ريتشارد قلب الأسد: الطريق إلى الحملة الصليبية
ريتشارد الأول قلب الأسد، أشهر ملوك إنجلترا على الإطلاق، الذي فرض نفسه بين عظماء التاريخ كأحد أقوى وأهم الملوك، ولكن حياته لم تكن عظيمة بقدر سيرته، وعوامل عدة ساهمت في وصوله إلى هذه المكانة، وتعطشه الدائم للحرب والقتل، وأهمها العائلة وحياته الأولى كطفل حيث المشاكل الأسرية والتجاهل والتعلق بالأم، ثم المراهقة والتمرد ضد والده في أشهر نزاع عائلي في العصور الوسطى، فمن هو ريتشارد قلب الأسد فعلًا؟ وكيف قضى سنين عمره الأولى؟
ابن أقوى رجل في أوروبا
هنري الثاني وُلد ريتشارد قلب الأسد في واحدة من أقوى وأشهر العائلات في تاريخ أوروبا والعصور الوسطى، سواء من ناحية الأب أو الأم، فوالده الملك هنري الثاني أول ملوك عائلة Plantagenet الشهيرة، وسيعرفوا بعد ذلك بالملوك الذين بنوا إنجلترا، ومن نسل ‘وليام الفاتح‘ أول ملك من النورمان القادمون من فرنسا على إنجلترا، والذي يقسم المؤرخون تاريخ إنجلترا إلى مرحلة ما قبله وبعده.
حارب والده هنري الثاني لسنوات في ما يسمى ب ‘عهد الفوضى’ 1135-1154، من أجل استعادة حقه في عرش إنجلترا، الذي اغتصبه ابن خالة والدته Stephen of Blois، حتى أصبح ملك إنجلترا بعمر 21، وبحلول 1172 أخضع جزيرة بريطانيا بالكامل وإيرلندا، وقضى على تهديدات اسكتلندا وأخضع ملكها تحت حكمه، وحكم من الأراضي الفرنسية أكثر من ملك فرنسا ذاته، وكون ما سُمي بعد ذلك ب ‘Angevin Empire’، واحدة من أعظم الإمبراطوريات على الإطلاق، والتي سيطرت على أوروبا سياسيًا لعقود وامتد تأثيرها في جميع الأرجاء، ممهدًا الطريق لكي تصبح إنجلترا أقوى دولة في العالم.
أغنى امرأة في العالم
أما والدته فهي اليانور حاكمة مقاطعة ‘إكويتاين’ في فرنسا Eleanor of Aquitaine، فهي تعد سيدة العصور الوسطية وواحدة من أقوى النساء وأكثرهم تأثيرًا في تاريخ أوروبا والعالم، فقد كانت تحكم أغنى مقاطعة في العالم بهذا الوقت مما جعلها مطمع للملوك والأمراء في أرجاء أوروبا، منذ أن تولت الحكم بعمر الخامسة عشر وكانت تحت وصاية ملك فرنسا ‘لويس السادس’ الذي أراد السيطرة على أراضيها الغنية والمهمة، فقام بتزويجها لابنه لويس في عام1137، ومات بعدها الملك وتولي لويس السابع العرش، وأصبحت اليانور ملكة فرنسا، لكن الأمور لم تسير بسلاسة، بل تعقد الزواج مع الوقت وازدادت المشاكل والخلافات، خاصة كون لويس السابع كان مهتمًا أكثر بالتدين وحياة الرهبنة وكان يعزف عن واجباته الزوجية، وحيث إن اليانور كانت مفعمة بالحيوية وامرأة متعلمةً تحب الشعر والغناء والحياة المترفة، اصطدم الجانبان وانتشرت الإشاعات عن خيانة الملكة اليانور وعلاقاتها الغرامية في كل مكان، وشاركت مع زوجها في الحملة الصليبية الثانية 1147، ضد قوانين الكنيسة بعدم مشاركة النساء ، ولكن الخلافات زادت خلال الحملة، ولم يساعد فشل الحملة في تخفيف النزاع بينهما، حتى كان الطلاق أخيرًا في 1152، بعد 15 عامًا من الزواج أنجبت خلالها ابنتان، وحولت أنظارها إلى زوج جديد يليق بأغنى امرأة في العالم، ويحقق أحلامها وطموحاتها.
