حكاية الماء في كَسَب وحكاية كسب في التاريخ والجنون الجيوفيزيائي
الجمل- غازي أبو عقل: قبل الدخول إلى متاهات تاريخ مياه كَسَب، لابد من الإشارة إلى ما كتبه الأستاذ نصر الدين البحرة في «سلامات» تشرين الدمشقية يوم الثاني من أيلول من العام الثامن بعد الألفين، بعنوان: « كَسَب والسياحة» عندما خطر بباله القيام بجولة بين القاموسين العربي والتركي لاكتشاف مصدر تسمية كَسَب، فوقع في القاموس العربي على فعل كَسَبَ، وهذا لا يحتاج إلى مراجعة أي قاموس؛ ووقع في القاموس التركي على كلمة قَصَبة KASABA بمعناها العربي أيضاً. ثم استعان بالمغفور له -حتماً- المتنبي لكي يوثّق اشتقاق اسم كَسَب بمعنى ربح العلم والكَسْب المعنوي.
لئن كان المتنبي غير مبالٍ بعد إدراكه العُلا، أكان تراثاً ما تناوَل أم كَسْباً... فإن أستاذنا البحرة نهج نهجه ولم يُبال هو الآخر بسلوك طريق لم توصله إلى بغيته وهي جلاء معنى أو مصدر اسم البلدة المعروفة القائمة على سفح جبل صافون، كاسيوس، الأقرع (هذه أسماء الجبل من أيام أوجاريت إلى اليوم)والتي أصبحت الآن "مدينة" لا تضاهيها فوضى وبشاعة معمارية إلا اللاذقية.
ينبغي البحث عن أسماء المدن والقرى في معاجم البلدان أو في كتب التاريخ، ففي يوميات الحملة الصليبية التي انطلقت في 1096م، وفي أحداث العام 1119م، يرد ذكر البلدة موضوع البحث باسمها اللاتيني القديم CASAM BELLAM أي البيت الجميل. أما المؤرخ الفرنسي القديم «جيسوُّم دوتير» أي غليوم الصوري، نسبة إلى مدينة صور، فقد كتب اسمها بالفرنسية القديمة CASA BELLE بالمعنى نفسه أيضاً. و"كازا" قد تكون جاءت من قصر أو قصبة في العربية، كما وجدها الأستاذ البحرة في القاموس التركي، (فهل رشحَتْ الكلمة من لغتنا إليهم أو منهم إلينا، ليس في الأمر أهمية). أضيف أن السيد جيسوُّم الصوري ولد في سوريا 1150م وتوفي في روما 1185م وهو مؤرخ ومطران صور، كتبَ يوميات الشرق اللاتيني في القرن الثاني عشر.
لما جاء العرب حُرِّفت كازابل إلى كسب، كما أصبحت لاوديكيا –اسم أم الجنرال نيكاتور- اللاذقية، غير ذات معنى، والتي أقترحُ إعادة اسمها الأصلي إليها: لاليش فهو أرق وألطف على الأقل، شرط الانتباه إلى عدم الوقع في الخطأ الذي ارتكبه أصحاب فندق معروف في "اللاذقية" الذي ظنوا الكلمة إنكليزية المنشأ فسموا الفندق لاليتش...
هنالك بعض التقارب بين البحث عن جذر اسم كسب، وبين البحث عن أسباب أزمة الماء فيها، كما سنقرأ. كما لا بد لي من التنويه بأن المعلومات الجيوفيزيائية والهيدروليكية التي سأبني عليها "أطروحتي" لم أبحث عنها في قواميس اللغة، بل استقيتها من الأستاذ الدكتور فارس شقير، رئيس قسم الجيوفيزياء السابق في كلية العلوم، جامعة دمشق، وعضو لجنة استثمار المياه في بقين والدريكيش في أواسط سبعينات ومطلع ثمانينات القرن العشرين، أيام كنت رئيساً لهذه اللجنة. حيث كان الدكتور شقير يستعين بين أشياء أخرى، بالخريطة الجيوفيزيائية التي رسمها السوفيتيون لسوريا منذ ستينات القرن الماضي على ما أعرف. تشير الخريطة إلى وجود خزان مائي في الجبل الأقرع، وهي مياه لم تتعرض للتلوث لعدم وجود أي نشاط عمراني أو زراعي في الجبل، لأنه شكّل حديثاً أرضاً حدودية محظورة.
