غسان الرفاعي: الحب بندقية ضد الاحتلال
-1-
يبدو الحديث عن الشعر والشعراء، في هذه المناخات المدلهمة التي تستفزنا بلا رحمة، هذه الأيام، نوعاً من الترف البرجوازي أو التهرب الانتهازي، وقد يكون تسلية غير محمودة، في وقت نحن بأمس الحاجة فيه إلى التعبئة السياسية. ولكن الحديث عن المرحوم (محمود درويش) الذي زار باريس منذ فترة، حاملاً معه ديوانه الجديد (لا تعتذر!) وحفنة من تراب رام الله، وطفولته النزقة هو مغامرة سياسية لا تخلو من إحراجات، وعواقب. إنه يفاخر بأنه مسكون بالشك الواخز في عالم ساخن مشحون باليقين الفولاذي، يقول في مقابلة أجرتها معه صحيفة «لونوفيل اوبسرفاتور» الفرنسية: «هناك ريح من الجنون الجمعي تهب على منطقة الشرق الأوسط، وخاصة على فلسطين. اننا نشهد صراعاً دموياً بين أصوليتين متنافستين: الأصولية الأميركية التي تسعى إلى الهيمنة والأصولية الإسلامية التي تصر على المقاومة والمطلوب من الشاعر أن يبقى سجينا في غرفته، محاولاً أن يسرب شيئاً من الكرم الإنساني إلى العالم، وبما أن التفتيش عن عدالة ما- إذ لا توجد عدالة كاملة- لا معنى له، هذه الأيام فإن ما يجري هو هزيمة للحكمة وانتصار للحماقة، إن انتشار الكراهية أسهل بكثير من انتشار المحبة، لأنها ترضي الغرائز، لا العقل وهكذا يخيل للمضطهدين بأنهم قادرون على الخروج من مأساتهم عن طريق الهستريا، ويدفعهم شعور الكراهية إلى تصنيع أعداء في كل مكان، وإلى تفضيل الكاريكاتور على الفن النبيل، وكلما تصايح متطرف إسلامي من الدرجة الثالثة رد عليه البيت الأبيض بزمجرة البحارة المارينز، وكأن الحوار مقصور على رجلين مصابين بالجنون هما (بوش) و(بن لادن) اللذان يرددان دون انقطاع: (من ليس معنا فهو ضدنا).
-2-
ديوان (محمود درويش) الجديد (لا تعتذر) حوارات سياسية باردة بين نسخ مختلفة من (أنا)، بين عدة شخصيات فلسطينية مطمورة داخله، وتمثل كل الثقافات المتعاقبة على هذا الجزء من العالم: ثقافة ما بين النهرين، الثقافة الإغريقية، الثقافة الفارسية، الثقافة اليهودية، الثقافة المسيحية، والثقافة الإسلامية، يقول في زهو: (من حسن الحظ أن يختزن الفلسطيني كل هذه الثقافات داخله. إنني أشعر، بعض الأحيان، بأنني أختزن ثقافة المحتل، وأن هذه الثقافة أصبحت جزءاً من تكويني، وإذا كنت أحارب الصهيونية، بلا هوادة، كإيديولوجيا، وكواقع سياسي، فلأنها أصولية مغلقة، ولهذا فأنا لا أريد ولا أرغب في أن أرد على هذا الانغلاق بانغلاق عربي مضاد). ولدى (محمود درويش) قناعة بأن الإسلام الحقيقي ينطوي على المسيحية واليهودية، وأن هناك جذوراً واحدة تجمع بين هذه الأديان السماوية الثلاثة، وإذا كان الصراع الحالي قد اتخذ بعداً دينياً بغيضاً فهذا عائد إلى أسباب سياسية بالدرجة الأولى: استمرار الاحتلال الصهيوني لفلسطين، بما يحمله من قتل وتدمير وبربرية، تصاعد الحقد العنصري الذي يحول الإنسان إلى وحش مفترس. ماذا ينتظر العالم من إنسان فلسطيني محاصر، ومهان، ومسلوب الحقوق، بلا أفق ولا أمل؟ وهل ينتظرون منه أن يصرخ: (من ضربني على خدي الأيمن أدير له خدي الأيسر!).
