قراءة في فكر ماتياس ديسميت: التشكيل الجماهيري (1)
الجمل ـ الأيهم صالح:
أعتقد أن أهم الأفكار التي وصلتني هذا العام هي أفكار ماتياس ديسميت Mattias Desmet وهو أستاذ علم النفس في جامعة غنت البلجيكية، ويدرس فيها منهاجا عن التشكيل الجماهيري Mass Formation. محتوى هذه المقالة يستند إلى مجموعة من المقابلات معه يمكن إيجادها على الإنترنت.
ما هو التشكيل الجماهيري
يعتبر ماتياس ديسميت أن التشكيل الجماهيري ظاهرة تنشأ في بعض المجتمعات عندما تتوافر أربعة شروط أساسية:
عدد كبير من الناس في المجتمع يشعرون بالعزلة، أو يعيشون حياة منعزلة عن المجتمع ويعانون نقصا في الروابط الاجتماعية.
1- عدد كبير من الناس لا يجدون معنى لحياتهم أو هدفا ساميا يعملون من أجله، مثلا أشخاص يعملون في أعمال يشعرون أنها ليست ذات قيمة، أو أشخاص لا يملكون أي دافع لإجراء أي تحسين على حياتهم.
2- عدد كبير من الناس يعانون أمراضا نفسية مشخصة أو غير مشخصة، قد تكون هذه الأمراض ناتجة عن العزلة التي يعيشون فيها، أو عن فقدان الهدف، أو عن أسباب أخرى.
3- عدد كبير من الناس يشعرون بالقلق أو بالخوف من المجهول، ويجدون تعزيزا لهذا القلق في تعاملاتهم مع الآخرين، مما يقنعهم بوجود خطر ما يهدد المجتمع كله، ويحرض غريزة البقاء لديهم فيدفعهم لسلوك عدواني بشكل لاواع.
4- عندما تتوفر هذه الشروط في مجتمع ما، ويظهر في الإعلام بروباغاندا حول ما يمكن اعتباره خطرا واضحا أو معروفا، مع خطة واضحة للتعامل مع هذا الخطر، تتحرض لدى عدد كبير من الناس حالات معروفة في علم النفس، ويمكن تلخيصها كما يلي:
يقوم بعض الناس بربط خوفهم من المجهول بهذا الخطر الجديد، ويتبنون خطة مواجهته، مما يعطيهم هدفا لحياتهم، ويتواصلون مع من يتبنى هذه الخطة مما يخلصهم من شعورهم بالوحدة ويستبدل ذلك بالانتماء إلى مجتمع يعمل بتناغم لتحقيق هدف يعتبرونه ساميا. بالنتيجة يؤدي ذلك إلى تفاقم أمراضهم النفسية، فينعزلون تماما عن الواقع ويعيشون في عالم خاص بهم جميعا تتحكم فيه البروباغاندا ويسيطر عليه الخوف من الخطر المفترض وخطط مواجهته.
يفرز التشكيل الجماهيري قيادات تظهر بالتدريج وتتبنى خطابات تعزز التشكيل الجماهيري، ويقبل المنضوون ضمن التشكيل الجماهيري هذه الخطابات مهما كانت لا منطقية أو لا عقلانية، ويرفضون تماما أي خطاب عقلاني، كما تتشكل لديهم دفاعات نفسية ضد أي خطاب يمكن أن يعيدهم إلى حالة الخوف من المجهول أو إلى حالة الوحدة والانعزال.
نماذج للتشكيل الجماهيري
يقول ديسميت أن حالة التشكيل الجماهيري معروفة مسبقا، وقد وصفها غوستاف لوبون في آخر القرن التاسع عشر، وقد حصلت في أماكن كثيرة في العالم خلال القرن الماضي أشهرها الثورة الشيوعية في روسيا وحركة النازية في ألمانيا.