فكان هنري دوق مدينة ‘آنجو’ في فرنسا، شاب وسيم في ال 18 مفعم بالحيوية والبطولة، بينما كانت الينور في الثلاثين من عمرها، ضعف عمره تقريبًا، لكنها نجحت في إغرائه والفوز بالأمير الصغير، وقامت بمساندته ومساعدته للوصول إلى عرش إنجلترا في 1154، لتصبح أول وآخر امرأة في التاريخ تتقلد عرشي فرنسا وإنجلترا، إنجبت من هنري الثاني 8 أطفال، 5 ذكور أوسطهم ريتشارد، وثلاثة بنات.
عائلة مفككة رغم قوتها
على الرغم من القوة السياسية والاقتصادية لعائلة ريتشارد قلب الأسد، إلا أنها كانت عائلة مفككة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فبينما فشلت الأخطار الخارجية في الإطاحة بالعائلة، تخللها الضغف والتمرد الداخلي، فقد اعتمد الملك هنري الثاني على سياسة التلاعب والإيقاع بين أبنائه، من أجل تحييد قوتهم والاحتفاظ بكل السلطة لنفسه، فكان يقوم مثلًا بوعد منصب لأحدهم، ثم يقوم في اليوم الثاني بمنحه لآخر، أو يخلع أحدهم من منصبه ويعين شقيقه في نفس المكان، أو يعطيهم منصبًا ولكن بلا أي سلطة حقيقية، ويقوم بتعيين حامية تابعة له في المدينة لا تأتمر بأمر الأبناء، مثلما قام بتعيين الابن الأكبر هنري وليا للعهد ثم ملكًا بالمشاركة، ولكن تركه دميةً تحمل درجة شرفية فقط، فقد تعامل معهم مثل تدريب الصقور، ضع الطعم أمامهم وعدهم به، ثم تراجع في آخر لحظة قبل أن يقوم الصقر بالالتهام حتى تجعله جائعًا دائمًا . وقام مثلًا في 1168 بتزويج ابنه الثالث جيوفري من وريثة دوق Brittany في فرنسا، وبعدها أجبر ابنه على التنازل عن حكم المقاطعة لصالحه.
فقد كان محبًا للسيطرة وطمعه في ضم المزيد من الأراضي لا ينتهي، فبعكس المتعارف عليه في العصور الوسطى، عمد هنري الثاني إلى إنجاب أكبر عدد ممكن من الأبناء، ليقوم باستخدامهم في توسيع مملكته والتحالفات السياسية عن طريق تزويج أبنائه وبناته، وهو ما تم بالفعل، حيث تم وعد ريتشارد وشقيقه الأكبر هنري في سن الطفولة إلى ابنتي ملك فرنسا من زوجته الثانية، في مقابل عدد من القلاع والمدن المهمة في فرنسا كمهر للعرائس كما كان يحدث فى تلك الفترة، وتم تعيينه وصيًا عليهم حتى البلوغ وبذلك وقع المهر تحت سيطرته، واستمر في السيطرة عليه حتى بعد الوصول لسن البلوغ ورفض تسليم الأميرات لأبنائه، حيث ظل محتفظًا بهن في ما يشبه الأسر حتى لا يفرط في المهر والقلاع لصالح الأبناء، كذلك قام بتزويج بناته الثلاثة إلى بعض حلفائه أيضًا لمصالحه الشخصية.
نشأ الأبناء ومن بينهم ريتشارد في بيئة صعبة غير صالحة، فكبروا على حمل الضغينة ضد والدهم، بين لا مبالاة الأب والتعامل معهم كأدوات لصنع التحالفات والمصالح المشتركة، لم يكن حتى يهتم بهم أو يحسن معاملتهم إلا مع أصغر الأبناء جون، الذي اختصه بكل المحبة ولم يشعر بالتهديد منه لأنه كان طفلًا أو مراهقًا خلال حياة هنري وكان الأقرب له وعاش معه، ولم يكن جون يتمتع بأي صفات خاصة أو مميزات، مثل قوة ريتشارد مثلًا أو فطنة جيوفري أو شعبية هنري الصغير، فكان يستخدم هذا الأبله لمضايقة بقية الأبناء، بينما يعاقبهم بالتجاهل.
ما زاد من معاناة الأطفال عدم وجود منزل ثابت، فقد كانوا دائمي التنقل من منزل لآخر مصاحبين الحاشية الملكية، حيث لم يكن الملك نفسه يقيم في قصر معين، كل تلك العوامل خلقت عائلة هشة تكره بعضها، مما فتح الباب على مصراعيه أمام التمردات والعصيان فيما بعد.