توجد أدلة ملموسة على وجود الماء في الجبل فوق كسب، ولا يصدق كثيرون من سكانها الأمر إلا إذا ذَكّرتهم أنهم حتى العام 1939م كانوا يُعَمِّدون أولادهم في موقع بَلُّوم، وهو بقايا معبد وثني قديم صار إلى كنيسة بسبب وجود نبع ماء غير بعيد عن قمة الأقرع -كاسيوس-. وأن كسب شربت دهوراً من نبعها الواقع فوق البلدة القديمة إلى جهة الشمال الغربي على سفح الجبل حيث ما زالت توجد بعض أشجار الجوز رغم إدخال ماء النبع إلى واحد من خزانات البلدة التي تغذي شبكة المياه فيها. وماء هذا النبع "خفيفة" هاضمة قليلة العُسْر لأسباب جيولوجية واضحة. فإذا أضفتَ لإقناعهم أن ماء بلدة النبعين (إكي زولوك) ينبع فوقها لا تحتها، وأن نبع شالما يوجد في مكان مرتفع في الكتلة الجنوبية الغربية التي انفصلت عن الجبل نفسه، نتيجة زلزال قديم، وسُمّيت كتلة «آنتي كاسيوس» حيث يخرج نبع آخر ينحدر في الجبل ويظهر فوق بلدة البدروسية على ساحل البحر، بعد هذه الحجج الملموسة يقتنع بعض عجائز كسب أن مياههم فوقهم لا تحتهم حيث ذهبت «البلدية» ومؤسسة المياه للحفر في السهل المسمى دوزاغاج قبيل مركز الحدود السورية التركية، حيث تتجمع في هذا الوادي مياه الأمطار التي تجرف معها من السفوح والتلال المحيطة بقايا المبيدات الكيماوية التي تُعالج بها أشجار التفاح. وإذا علمنا أن «المنزل الجميل» غير مجهز بمحطة لمعالجة مياه الصرف الصحي إلى اليوم، وأن الكهاريز تنتهي في مكان غير بعيد بمسافة كافية عن آبار دوزاغاج، وأن تربة سفوح كسب كتيمة مشكلة من "القيرق" وهو تراب البَيْلون تسهل انزلاق المياه وانزياح التربة أيضاً إذا كانت الأمطار غزيرة، أدركنا ضرورة البدء بحماية مصادر المياه الجوفية بإنشاء محطة معالجة.
تفاقمت أزمة ماء الشرب في كسب مع موجة البناء بالعشوائي مع أن المياه لا تُفتح في كل خط تغذية إلا مدة أربع ساعات وتُقطع عشرين ساعة. قامت الجهات المعنية بمحاولة العثور على مصدر تغذية رديف لكنها لم تتوجه للبحث عن خزان الماء القريب في الجبل الأقرع، بل ذهبت إلى بحيرة بلوران التي نِشأت بعد إقامة سد سطحي ركامي على نهر بلوران، البعيد نحو أربعة وعشرين كيلومتراً عن كسب. فَحُفِر خط جر يغذي أيضاً البلدات الواقعة على مساره. تم حفر نصف المسافة ووضعت الأنابيب في خندق المسار، ثم توقف العمل فجأة. وقيل يومئذ أنه صرف النظر عن هذا الحل. هذا ما تناقله الناس لأننا لم نقرأ أي توضيح للأمر في جريدة المحافظة "الوحدة" الصادرة في لاليش. واستمر التوقف نحو عامين، ثم عاد العمل بالمشروع إلى أن وصلت مياه البحيرة إلى خزانات كسب التي بقيت تنتظر سنوات. لن أتحدث هنا عمّا وجدوه في الخزان أثناء تنظيفه بعد سنوات من الإهمال، وذلك لغرابة المكتشفات.