في روسيا بدأت حركة التشكيل الجماهيري عندما انتشرت كتابات الشيوعيين التي تضع أمام الناس خطرا واضحا هو القيصر وأسرته، وتضع لهم حلا واضحا هو ديكتاتورية البروليتاريا. وفي ألمانيا بدأت حركة التشكيل الجماهيري عندما بدأت كتابات وخطابات هتلر وأنصاره التي توضح أن الخطر الأكبر على الأمة الألمانية هو أعداؤها الخارجيون، وأن الحل الوحيد يكمن في دعم النازيين في مشروعهم لاستعادة الروح الألمانية.
يعتبر ديسميت أن هناك حركة تشكيل جماهيري هائلة تحصل حاليا في العالم، فالمجتمعات الغربية مليئة بأشخاص يعانون الوحدة بشكل مستمر، والإحصائيات تدل على أن هناك أعدادا كبيرة من الناس فقدت معنى حياتها وتعتبر أنها تمارس عملا تافها ولا تملك أي دافع للتطوير أو التغيير، كما أن استهلاك العقاقير النفسية والمهدئات وصل إلى أرقام خيالية في بعض دول أوروبا، وقبل بدء الأزمة الحالية كان من الواضح انتشار حالة من القلق والخوف في العالم بسبب مشاكل اللاجئين ومشاكل المناخ ومشاكل الإرهاب، وهي حالات قلق عام حول أخطار لا يمكن تجسيدها بشكل واضح وهناك اختلافات كبيرة حول خطط مواجهتها. هذا النوع من القلق والخوف من المجهول يسبب أعلى درجات الألم النفسي، وهو ألم يصعب احتماله.
يقدم ديسميت أدلة إحصائية متعددة لا يتسع المجال لها الآن ليقول أن مقومات نشوء التشكيل الجماهيري كانت موجودة في عام 2020 قبل إطلاق الأزمة ويعتبر أن الأزمة الحالية هي أزمة اجتماعية ونفسية قبل أن تكون أزمة طبية.
عقلية التشكيل الجماهيري
يقدم غوستاف لوبون وصفا لحالة المنساقين ضمن تشكيل جماهيري فيقول في كتابه سيكولوجية الجماهير الصادر عام 1895 نقلا عن ترجمة هاشم صالح 1991
"إذن إليكم الآن مجموع الخصائص الأساسية للفرد المنخرط في الجمهور: تلاشي الشخصية الواعية، هيمنة الشخصية اللاواعية، توجه الجميع نحو نفس الخط بواسطة التحريض والعدوى للعواطف والأفكار، الميل لتحويل الأفكار المحرّض عليها إلى فعل وممارسة مباشرة. وهكذا لا يعود الفرد هو نفسه، وإنما يصبح عبارة عن إنسان آلي ما عادت إرادته بقادرة على أن تقوده.
هذا يعني أنه بمجرد أن ينضوي الفرد داخل صفوف الجمهور فإنه ينزل درجات عديدة في سلم الحضارة. فهو عندما يكون فردا معزولا ربما يكون إنسانا مثقفا متعقلا، ولكنه ما إن ينضم إلى الجمهور حتى يصبح مقودا بغريزته وبالتالي همجيا.
…
إن الفرد المنخرط في الجمهور لا يختلف فقط بالأعمال والتعرفات عن نفسه وهو في الحالة العادية، وإنما نلاحظ أنه يفقد كل استقلالية فإن أفكاره وعواطفه قد تحولت وتغيرت إلى درجة القدرة على تحويل البخيل إلى كريم، والشكاك إلى مؤمن، والشريف إلى مجرم، والجبان إلى بطل.”
يعتبر ديسميت أن من ينساقون مع التشكيل الجماهيري يدخلون في حالة تنويم مغناطيسي حقيقي. يصر ديسميت أن هذه الحالة ليست حالة "تشبه التنويم المغناطيسي" ولكنها حالة تنويم مغناطيسي فعلي، وفيها يتم تركيز كل انتباه هؤلاء الناس على شيء واحد فقط وينسون كل الأشياء الأخرى المحيطة بهم. يقول ديسميت أن التنويم المغناطيسي أمر بالغ التأثير ويفصل الإنسان عن عالمه تماما ويعطل حواسه لدرجة أنه يفقد كل أنواع الشعور الحسي، وأنه يمكن إجراء عملية قلب مفتوح تحت تأثير التنويم المغناطيسي. بالنسبة لديسميت، لا يهتم من ينساقون مع التشكيل الجماهيري بالخسائر التي يتكبدونها، ولا يكترثون لفقدان حريتهم أو أملاكهم أو حياة المقربين منهم أو حياتهم، بل يركزون بشكل لا واع على انسياقهم مع التشكيل الجماهيري.