بينما كانت الأم اليانور أيضا منشغلة عن الأبناء وكانت تتركهم لصالح جولاتها في فرنسا وفي أملاكها، واحتفظت بحكمها لأكبر وأغنى مقاطعة في فرنسا، وكان عليها مسؤوليات كبيرة كحاكمة، وكانت أيضًا محبة للحفلات والغناء والصخب، وعملت على تزويج أبناء وبنات النبلاء بمعرفتها لتضمن ولائهم بعد ذلك ، كما عانت هي الأخرى من تجاهل زوجها وسوء معاملته، فما إن وصلت سن اليأس سريعًا ولم تعد قادرة عن الإنجاب، لأنها كانت تكبره سنا كما ذكرنا، تركها وذهب لعشيقاته الأصغر سنًا، ومن بينهن “آليس” ابنة ملك فرنسا وخطيبة ابنه ريتشارد.
لكن ريتشارد الصغير كان ضحية صراع آخر بين أبيه وأمه، فقد اختصته اليانور لنفسها وكان الابن المفضل لها، ومع تقدمه في العمر لازمها في كل مكان وأرادت إبعاده عن أي تأثير لوالده، وقامت بتحضيره من الصغر ليكون خليفتها في حكم مقاطعة Aquitaine، وعلمته الغناء والآداب والفنون وتربى على الطريقة الفرنسية المترفة . ولم يستطع ريتشارد النضوج عن الارتباط بأمه وقربها منه، مما أثر بعد ذلك في شخصيته.
الدوق الصغير
في عام 1169 عندما كان ريتشارد بعمر ال12، حصل على لقب دوق آكويتاين، وتم تنصيبه رسميًا في ال15، وتذوق لأول مرة طعم الحرب والقتل والخراب، بعدما اصطحبه والده فى رحلة للقضاء على بعض التمردات والعصيان بين النبلاء في فرنسا، وتعلم الصيد أيضًا، الرياضة المفضلة له خلال حياته، والتي عشقها لأنها روت ظمـأه للقتل والدماء.
من بعدها اهتم ريتشارد بتدريباته وتعلم استخدام السيف والفروسية، وترك حكم المقاطعة لوالدته التي اهتمت بالجوانب السياسية، التى لم يكن مزاج ريتشارد يتحملها طوال حياته، ولكنه عشق الغناء والشعر والفنون بشكل عام خلفا لوالدته، وكان يعرف بالمحارب الشاعري .
كذلك أرادت والدته تأمين منصبه من مكر والده، فقامت باصطحابه في رحلة حول المقاطعة، وجعلت النبلاء يقسمون الولاء لابنها المفضل، ومن أجل القضاء على أي ادعاء بأنه أجنبي ولا ينتمي للمقاطعة مثل والده مثلًا، اصحبته لمدينة Limoges حيث قام رجال الدين والأسقف بوضع إصبع الدوق الصغير في خاتم القديسة الشهيدة St Valérie القديسة الحامية للمدينة، في احتفال تم تنصيب ريتشارد كزوج رمزي للقديسة، وجعلته يقسم الولاء لزوجها السابق ملك فرنسا باعتباره الحاكم الشرفي لكل المقاطعات الفرنسية ويدينون له بالولاء، مما سيصعب الأمور على والده إذا أراد بعد ذلك خلع ريتشارد من منصبه.
خلال السنوات التالية، اختفى ريتشارد تمامًا من الصورة ولم يكن له أي دور في الحكم، ويعتقد أنه كان دائم التدرب بالسيوف والقتال، لكن تظل تلك الفترة لغز في حياته، حيث كانت أمه توقع على القرارات والإعلانات الخاصة بالدوق بدون وجود لتوقيع ريتشارد الدوق نفسه، حيث كان يشعر بملل من تفاصيل الحكم الإقطاعي، وحتى عندما كان يوقع أي وثيقة، كان لا بد أن يؤكدوا الأمر من أمه اليانور بعد ذلك .