تقع بحيرة بلوران بين تلال حراجية تشكل نقطة جذبٍ سياحية جميلة جداً، سرعان ما تكاثرت حولها "المقاصف" التي ترسل مياهها المالحة جداً إلى البحيرة لتغذية الإصبعيات السمكية التي وُضعت في البحيرة. كما أن مخلفات القرى الواقعة على التلال تتجه بحكم الجاذبية وموال الأرض إلى حوض البحيرة، ولما كانت عمليات "التصفية" والتكرير والتعقيم تشكو على ما يبدو من مصاعب تكنوقراطية، فإن المياه تصل إلى بيوت المنزل الجميل "ملونة" بألوان قوس قزح ليس بينها اللون الأزرق الشفاف، مع أن الماء في التعريف لا لون له ولا طعم ولا رائحة، إلا في كسب حيث يتمتع بهذه الصفات كلها.
حاولت أكثر من مرة ملء عبوات فارغة من حنفية البيت "غير الجميل" وأخَذتها معي إلى مقر الإدارة الفرعية المهتمة بالماء لكي يشاهدها كبير المسؤولين في الفرع، ولكني لم أحظ بلقائه (لأنه دائماً في ميدان العمل على الأرض).
ينبغي التوقف هنا عند نقطة حساسة تشرح أسلوب تفكير المسؤولين عن الخدمات العامة، والماء أكثرها أهمية كما نعرف.
مع بدء العمل في حفر قناة جر مياه بلوران إلى كسب، قامت المؤسسة المعنية ببناء مًقرّين يتألف كل منهما من طابقين في بلوران وفي كسب، خُصص الطابق الأرضي للموظفين، أما الطابق الأعلى فتم تجهيزه "كاستراحة"، وهي منزل كامل مفروش بما في ذلك صحن استقبال الفضائيات. نفقات "الاستراحتين" بناءً وتجهيزاً، أُخذت من أموال دافعي الضرائب الذين يسددون قيمة اشتراكهم بعدادات المياه بالتسعيرة "السياحية" لأن مؤسسة المياه تعتبر كل من له بيت في كسب "سائحاً" ولو كانت إقامته الأصلية في حي الشحادين في اللاذقية (لاليش سابقاً).
تزويد كسب بالمياه من بلوران ومن دوزاغاج، لم يؤدي إلى حل الأزمة، فما تسبب في استمرار الآثار الجانبية لنقص المياه على الصعيدين المادي والبيئي. فبالإضافة إلى عدم نقاء المياه كما أسلفنا، ينبغي إضافة الضجيج والتلوث، وقد يتساءل بعضنا ما صلة الماء بالضجيج وتلوث البيئة؟
تعاني بساتين التفاح في قلادوران وإكي زولوك وبفجفاز –الواقعة بعد كسب- إلى الجنوب الغربي، من شح المياه في أشهر الصيف حزيران وتموز وآب، بخاصة، وهي في الوقت نفسه أشهر الذروة سياحياً. حيث تزدحم المنازل والطرقات –بعد تزايد السيارات- وتتضاعف الحاجة إلى الماء. فتزدهر عندئذٍ حركة الجرارات الزراعية التي تقطر المياه المتنوعة الحجام، التي تتزود بالماء من آبار القطاع الخاص في وادي دوزاغاج بأسعار جيدة، وتنطلق متسلقة مسافة تتراوح بين ستة وعشرة كيلومترات، وتصل إلى ارتفاع قد يتجاوز الثمانمائة متر، مع كل ما يواكب ذلك من ضجيج فظيع ونفث للدخان الأسود الكثيف والكريه الرائحة، فإذا علمنا أنها تعمل ليلاً ونهاراً طوال أشهر الصيف "السياحية" أدركنا مدى عرقلة حركة المرور واحتمالات الحوادث وتلويث الجو وتنغيص حياة المصطافين من الفجر إلى الفجر.. بخاصة وأن جو كسب المشهور بكثرة الأوكسجين فيه بسبب غلبة أشجار الصنوبر بدأت هذه النسبة بالتناقص تدريجياً لتفاقم حرائق الغابات، بخاصة في صيف وخريف العام 2007م دون التوقف عند التلوث الذي أحدثه مسلسل ضيعة ضايعة (قل هذا يحتاج إلى حكاية أخرى..) كما أنني لن أتوقف عند الإشاعات التي تنطلق كل صيف لتربط أسباب انقطاع الماء ببعض العاملين في الخدمة العامة ومعهم أصحاب الجرارات والصهاريج وسائقوها لرفع أسعار ماء الصهاريج تبعاً لقانون العرض والطلب.
