قره باخ…عندما داسَ أردوغان على لغم ستالين
نقل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حروبه إلى القوقاز. واقترب الحريق من روسيا. حروب سوريا وليبيا، بعيدة نسبياً. لكن اللعب بالنيران في المدى الحيوي لموسكو، ينطوي على مجازفة غير محسوبة العواقب، إلا إذا كان الزعيم التركي واثقاً من أن الدب الروسي بات بلا مخالب ومقيداً بطوق من الأزمات، التي تبدأ من شرق أوكرانيا، إلى بيلاروسيا، ولا تنتهي بقضية تسميم المعارض أليكسي نافالني قبل أسابيع.
حمل أردوغان مقاتلي المعارضة السورية، الذين باتوا “انكشارية” السلطنة الجديدة، من شمال حلب إلى إقليم ناغورنو قره باخ، في لحظة انشغال روسية بالشقيق السلافي في بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو، المتشبث بالعرش بعد ما ينيف على 26 عاماً. وفي الوقت نفسه، كانت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل تطالب الكرملين بـ”إيضاحات الآن” عن تسمم نافالني بمادة نوفيتشوك لغاز الأعصاب، التي يحمل الاتحاد السوفياتي السابق براءة اختراعها، والتي اكتشفت انكلترا آثاراً لها في جسدي العميل الروسي المزدوج السابق سيرغي سكريبال وابنته يوليا عام 2018. وفي غضون أيام كانت فرنسا والسويد تؤكدان رواية برلين. ولم تقف القضية عند حد التلويح بعقوبات أوروبية جديدة إذا لم تقل موسكو الحقيقة، بل أن ألمانيا لوحت بورقة ضغط أقوى تتعلق بإعادة النظر في أنبوب غاز “نورد ستريم” الذي يعلق عليه بوتين آمالاً كبيرة في رفد الخزينة الروسية بالعملة الصعبة في زمن صعب.
في هذا التوقيت المحرج لروسيا، انفجر القوقاز، وعلى مسافة يومين فقط من إجراء روسيا مناورات واسعة النطاق في المنطقة تحت مسمى “قوقاز ٢٠٢٠” شاركت فيها رمزياً الصين وكازاخستان وإيران وميانمار.
وإذ بتجدد حرب القوقاز تأخذ روسيا على حين غرة، فسارعت إلى احتواء تداعياتها بالدعوة إلى وقف النار والشروع في مفاوضات برعاية موسكو بشكل رئيسي، وبمشاركة واشنطن وباريس بصفتهما عضوين في “مجموعة مينسك” لحل مشكلة قره باغ. إلا أن الرئيس الأذري إلهام علييف، الذي حققت قواته تقدماً على الأرض بدعم تركي، يبدي تصلباً في التجاوب مع الدعوة إلى هدنة، مدفوعاً بحماس تركي يدعو إلى انسحاب أرميني من الإقليم الانفصالي قبل البحث في أي هدنة.
إنه سقف عالٍ من الشروط التركية، ولا نقول الأذرية، لخلق توازن عسكري وسياسي جديد في القوقاز، مماثل لذلك الذي فرضه أردوغان في شمال سوريا وغرب ليبيا وشرق المتوسط، ولا يحتاج إلا قليلاً لتكتمل عناصر إحياء السلطنةوفرض النفوذ النفوذ التركي مجدداً على كل الأرض التي سار عليها الغزاة السلاجقة.
بيد أن المغامرة القوقازية، كفيلة بإيقاظ كتلٍ من الصراعات الدفينة والمستجدة، لأن الحرب اليوم تدور على الحاجز الديني. وهذا وحده كفيل بجعل الأحداث تأخذ منحى طائفياً، فضلاً عن مكونها العرقي في الأساس. والتاريخ التركي-الأرميني زاخر بالمجازر والابادات، التي لم تخمد نارها بالكامل، ولا تزال تحفر عميقاً في الذاكرة.
وهذا نوع من الحروب التي يصعب الفوز فيها، لأنها متغلغلة في وعي شعوب المنطقة. والسيطرة على جزء من الأرض لا يعني كسب الحرب. إنها نهاية معركة وبدء أخرى. والحرب العالمية الأولى لم تنتهِ بعد بالنسبة للشعوب التركية والأرمن. وحرب قره باغ التي تخمد نارها حيناً وتستعر أحياناً أخرى، هي مثال حي على الجرح المفتوح.
وزد على الصراعات والأحقاد القديمة، أن حرب قره باغ اليوم تدور فوق أنابيب نفط تتغذى منها دول غير مستعدة للقبول بتغيير موازين القوى، ولا يبقى أمامها سوى الانخراط في الحرب دفاعاً عن مصالحها. وأولى هذه الدول روسيا، التي ليس في امكانها السماح بنشوء نزاع مسلح قريب من حدودها، مع ما يحمله من تغذية نعرات طائفية وعرقية، لن يطول الأمر حتى تمتد نيرانها إلى الداخل الروسي المتنوع بطوائفه وقومياته.
ولذلك، دخل اردوغان في لعبة أمم كبرى، لن يكون من السهل على روسيا أن تتعامل معها بالواقعية التي تعاملت فيها مع الشمال السوري أو مع الغرب الليبي. هنا المسألة ستكون مختلفة.
وعندما نقل ستالين الأرمن إلى جيب قره باغ داخل أذربيجان، هل كان يدري أنه يزرع لغماً سينفجر بعد نحو مئة عام، لتتطاير شظاياه في كل الاتجاهات، ويغير في الخرائط السياسية، ويسيل مزيداً الدماء؟
وعامل الوقت أساسي بالنسبة إلى روسيا، التي لا تحتاج إلى نزاع جديد على حدودها الجنوبية، كي يكتمل طوق الأزمات الذي يحوط بها.
وصحيح أن روسيا تعاملت مع تركيا كشريك في سوريا وليبيا. أما في القوقاز، فمنطق الأمور، يفترض أن الأحداث قد تتخذ مساراً مغايراً.
180 بوست
إضافة تعليق جديد