ظلت الأمور على حالها واستمرت الخلافات واستفزازات الأب وطمعه، وظلت حياة ريشتارد كما هي، حتى وصل لسن ال16 وكان بوقتها قد أصبح رجلًا بمعايير العصر، وفارس بعيون زرقاء ثاقبة وشعر أحمر يميل للشقرة وطول فارع فوق المتوسط، وجسد محارب قوي، فكانت المرحلة القادمة من حياته هي الإشتراك في تمرد عام 1173 ضد والده هنري الثاني، بقيادة شقيقه الأكبر هنري ومباركة والدتهم اليانور، ليكون التمرد الأول في سلسلة من الحروب الأهلية، التي ستنتهي بريتشارد قلب الأسد ملكًا على إنجلترا في 1189.
بعد أن انتهى ريتشارد من جمع من الأموال اللازمة، والتعاقد على بناء السفن، وتجهيز الجيش، وبعد أن قام -حرفيًا- بتفريغ إنجلترا من الثروة، وباعها للأغنياء من النبلاء، واستنزف العامّة عن طريق ضرائب الحرب، وتَرْك البلاد في يدِ شبه مجلس حكم، ليرأسه أحد مساعديه أسقف Ely “لونجشامب” ليحكم الجنوب، والذي كان شخصًا صعبًا ومكروهًا؛ وذلك ليضمن ولاءه، وأنّه لن يلتفّ خلفه النبلاء ويشكل تهديد للملك، كما ضمَّ كذلك أمه “اليانور” كملكةٍ بالإنابة، وأسقف مدينة Durham “هيو” يحكم الشمال، وأراد منع شقيقَيه “جون” و”جيوفري” من المكوث في إنجلترا، خوفًا من طمعهم، لكن والدته أقنعته بالعكس.
انطلق ريتشارد في رحلةٍ دمويّةٍ في الطريق حتى قبل الوصول، تخلّلتها صراعات ومشاكل، وبدأ رحلته إلى صرح المجد، ومصنع العظمة على الأراضي المقدّسة، حاملًا سيف المسيحيّة، ومُدافِعًا عن قبر المسيح -على الأقل من وجهة نظره- من أجل استعادة القدس من صلاح الدين الأيوبي بعد عودتها للعرب في 1187م.
الطريقُ إلى الأراضي المقدّسة
بالطبع لم تكن رحلة ملك مثل ريتشارد، بسمعته السيئة العنيفة وشخصيته المتعجرفة والمتكبّرة، لتسير بتلك السهولة، بل كانت مغامرة في حد ذاتها، ربما كان ليكتفي بها ملك آخر ويعود إلى بلاده، لكن ليس أشهر ملوك إنجلترا.
بحلول 1191م، كان الاتفاق مع “فيليب” ملك فرنسا بأن يرسل ريتشارد أسطولَه البحريّ إلى مدينة مارسيليا في جنوب فرنسا، على أن يقود الجيش خلال الأراضي الفرنسية ويقابلهم هناك، ثم يتّجه للأراضي المُقدَّسة، على أن يتّجه فيليب بجيشِه إلى مدينة “جنوى” في إيطاليا، لاستئجار أسطول ينقل جيشه؛ لأنّ فرنسا لم تملك أسطول في تلك الفترة، فلم تكن أراضي الملك تطلّ على أيِّ سواحل.
على الجانب الآخر، كان من المفترض أن يكون الجيش الألمانيّ قد وصل بالفعل إلى هناك بمائةٍ وخمسين ألف مقاتلٍ، وحقّق بعضَ الانتصاراتِ على الأتراك، لكن الإمبراطور العجوز “فريدريك باربوسا” أوّل مُلَبّي نداء الحملة الثالثة، كان قد تُوفّيَ غرقًا في تركيا أو سوريا، إمّا أثناء استحمامه في إحدى الأنهار، أو أنّ جسدَه العجوز لم يتحمّل صدمة الماء، أو أنّه سقطَ في النهر عن حصانِه، وغرقَ بحمل درعه؛ ممّا تسبَّبَ في عودة أغلب الجيش، إلّا مجموعة صغيرة بقيادة ابنه، لم تتعدَ 8000؛ مما عقَّدَ مهمةَ الحملة قبل البداية، وأفقدها حليفًا قويّ كان صلاح الدين قد خشي حضوره مع ملكَي إنجلترا وفرنسا، ولم يكن له القدرة على أن يواجههم معًا، لكن حدثت المعجزة.
