
وليس بعيداً عن هذه الرؤية، تلك التقارير التي تؤكد أن وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاجون" اتخذت قرارها بإقامة قاعدة عسكرية شمال شرقي تشاد، خلال 18 شهراً، تعد الأكبر من نوعها في القارة، حيث سيزيد عدد القوات الملتحقة بها على الثمانين ألف جندي .
ولا تبعد المنطقة التي من المقرر أن تقام عليها القاعدة الأمريكية عن مثلث الحدود المصرية الليبية السودانية المشتركة سوى بضعة كيلومترات، مما يمثل أيضاً تهديدًا مباشرًا للأمن القومي للبلدان العربية الثلاثة. وتهدف القوة العسكرية الأمريكية التي ستسمى باسم "قيادة أفريقيا" ــ فيما تهدف ــ إلى تطويق الدول المناهضة للسياسة الأمريكية بالقارة وفي مقدمتها السودان الذي يرفض نشر قوات أجنبية في دارفور. وستكون من أولى مهمات القوات الأمريكية التدخل في إقليم "دارفور" في حال أصرت الحكومة على رفض نشر 22 ألف جندي بالإقليم .
ومن جانبه، أكد مصدر مسئول بالسفارة الأمريكية في القاهرة، أن فكرة إقامة القاعدة العسكرية ترجع إلى وزير الدفاع السابق، دونالد رامسفيلد، الذي وضع أسسها قبل مغادرته "البنتاجون" منذ شهور ويستكمل المشروع حاليًا خلفه روبرت جيتس. ويتردد أن من بين المهام التي اضطلعت بها وزيرة الخارجية الأمريكية، كوندوليزا رايس، في زيارتها الأخيرة لمصر، هو سعيها لإيصال رسالة تطمين بشأن المشروع العسكري الأمريكي الكبير القريب من الحدود الجنوبية المصرية .
وفي واقع الأمر، فإن الصراع على دارفور مثل ــ علاوة على أبعاده السياسية والاستراتيجية والاقتصادية ــ أبعادا عقيدية، لم تغب عن اليمين المتطرف والصهيونية العالمية .
علي عبد العال
المصدر: محيط
إضافة تعليق جديد