-3-
حينما كان محمود درويش منفياً في بيروت عام 1981 أصدر مجلة «الكرمل» التي بقيت نافذة مفتوحة على آداب العالم بأسره, إلى جانب عرضها للأدب الفلسطيني. وقد لامه الكثيرون لإسهاب المجلة في تقديم آداب الشعوب الأخرى بدلاً من التركيز على الأدب الفلسطيني. وكان يؤكد دوماً: «إن كل أدب يدافع عن قضية نبيلة عادلة يثري الأدب الفلسطيني», بل لعل لفلسطين بالنسبة لـ درويش حضوراً عالمياً أكبر بكثير مما يتخيله عامة الفلسطينيين, إن مجلة «الكرمل» مازالت تصدر في رام الله وعمان, وهي تنقل دوما مقتطفات من «أدب العدو» وتحرص على التعريف بكل إنتاج تتلامح فيه نزعة إنسانية, لقد تنقل درويش في عدة أقطار عربية: مصر, لبنان, سورية, تونس, وسكن في باريس عدة سنوات قبل أن يعود إلى الوطن ومسقط رأسه, ويقول في أسى: عدت إلى الوطن وليس في ذهني إلا صورتان: منزلي والطريق المؤدي إلى منزلي, قبل العودة كنت أظن أن المنزل أكثر جمالاً وسحراً ولكنني اكتشفت بعد العودة أن الطريق أكثر فتنة, ولهذا كنت دوماً أقطعه ذهاباً وإياباً. ودموع الفرح تطفح من عيني.
بدأ الشاعر المتشرد بامتياز يشعر بأنه استعاد شبابه بعد أن نجا من الموت عام 1998 إثر إجراء عملية قلب, ويعترف كطفل: أشعر أنني ولدت من جديد قبل العملية كنت مسكوناً بهاجس الموت ولكنني اليوم أحتفل بالحياة, والجمال. أتساءل بعض الأحيان: كيف أنظم شعراً عن الحب وبلادي مهدمة, محروقة منزوعة الشجر والثمر, إنني ملتزم كشاعر مبتدئ بأن أرصد غيمة تائهة في السماء. أو أن أراقب شجرة سرو, وزهرة اللوز, لقد وضعت نفسي تحت حماية أمراء الشعر العربي ولكنني أكتب دوماً, وأنا في حال فرح ونشوة, لقد استقبلني الجمهور الفلسطيني بترحاب وطلبوا مني أن أنشد أشعاراً في الحب, فامتلأت عيوني بالدموع وقلت: إن الاحتلال لم يفسد إنسانيتهم وأنا متأكد أن الشعر الفلسطيني المعاصر يخوض معركة لتحرير اللغة من الاحتلال وفي قناعتي أن أكبر هزيمة يلحقها بنا المحتل هي في أن ينتصر على لغتنا, ولعل المحتل لا ينتظر منا إلا أن نتحدث عن آلامنا, ولكنني متأكد أن نظم قصيدة حب تحت الاحتلال هو شكل من أشكال المقاومة.