لم تواجه الفرنسيين مشاكل في الطريق، فكلّها كانت من نصيب ريتشارد وجيشه، فبعد تحرُّك الأسطول الإنجليزي، واجهته رياحٌ عاتية وعواصِفٌ دمّرت بعض السفن، وفرّقت الآخرين في البحر، فتوقّفوا قرب البرتغال وأسبانيا لالتقاط الأنفاس، حتّى طلب منهم ملك البرتغال مساعدته في قتال العرب القادمين من المغرب، مقابل كنوز من الذهب، وبحجّة أنّهم أصدقاء العرب في القدس، وأنّ مساعدته جزء من الحملة الصليبيّة، لكن سرعان ما نشَرَ الإنجليز الخرابَ والدمار حين وصلوا، حتى طلب منهم الملك المغادرة فورًا، فعادوا لطريقهم.
بينما قاد ريتشارد جيشًا عظيمًا على الأرض، ووصل إلى مارسيليا، لم يجد أسطوله قد وصل بعد؛ وذلك بسبب العاصفة وأحداث البرتغال، فتأجّلَ الانطلاقُ عدّة أشهر، خاصةً مع وفاة زوجة ملك فرنسا، واضطراره للعودة مؤقتًا، لكن ريتشارد لم ينتظر الأسطول كثيرًا، فقام باستئجار بعض السفن من المدينة، وتحرَّك ببعض جنوده، على أن ينتظر الآخرون قدوم الأسطول، وتوجّه لمدينة “مسينا” في صقلية، حيث كانت أخته زوجة الملك هناك.
أخذ وقته في زيارة كلّ المدن في طريقه، كأنه في رحلةٍ سياحيّة، حتى أنه قرّر استكمال طريقه على الأرض وإرسال السفن في البحر؛ لأنه أحَبَّ السفر على الأرض والاستمتاع بمعالم المدن. عندما وصل مدينة “كالابريا” سَيرًا على الأقدام مع عدد صغير من التابعين، دخل في خلافٍ مع أهل المدينة؛ فقد سمع عن أحد العامة يصطاد بالصّقور، فغضِب لأنها كانت عادة الأمراء والفرسان، وقرّرَ أخذ الصقر من الرجل عنوةً، فصرخ الرجل يطلب المساعدة من القرية، وسريعًا تجمَّع الناس من القرى القريبة وطاردوا ريتشارد بالعصا والحجارة، حتى انكسر سيفه في مواجهتهم، وبصعوبةٍ تمكَّن من الهرب، واضطرّ في النهاية لإعادة الصقر لصاحبه، وقرّرَ الذهابَ مباشرةً إلى أخته بلا تأخير مجدّدًا.
احتلال ريتشارد لمسينا
دخل ريتشارد ميناء “مسينا” بأسطوله كاملًا بعد وصوله، وأمر بنفخ الأبواق وإقامة احتفالات موسيقيّة على السُفن، كأنّه عائد إلى بلاده بعد الانتصار؛ ممّا أثار حنق وخوف سكان صقلية وحليفهم ملك فرنسا، الذي وصل هناك بالفعل قبل ريتشارد، وبدأ يشعر بالغيرة من قوّة جيش ريتشارد، وقرَّر الرحيلَ فورًا تفاديًا لأيّ مناوشاتٍ مع الملك المغرور. عندما وصل ريتشارد لوجهته، وجد شقيقته سجينة بعد وفاة زوجها الملك، وأنّ شخصًا آخر قد تولّى الحكم عنوةً، فشكر ريتشارد الربّ على فرصةٍ أخرى للحرب، وبدأ الاستعدادات لإرواء عطشه من القتل، فأرسل للحاكم يطالب بأخته، ففزع منه وأرسلها فورًا، وطلب من ريتشارد التفاوض، لكنه رفض وقرّر القِتال فورًا، فقام بإقامة القلاع، وحوّل الدير إلى حصن، بعد طرد الرهبان من داخله، ووضع الجيش والإمدادات في الداخل، كما هرب الحاكمُ إلى مدينةِ “باليرمو”. بعد وصول ريتشارد للعاصمة، وقعت سلسلةُ خلافاتٍ بين الجنود وأهل المدينة؛ ممّا أدّى إلى مواجهاتٍ بين الطرفين، حتى توسَّطَ ملك فرنسا وكاد الصلح أن يتم، لولا أنه خلال اجتماع الصلح سمع ريتشارد أهلَ المدينةِ يهينون اسمه، فخرج في غضبٍ وهاجَم المدينةَ وقتَل من قتَل، كما طارد من حاول الهرب، وفي النهاية رفع أعلامه على أسوار المدينة مُعلنًا ضمّها لسيطرته، لكنّه أنزلَ الأعلام بعد وساطة ملك فرنسا مجددًا وتهديده بكسر التحالف.