من ينساق مع التشكيل الجماهيري؟
يقول ديسميت أن التشكيلات الجماهيرية تظهر في كل مكان، ولكنها لا تتطور إلا في المجتمعات الكبيرة، أي التي تضمن عدد سكان كبيرا. وأن مستوى تطور التشكيل الجماهيري يتعلق بعدد السكان.
يستشهد ديسميت بقول لغوستاف لوبون "يتناسب الانسجام مع التشكيل الجماعي طردا مع المستوى التعليمي للفرد"
وبشكل عام في بداية التشكيل الجماهيري يمكن ملاحظة أن المنساقين مع البروباغاندا التي تقود التشكيل الجماهيري يشكلون حوالي 30% من السكان. هؤلاء أشخاص يفقدون تماما القدرة على التفكير المنطقي ويقعون تحت تأثير التنويم المغناطيسي بواسطة البروباغاندا. هناك عادة حوالي 40% من الناس حياديون ولا يأخذون مواقف، ولكنهم يؤيدون البروباغاندا بشكل ظاهري، ولا يجرؤون على التصريح عن قناعاتهم حتى مع أنفسهم. ويبقى من يعارضون التشكيل الجماهيري حوالي 30% من المجتمع.
يرى ديسميت أنه بينما يتميز التشكيل الجماهيري بنوع من الوحدة والانسجام في صفوفه، يتميز معارضوه بكمية هائلة من التنوع والتشتت والاختلاف، فهم مختلفون في كل شيء ولا يجمعهم إلا عدم انسياقهم مع البروباغاندا.
يلاحظ ديسميت أن معارضي التشكيل الجماهيري يستخدمون خطابا عقلانيا في العادة، ولكن هذا الخطاب العقلاني عاجز تماما عن التأثير على عقليات المنساقين في التشكيل الجماهيري، بالمقابل، يستطيع خطاب منساق مع البروباغاند ويبالغ في اللاعقلانية أن يغير اتجاه التشكيل الجماهيري. ولا يحتاج من يطلق هذا النوع من الخطاب لتبرير لا عقلانيته، فالجماهير تبرر له ذلك تلقائيا بل تدافع عنه بحجة أن كل تلك الأكاذيب لمصلحتها.
تطور التشكيل الجماهيري
يقول ديسميت أنه بعد أن ينضم الناس إلى التشكيل الجماهيري فهم يبدؤون بشكل جماعي معركة بطولية مع الخطر الذي تقدمه لهم البروباغاندا، فيعزز ذلك شعورهم بالانتماء إلى جماعة تضم أشخاصا آخرين وتكسبهم قيمة جديدة لحياتهم. هكذا تنشأ روابط اجتماعية جديدة تحل محل الفراغ الاجتماعي الذي كان يعيشه هؤلاء الناس. ما يحصل عمليا مع هؤلاء الناس هو حالة من التسمم العقلي، وهي حالة تحقق كل صفات حالة التنويم المغناطيسي لكل فرد في الجماعة.
عادة ما يقوم معارضو التشكيل الجماهيري بفضح البروباغاندا، وبإبراز أدلة علمية تدعم خطابهم الواقعي، ولكن التشكيل الجماهيري لا يكترث لذلك، فلاوعيه يرفض أن يعود إلى حالة الألم النفسي والعزلة الاجتماعية واللامعنى السابقة، أو ما يمكن أن يسمى The old normal، بل يريد أن يخلق واقعا جديدا New normal.