-4-
اجتمعت بـ محمود درويش في باريس بعد طول غياب, وتذكرنا معا قصة تهريبه من بيروت إلى دمشق للمشاركة في مهرجان الشعر الذي أقيم في مدرج جامعة دمشق, كنت آنئذ نائباً لرئيس اتحاد الكتاب, وقد عهد إلي باستجلاب الشاعر المنفي إذ كان ممنوعاً من دخول سورية بسبب اشتراكه المزعوم في مهرجان الشباب في فارصوفيا تحت العلم الإسرائيلي حزب راكاح, ولم يكن من السهل إسقاط قرار المنع عنه ولولا مبادرة جورج صدقني عضو المكتب التنفيذي للاتحاد وأحد المسؤولين عن المكتب الثقافي في الحزب, لما استطعت أن أتجاوز هذه العقبة إذ زودني بكتاب رسمي فريد من نوعه موجه إلى مخفر الحدود, جاء فيه «يسمح للسيارة رقم.. أن تدخل لبنان وتعود بما ومن فيها! وقد تمكنت من القبض على محمود في مقهى على الروشة وأن أدخله إلى سورية كبضاعة مهربة وحينما عبرنا الحدود سألني: هل أنا من صنف الما أو المن في تقديركم؟ فقلت له: أغلب الظن أنك من صنف الما!
لم يشهد مدرج جامعة دمشق تجمعاً حاشداً صاخباً كالتجمع الذي شهده ذلك اليوم الدافئ من شهر نيسان 1971، كان الناس يملؤون الصالة الضيقة ويتدلون من الشرفات ويتدافعون من كل المنافذ، ويسدون الطرق إلى الجامعة، كان عرساً حقيقياً للكلمة، للشعر، للحرية، كان تقديمي الشعراء المشاركين زلزالاً:
الجواهري، نزار قباني، عمر أبو ريشة، بدوي الجبل، وكان علي أن أقدم (محمود درويش) وبدا لي شديد الاضطراب والخجل، ولم يكن يتوقع أن يقف أمام هذه الجموع الحاشدة وبدأ يلقي بعض قصائده بصوت خفيض وفجأة ارتفع صوت من الصالة:
يا محمود اقرأ لنا، سجل، أنا عربي!
وامتقع لون (محمود) وتوقف عن الإلقاء وكأنه فقد توازنه، ووقفت آنسة جميلة في عمر الزهور وأعادت طلبها:
يا محمود اقرأ لنا سجل أنا عربي!
وصمت (محمود) وقال: لا أحفظها.
وارتفع صوت الآنسة ثانية: إنها معي، أريد أن أسمعها بصوتك.
وازداد انفعال (محمود) واختنق صوته وقال محرجاً:
لا أستطيع أن أقرأها، هذه القصيدة لها معنى في الأرض المحتلة كانت تحدياً كانت إشهار هوية، أما في دمشق عاصمة العروبة فليس لها معنى، لمن أتوجه بهذا النداء؟ وأنا بين أهلي.
ووقف كل من كان في الصالة، وبدأ يصفق وينشد سجل، سجل، أنا عربي!
قال لي (محمود) وهو يودعني أمام معهد العالم العربي:
لعلي كنت مخطئاً؟ أشعر اليوم بأنه يتوجب على كل عربي وعلى امتداد الوطن العربي أن يهتف «سجل أنا عربي! يخالجني شعور مبهم بأن الهوية العربية مهددة، جغرافياً وتاريخياً!
وعانقني بودّ، واستمر يتحدث، وكأنه يخاطب نفسه:
ولكن الإنسان، حتى وهو غارق في اليأس والآلام قادر على أن يغني للفجر، لأشجار الزيتون، لأزهار اللوز. إن نظم قصيدة حب تحت الاحتلال والإرهاب هو شكل من أشكال المقاومة، إن الشعر هو النور الذي يبدد الظلام، صدقني الأمل المتفائل هو المرض الذي لا يمكن معالجته لدى الفلسطيني، إنه انتصار على الهزيمة والقهر والموت، لقد اخترت ان أكون مريضاً بالأمل، الشعر سريع العطب، وهذا ما يعطيه القوة مثله مثل العشب الأخضر: يبدو العشب هشاً، ولكن يكفي أن تصب عليه قليلاً من الماء، وأن تعرضه لأشعة الشمس، حتى يعود إلى تفتحه وطزاجته.
د. غسان الرفاعي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد