زمن الغربة: تناقص الموارد طرداً مع زيادة أعداد البشر
بينما تتزايد أعداد البشر في العالم مع 8000 طفل يولدون كل ساعة، تتناقص الموارد المائية والغذائية خاصة في البلدان الفقيرة بشكل مطرد.
حيث يعاني سدس سكان العالم من سوء التغذية (16 مليون من حالات الفقر الشديد يعيشون في الولايات المتحدة)، ويموت بسبب المجاعة ثمانية عشر ألف طفل في اليوم جلهم من العالم النامي.
في وضع كهذا يغدو السعي للقمة العيش وتأمين قوت العيال أمرا ملحّا يدفع شباب بلدان الجنوب إلى الاتجاه نحو الشمال، حتى ولو رمياً بأنفسهم بين ذراعي مصير مجهول محفوف بشتى المخاطر، بما في ذلك احتمال خسارة حياتهم على قوارب الموت.
بلدان الجنوب هذه لم تعد فحسب طاردة لأبنائها بعد فشلها في معركة التنمية، بل أصبحت أيضا مرتعا لنهب ثرواتها بتضافر جهود الفساد الداخلي والهيمنة الخارجية.
وخير مثال على ذلك البلدان العربية التي يمكنها أن تستوعب ثلاثة أضعاف حجم سكانها لو أحسنت استعمال وتوزيع ثرواتها النفطية والمعدنية والزراعية الهائلة واقتنعت بضرورة كسب معركة الديمقراطية.
أما بلدان الشمال التي امتصت خيرات بلدان الجنوب بما فيها طاقاتها البشرية يوم كانت بحاجة لسواعدهم وشبابهم لبنائها العمراني والديمغرافي، فقد شرعت منذ إغلاق حدودها في سن قوانين أشد إجحافا بهؤلاء المهاجرين.
وذلك للتخلص ممن اعتبرتهم فائضا لا حاجة لها بهم، وانتقاء من هي بحاجة له فقط من اختصاصييهم الذين لم تنفق مليما على تعليمهم.
ولم تعد بالتالي الحظوة بأوراقها الشرط الكافي لتجنب المهانة والتشرد والجوع في عالم يفترض أنه بات قرية كونية في زمن العولمة وثورة الاتصالات.
لأبناء بلداننا -التي لا يهم سياسييها إخبارهم بما ينتظرهم لو رحلوا عنها- أريد أن أؤكد تقديري لأحلامهم بالهجرة لجنان الأرض الفسيحة من أجل بناء الغد الزاهر، كما فعلت أنا نفسي يوم غادرت بلدي الذي اكتوى بنيران خمسة عشر سنة من الحرب.
لكن أقول لهم إنها ليست بالفسيحة كما قد يتصوروها، بل إنها تتكور على نفسها بما يمارس فيها من عنف وعدوان من الإنسان على أخيه الإنسان.
ومن غير الصواب الاعتقاد أن من يمتلك قدرات تقنية عالية يتحلى بالضرورة بسعة أفق وكرم خلق وفكر نقدي لما يقدم له من معطيات.
الخوف من الغد يولد في ظروف الأزمات وعند كل الشعوب ردود فعل عديدة، منها الانكماش على الذات والتحجر الذهني والحذر من الآخر وتشريع القوانين تحت شتى الذرائع لجعل هذا الآخر على مسافة كافية ومطمئنة.
أما فيما يخص المغتربين فأعتقد أن التغييرات النفسية والفيزيائية والبيولوجية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية تشكل قاسما مشتركا بينهم، سواء كانوا منفيين قسرا أم مهاجرين طوعا.
الغربة هي أن تكون غائبا عن الزمن الراهن وحاضرا في الماضي البعيد. لكن أن تكون منفيا فهذه درجة قصوى عند من خرج من بلده مرغما من نظام قمعي.
تجربة الغربة لا يعرف إشكالاتها إلا من خبرها. تجربة غنية ومغنية لمن تتوفر له الظروف المساعدة للاستفادة مما تقدمه من اكتشاف لفضاءات وثقافات وعوالم جديدة، لكنها صعبة أيضا وشائكة نفسيا.
ويشتد ذلك خاصة عند ما لا يوفر البلد المستقبل الشروط الأدنى لحياة كريمة في حيز الحرمان الأصلي، والشعور بالمواطنة في بلد الاستقبال عند المنفي السياسي أو رفض البؤس عند المهاجر الاقتصادي.
غالبا ما يعيش المغترب في بداية الرحلة مرحلة من الشعور بنشوة الانتصار على ما سلف وتحقيق الرغبة في الوصول للمبتغى. فبلد الحلم أصبح حقيقة، والصورة المنسوجة عنه في المخيلة باتت واقعا ملموسا، والأحلام المعقودة في متناول اليد.
لكن هذه الحفاوة بالبلد الجديد تخفي الحزن على ما لم يعد. وقد تكون الطقوس الاحتفالية نوعا من الهروب إلى الأمام لإخفاء القلق من الغد المجهول والمرارة من صدمة الانقلاع من الجذور.
كما يمكن أن تعتبر ترجمة للحداد على ترك الأهل ومرحلة الطفولة، وترجيعا لذكريات شكلت جميعها جزءا هاما من شخصية المرء وصورته عن نفسه.
الشعور بخسارة المكان لا يرافق بالضرورة زمن الابتعاد الحقيقي عنه. لكن لن يطول الوقت حتى يغدو البلد الذي كان الجنة الموعودة أشبه بالكابوس. فيحتل مكانه في المخيلة بلد المنشأ بزرقة سمائه ودفء طقسه وعطر بساتينه ونكهة مأكولاته.
فالأشياء المادية غالبا ما تحمل أبعادا نفسية تعطيها رمزية هامة، حيث تتماهى الأرض بالأم وتمتزج تخوم الأنا بالنحن والرغبة بالعودة للماضي والحنين للطفولة. أي الركون لما يطمئن وتكوين عناصر عملية دفاعية عن الذات تبعد أو تخفف من وطأة الألم.
في كل الأحوال يمر المغتربون خلال هذه السيرورة بمراحل مختلفة، حيث إن بداية الرحلة ليست مشابهة كثيرا لما بعدها. كما أن الأنماط السلوكية تتراوح لديهم بين تهميش الذات ورفض المجتمع المحيط لدرجة قد تؤدي إلى الانطواء على النفس والحنين الشديد إلى البلد الأصلي، وبين الوجهة المعاكسة التي تنم عن سعي حثيث للتشبه بالآخر الجديد.
وذلك بتقمص سلوكه وآليات تفكيره، مع رفض المرجعيات القديمة وكل ما يمت لها بصلة لدرجة الاغتراب عن النفس. لكن غالبا ما تتركز النسبة الأكبر بين هذين الطرفين، مع تجميع براغماتي ومتماسك لمعطيات من الأنماط الثقافية القديمة والجديدة معا.
هذه السيرورة التي يطلق عليها اسم التثاقف، لاحظ المختصون الذين درسوها أن أكثر ما تظهره من أعراض هو الشكوى من آلام جسدية متعددة، حقيقية أو وهمية.
ويبدو ذلك أوضح عندما يعبر الجسد عما لا يمكن التعبير عنه بالكلام لضيق الحيز الاجتماعي أو لعدم التمكن من اللغة الجديدة، باضطرابات تتعلق بالنوم أو الغذاء أو الجنس أو العلاقات الاجتماعية إلخ، مع الاكتئاب الذي يشغل حيزا هاما من المشهد.
وتكون هذه الاضطرابات غالبا في بداية عملية التأقلم، ويمكن أن تعود للظهور بعد سنوات وخاصة عندما يشعر المرء بأنه مهما فعل لن يأخذ مكانه في المجتمع المضيف.
وتظهر واضحة في إطار العائلة التي هي بمثابة الوعاء الذي يتلقى هذه التعبيرات وقد يزيد من احتقانها بدلا من استيعابها وتفهمها.
فالعائلة خلية تتألف من أفراد يختلفون فيما بينهم ويعيش كل منهم أزماته دون أن يكون بالضرورة قادرا على تحمل ما يُضاف إليها.
وكما يمكن أن تكون هذه الخلية الملاذ الآمن، فهي قد تتشقق وتختل التوازنات بين محتوياتها أو يتفجر ما بداخلها وخاصة الزوجين الذين تجمعهما علاقات من نوع خاص.
هجرة الأهل قد يعيشها الأطفال بمشاكلها ومعاناتها حتى بعد حين من حدوثها ومن دون أن يكونوا حاضرين فيها. فالمعاناة تنتقل باللاوعي من جيل لآخر، حتى عبر الأشياء التي لا تقال والتي تبقى مخفية لدى أصحابها كسرّ دفين.
والطفل قد يكون سببا إضافيا في مراكمة الصعوبات التي يفترض في الأهل مواجهتها. كذلك قد تتباعد العلاقة بين الآباء والأبناء مع تقدمهم في السن وصولا لمرحلة الرفض والثورة التي هي المراهقة، خاصة عندما لا يجد الآباء صورتهم في أبنائهم.
فهم قد تربوا في محيط له عقليته وقيمه ومفاهيمه التي قد لا تلتقي مع المحيط الجديد، بحيث يشعرون أنهم خسروا رهاناتهم على من كان يمكن أن يعوضهم معاناتهم.
غياب العائلة الكبيرة من أجداد وأخوال وعمات وغيره لن يسمح بالتأكيد لأفراد الخلية الصغيرة وخاصة الأطفال بالاتكاء على المحيط وتعويض الحنان المفقود باللجوء إليهم.
كما لن يساعدهم هذا الوضع على الشعور بالاطمئنان لهوية ممتدة الجذور. والأطفال هم بحاجة لمتنفس خارج إطار الخلية الأسرية، خاصة في زمن الأزمات العائلية، بحيث لا يكونون أسرى لتصفية الحسابات فيها. مما يحضّر لمشاكل قد تظهر بقوة بعد حين ودون التنبه لعلاقتها مع مسبباتها.
وكما تدخل الغربة شكوكا وتساؤلات حول إشكاليات الانتماء والبنوة والأخوة، قد تطرح جدلا حول معطيات من نوع الخيانة والهجر والخديعة.
قد يفاجأ المغترب بصورته عند من تركهم من أهل وأقارب وأصحاب، وإذا قدر له أن يعود لزيارتهم فسيكتشف أنه صار غريبا عنهم وأنهم ربما لا يقبلونه كما أصبح، حيث إن مشاعر مختلفة تدفعهم لمقارنات قد لا يحتملها.
فهم يشعرون كأنه تخلى عنهم وتركهم لمصيرهم، حتى ولو اختبأت هذه المشاعر وراء أفراح وطقوس اللقاءات. وهم لا يعرفون كيف يتعاملون معه أو يتعرفون عليه كما أصبح أو يفهمون التغييرات التي نجمت عن عملية التثاقف.
لم يفقهوا أن المحيط الذي عاش فيه سنوات من عمره له كبير الأثر على تشكله. حاجتهم لمثل عليا أو لصنم يعبدونه في شخصه قد يحطموه في أول فرصة.
وقد يذهب بهم الأمر إلى رفض عودته لبلده وكأنه لم يعد من هذا البلد الذي غاب عنه ردحا من الزمن. وكأنه مطالب بأن يحدد لأي مكان ينتمي: هناك أم هنا، لكن ليس للاثنين كليهما.
العدائية قد تبرز بشكل أوضح مع أصحابه القدامى في حال حرمانهم من حقوق تمتع هو بها، لكونه عاش في بلد يحترم حقوقه أكثر من بلده الأم.
لكنه هو أيضا أصبح في مواجهة تساؤلات كان يهرب من طرحها أو الإجابة عنها قبل العودة. عنف اللحظة بمكنوناتها العاطفية قد ينجم عنه اهتزاز شديد لدعائم الذات.
كأن هناك حاجة لشيء من قبيل الحلم والمثال، لكن اكتشاف الواقع دمر رهبة الحلم وقدسية المثال. الآخر لم يعد جزءا من الذات، بل تهديدا لها.
هو لم يعد يعكس صورتها في مرآته. ربما اكتشف أنه لم يترك أناسه لمصيرهم وإنما هم من تخلوا عنه. وكأن مشاعر الذنب تجاههم التي طالما راودته لم تكن مبررة. لقد أتلفوا ما تركه وراءه وما كان يأمل أن يجده عند عودته، وكأنهم قد دفنوه هو.
ومع ذلك ففكرة العودة النهائية لبلد الأصل لها وظيفتها المفيدة عند المغترب، خاصة في المرحلة الأخيرة للعمر وعندما تبدأ الصحة إعطاء المؤشرات السلبية.
فالشيخوخة في بلد الاغتراب مسألة تغدو أكثر تعقيدا بالنظر لحاجات الإنسان الأساسية وإمكانية تلبيتها بدءا من الحاجات الفيزيولوجية وتأمين ضرورات العيش، مرورا بالحاجة إلى الشعور بالاطمئنان على الصحة ودرء المرض وأنواع الحرمان المختلفة، وتلبية الحاجات الاجتماعية والركون لمشاعر الحب والصداقة والانتماء للمكان والزمان. وانتهاء بحاجات تحقيق الذات والنجاح والثقة بالنفس وعدم الاحتياج للآخرين في تسيير أمور الحياة.
والسؤال الذي لا بد منه هو كم هي نسبة من يضع فكرة العودة موضع التنفيذ قبل أن يقدم قطار الموت من غير موعد، في زمن المراوحة بين الماضي والحاضر وتحضير المستقبل في مكان قد لا ينتمي لأي منها؟
إنها بالتأكيد ضئيلة جدا، ولو أن مسألة العودة تبقى مطروحة على بساط البحث ربما طوال العمر وحتى لو لم يبق من العمر إلا أشهر.
وهي شبه معدومة عندما يطرح السؤال بشكل براغماتي عن مقدار الربح والخسارة في كلتا الحالتين، وعندما تبدو الهجرة المعاكسة غير متوفرة في وضع ما زالت الأوطان العربية طاردة أكثر منها مستقبلة أو مسترجعة لأبنائها. هل من ضرورة أن أسمي هنا العراق، أم فلسطين، أم لبنان، أم سوريا، أم تونس، أم ليبيا، أم الجزائر، أم المغرب أم أتوقف عن استدعاء المزيد ممن لم يذكر؟
ستمر بالتأكيد وللأسف عقود طويلة قبل أن تتحول البيئة الطاردة إلى بيئة جاذبة، ما لم تتم إعادة تحديد الخيارات الاقتصادية والاجتماعية للبلدان العربية وتنمية الإمكانيات الذاتية لشعوبها.
وما لم تحل الأزمات الناتجة عن وجود قوى تفرض سيطرتها بالدبابة والدولار، وما لم يتم تحررها من الهيمنة والتبعية للغرب، وما لم يتوفر مناخ من الديمقراطية والحرية واحترام حقوق الإنسان يمكّن المواطن العربي من المشاركة الفعلية في دفع عجلة التنمية والتقدم والمساهمة على قدم وساق في حركة بناء الإنسانية.
فيوليت داغر
المصدر: الجزيرة
إضافة تعليق جديد