استمرّ ريتشارد قلب الأسد في تحصين المدينة ووَضْع جنوده في الداخل، وعندما أرسل الحاكم للتصالح، ردَّ ريتشارد قلب الأسد بشروطٍ تعجيزية، وطلب مبالغَ ضخمة من المال والذهب، وإمدادات من القمح والشعير لجيشه، وألف سفينةٍ محمّلة بالجنود؛ وذلك لمعاونته في الحملة الصليبية، لكن في النهاية، اتّفق الطرفان على تزويج ابنة الحاكم الرضيعة، إلى ابن شقيق ريتشارد صاحب العامين، ودفع 40000 قطعة ذهب لريتشارد قلب الأسد، ودَخَلَا في تحالفٍ معًا لإنهاء الخلاف. بعدها بفترةٍ، أرسل مَلكُ فرنسا خطابًا للحاكم يُحذِّره من غدر وخيانة ريتشارد، لكن الحاكم أطلَعَ ريتشارد عليه، وانتظر اللحظةَ المناسبة لدبّ الخلاف ومواجهة الملك.
قام بإنفاق المال ببذخٍ لمتعته الخاصة، وأرسل هدايا للنبلاء والفرسان من الجيش الفرنسي أيضًا؛ ممّا أغضبَ ملك فرنسا مجدّدًا وأثار حقده، وبعدها أقامَ احتفاليّة دينية ضخمة، وجمع القساوسة والرهبان أمامه، ونزل على ركبتيه ليعترف بالخطايا ويطلب المغفرة، ويَعِد بألّا يذنب مجددًا، وتبِعَه الجنودُ والفرسان.
خلافٌ جديد بين الملكين
اعتمد نجاح الحملة بشكلٍ كبيرٍ على العلاقة بين الملكين، وكلّما توتَّرت العلاقةُ بينهما، كلما ضعفت قوّة الجيوش الأوروبية، لكن الصدامَ كان قادم لا محالة، فبين شابين لا خبرة لهما في المحافل الدولية، ملكين على دولتين بينهما عداوة ومنافسة في الظروف العادية، فما بالك بحروبِ الشهرة والمجد. ربما كانت الحرب باسم الدين -أو بحجة الدين- توحّدهم وتنحي خلافاتهم مؤقتًا، لكنّ غرور وعجرفة ريتشارد واعتداده بنفسه، مع مكر وخبث ملك فرنسا وحقده على ريتشارد، زاد الاحتقان بينهما خلال الطريق، على الرغم من أنّهما أصدقاء منذ الطفولة، وكانت تربطهم علاقات قوية، حتّى أنّه يُقال أنّهما دَخَلا في علاقةٍ عاطفيةٍ في الصغر، لكنّ الخلافَ وصل أوْجُه عندما همّ ريتشارد بالزواج.
كان من المفترض أن يتزوج ريتشارد من شقيقة الملك “أليس”؛ فهو مخطوب لها منذ الصغر، لكنّ والده كان قد منعها عنه طوال حياته، ويُعتقد أنها كانت عشيقته وبادلته الحب، وبعد أن مات والده، انتظر فيليب ملك فرنسا أن يتزوج ريتشارد الأميرة، لكنه راوغ وتهرَّب أكثر من مرة، ولم تكن له رغبة في إتمام الزواج، خاصةً إذا كانت فعلًا عشيقة والده، وسبب آخر أهم، هو أن ريتشارد كان قد قابل أميرةً إسبانيّة ووقع في حبِّها، وأرسل والدته بالفعل لخطبتها قبل انطلاقه في الحملة. والآن، قد وصلت إليه في مدينة مسينا، لكن الملك لم يقبل ذلك، وأصرّ على إتمام الزواج، وهدّد بكسر التحالف وإعلان الحرب على ريتشارد، ووقع خلافٌ كبير بينهما.
لكن في النهاية رضخ فيليب لريتشارد قلب الأسد، بعد أن تمكن الأخير بشكلٍ ما من إثبات العلاقة بين والده وخطيبته، واتّفقوا على دفع ريتشارد مبلغ ضخم من المال، وإعادة عدد من القِلاع للملك الفرنسي، والتي كانت مهرًا لشقيقته، وهدأ الوضعُ مؤقتًا بينهما، بينما تزوج ريتشارد قبل التحرك مجددًا.
العدوان على قبرص
بعد انطلاق الأسطول مجدًّدا، قامت عواصفٌ فرّقت السفن في أنحاء مختلفة إلى جزر قبرص وكريت ورودس. ريتشارد ومعظم السفن وصلوا إلى رودس، بينما ثلاثة سفن إلى قبرص، وصلت منهم بسلامٍ للميناء السفينةُ التي تحمل شقيقته وزوجته، وتحطّمت الأخرتان، حتّى أن الحطامَ وصل لشواطئ قبرص، فهبّ الناس للاستيلاء على أي شيء في الحطام، طبقًا للقانون بتلك الفترة، الذي ينص على أن الدول البحرية لها الحق في مصادرة أي حطام على شواطئها باسم الملك، بينما لم تعلم سفينة الملكة ما حدث لريتشارد قلب الأسد.
أرسل ملك قبرص للسفينة يعرض استقبال الملكة والأميرة، لكنهم رفضوا، وفضلوا انتظار ريتشارد، بعدها شعروا بالخطر في ظلّ غموض موقف ريتشارد، ولاحظوا تحرُّك سفن مسلحة تجاههم من قبرص، ويُقال إنّهم حاولوا القبض على الملكة والأميرة، فأسرعوا خارج الميناء، وانتظروا بعيدًا عن الجزيرة، ولم يطاردهم ملك قبرص.
بعدها تختلف المصادر، إما كان ملك أو إمبراطور قبرص طاغية ظالم، أو ضحية مظلوم، لا معلومة مؤكدة، على أيِّ حال، حين وصل ريتشارد بعدها بالأسطول، وجد سفينةَ زوجته وشقيقته خارج الميناء في مياه خطرة وأمواج قوية، فجنَّ جنونه وأسرع نحوهم، وحين أطلَعُوه على الموقف وسرقة حطام السفن، اشتدّ غضبه وثورته، وأرسل يطلب تسليم الحطام بما فيه من كنوز، لكنّ الملك رفض طبعًا بحجة القانون (أو أنه وافق ثم نقض عهده بعدها).
فجاءت فرصة ريتشارد قلب الأسد مجددًا للقتل والخراب، بشكل ما تلاحقه مثل تلك النزاعات، أو هو يلاحقها، أيهما أقرب. وبالفعل بدأ الاستعداد للحرب، وسريعًا، هزمَ ريتشارد أسطولَ قبرص، واستولى على الميناء بدون مقاومة تذكر؛ حيث ذهب النبلاء والحكام يطلبون مساعدة ريتشارد ضد ملكهم لظالم (طبقًا للمصادر الإنجليزية) حينها طلب الملك التفاوض.
فشل التفاوض بالطبع، واستمرّت الحرب، ودخل ريتشارد العاصمة وأخضعها بسهولة، بينما هرب الملك إلى الجبال، وطلب التفاوض مجددًا، عرض ريتشارد شروطًا تعجيزية، وأراد من الملك مشاركته في الحملة الصليبية بجيشه، ووضع ابنته أسيرة مع ريتشارد لضمان التزامه، وافق الملك على مضضٍ، لكنّ ريتشارد أحسَّ بنية الهرب، فخالف قواعد الشرف، ونقضَ عهد الهدنة، وقبض على الملك، لكنّه هرب ليلًا، ثم ذهب ريتشارد على رأس أسطوله يستولي على باقي المملكة، ويصادر أي سفينة أو مركب يجده.
في النهاية، أمسكَ ريتشارد قلب الأسد بالملك وابنته، التي أعطاها لزوجته كخادمة، أما الملك فقد سُجِن في مدينة طرابلس في لبنان لأربع سنوات حتى مات مكسور الفؤاد على ابنته، وضمّ ريتشارد قبرص إلى مملكته، على الرغم من أن الملك كان مسيحيًا أيضًا، ولا يجوز القتال بين المسيحيين خلال حملة صليبية من أجل الكنيسة، لكن قبرص كانت تابعة للكنيسة الأرثوذوكسيّة الشرقية، بينما إنجلترا كاثوليك، ولم تكن العلاقة جيدة بين الكنيستين، فكانوا شبه أعداء في الأساس. لتكون تلك آخر مغامرات ريتشارد قلب الأسد في الطريق، ومحطته القادمة في السواحل العربية، وحصار عكا.
المحطة
إضافة تعليق جديد