تؤدي حالة التسمم العقلي إلى تضييق حقل رؤية واهتمام الجماهير، فيصبح همها الوحيد هو ما يطلب منها عبر البروباغاندا، مثلا يتعاطف الكثيرون مع ضحايا المرض ولكنهم لا يتعاطفون بل يعجزون عن إدراك ضحايا الإجراءات القسرية التي تفرضها الحكومات ويؤيدونها هم بكل حماسة. يضيف ديسميت أنه من الخطأ الاعتقاد أن عدم اكتراث التشكيل الجماهيري للآخرين ناتج عن أنانية بل بالعكس، التشكيل الجماهيري مستعد للتضحية بكل شيء، بما في ذلك ممتلكاتهم وسعادتهم وحريتهم وحتى بحياتهم، وهم لا يكترثون بذلك أبدا، ولذلك فدوافعهم تخلو من الأنانية، وتنبع من حالة التنويم المغناطيسي، أو حالة التسمم العقلي التي تسيطر عليهم.
يتفق ديسميت مع لوبون في أن التشكيل الجماهيري يمكن أن يتطور لينتج مجتمعا شموليا يفضل احتياجات فئة معينة من الناس بشكل جماعي على احتياجات أفراد هذه الفئة وعلى احتياجات كل الأفراد الآخرين في المجتمع. وفي هذا المجتمع الشمولي يقوم التشكيل الجماهيري بتوجيه كل عدوانه تجاه أي صوت يظهر ليعارضه، لأن أي صوت معارض يمكن أن يهدد بإيقاظ المنومين مغناطيسيا وبالتالي إعادتهم إلى الوضع السابق ومشاكله. بالمقابل يظهر التشكيل الجماعي مستويات فائقة من المرونة والتحمل تجاه قادة التشكيل الجماعي ووجوه البروباغاندا التي تحركه، ويسمحون لهم بالغش والكذب والخداع وفعل ما يريدونه بدون أي حساب.
المجتمع الشمولي
يوضح ديسميت أن النظم الديكتاتورية تسيطر على الناس بالخوف والإرهاب، ويقودها أشخاص يدركون تماما أن سيطرتهم على الجماهير تعتمد على سطوتهم، في حين تعتمد النظم الشمولية على دعم فئات واسعة من المجتمع، ويقودها أشخاص يتبنون البروباغاندا التي تقود التشكيل الجماهيري لدرجة الإيمان، في حين يقاد هؤلاء القادة عبر البروباغاندا في بعض الحالات، ويقومون بتطوير البروباغاندا بأنفسهم في حالات أخرى.
ومن الفروق بين الحالتين أن النظم الديكتاتورية تقوم بتخفيف سطوتها على الناس بعد إسكات معارضيها، لأن الديكتاتور يحتاج موافقة الناس، في حين تقوم النظم الشمولية بأفظع جرائمها بعد أن تخمد أصوات المعارضة، وهذا ما حصل في الثلاثينات من القرن الماضي في الاتحاد السوفييتي وألمانيا.
وإذا نجح النظام الشمولي في إخماد أصوات المعارضة، فهو يصبح وحشا يلتهم أبناءه أولا، ثم ينتقل ليقضي على فئات واسعة من المجتمع بطرق مختلفة.
ومن الفروق أيضا أن النظم الشمولية دائما تقوم بتدمير نفسها، وبمرور الوقت سيلاحظ الناس أن لاواقعية النظام الشمولي تجعله غير قادر على البناء في الواقع، وقادرا على تدمير كل الواقع بدون حساب للعواقب، مثلا كل خطط ومشاريع وأفعال هتلر وستالين انتهت بدمار وعواقب وخيمة على شعوبهم.
عادة ما تتفوق الشمولية على الديكتاتورية في مستويات توحش القادة، فبينما يكون الديكتاتور عادة واعيا ومدركا للعواقب يبقى القائد الشمولي تحت تأثير التسمم العقلي، ويقوم بإصدار أعداد كبيرة من القوانين المتناقضة وبمعاقبة من يخالفها من أنصاره بكل قسوة. ورغم ذلك فالأنصار عادة يفضلون القادة القساة الذين يتطلبون الولاء المطلق، ويرحبون بأي عقوبات ينزلها عليهم القائد، ويعتبرون أنهم يستحقونها لأنهم خالفوا القوانين مهما كانت القوانين ظالمة أو لا أخلاقية أو لاواقعية.
الجمل: يتبع ...
إضافة تعليق جديد