أيام كان اللواء حسن شهوان محافظ اللاذقية، قام في بداية تعيينه بتفقد منطقة كسب، وكنتُ هناك والتقيته، وشرحت له موضوع المياه وضرورة الاستفادة من حوض جبل الأقرع. فوافق على منح البلدية مئة ألف ليرة -يومئذ- لحفر بئر تجريبي، بعد الاستعانة بالدراسة المناسبة لكن المسؤولين عن الخدمات العامة هناك لم يبادروا إلى التجربة رغم كونها أكبر برهان.
علمت منذ سنوات قليلة، وأنا أتحدث إلى واحد من العاملين غير المسؤولين في مياه كسب، لأنني لا أعثر فيها على مسؤول –لسوء حظي- علمت أنهم لا يحفرون بحثاً عن الماء إلا استناداً إلى توجيهات هيئة الاستشعار عن بعد... فتفاءلت لهذا التوجه العلمي المعاصر ولم ينصرم ذالك العام إلا وقد حددت هيئة الاستشعار مكاناً يقع فالق أسفل سفح الأقرع.. جاء الحفارون والحفارة، وفرحنا لكن ما شربنا. لأنه بعد سنتين من الحفر والوصول إلى عمق نحو ثلاثمائة متر لم تظهر المياه. هل أقول لأنهم حفروا تحت "الحوض" المفترض؟ المهم أن الحفارة بقيت بعد الحفر في مكانها شهوراً طويلة قبل ترحيلها، أما الأنابيب فأقامت مدة أطول لترتاح من تعب الحفر في الصخر.
يبدو أن تَرك الأدوات الثقيلة في أماكن العمل بعد الانتهاء منه، عادة منتشرة في المنزل الجميل. فعلى طرق، قلادوران، المؤدية إلى موقع تصوير ضيعة ضايعة، نكتشف أولاً في موقع مقلع أحجار شبه رخامية، هجرته الشركة العامة المسؤولة –لأسباب غير عاطفية حتماً- رافعة كبيرة جداً ذات أذرع متمفصلة، لم يجد أحد من المناسب تفكيكها ونقلها إلى موقع آخر، ربما لأن شراء رافعة جديدة أسرع وأيسر. وبعد المقلع المهجور تقبع مَدّادة إسفلت إلى جانب الطريق منذ نحو خمس سنوات، بعد أن أسهمت مشكورة في "تزفيت" تلك الطريق. بعد هذا الخروج عن الموضوع، لابد من العودة إليه، بخاصة وأن إجازات البناء في "كازابل" وضواحيها ضربت رقماً قياسياً في عام 2007م و2008م، وارتفعت العمارات ذات الطوابق الستة والثمانية كالفطر البري، فوق التربة "المتحركة". وكل منها تضم عشرات الشقق التي لابد لسكانها يوماً من أن يشربوا، إلا إذا حدث زلزال –قبل سكناها- تصل شدته إلى خمس درجات ريخترية أو أكثر.
يبدو أن الخروج عن موضوع المياه يغري بذكر حكايات أشد غرابة، منها أن أحدهم رفع عمارة إلى جوار الطريق –وأكل قطعة من الطريق- إلا أن المهم ليس هنا، بل أن أحد الجسور العرضية الذي يجب أن يتشبث بالتربة، خذلته التربة وانزاحت من تحته، فما كان من صاحب العمارة إلا أن سارع إلى إهالة بعض التراب في الفراغ، تاركاً للمطر –لا للهزات الأرضية- مسؤولية إعلان الفضيحة والاستهتار بأرواح الناس.
إن أزمة المياه في كسب مرشحة للتفاقم مع توسع "العمران"، ولا أجد سبباً مقنعاً يحول بين علماء مؤسسة المياه وموظفيها الأقل علماً من مجرد القيام بتجربة للبحث عن الماء في سفوح الأقرع. توجد في لاليش صحيفة محلية، كما أسلفت، تكتب كل صيف عن أزمة مياه كسب، لكنها كتابة فولكلورية لا تمس جوهر الأزمة، مثلها مثل مسلسلات آخر زمن التي تصوم السنة بطولها وتُفطر في رمضان... أعرف أن المنطقة كلها تمر بمرحلة "تصحر" لكن المنزل الجميل لديه احتياطي مائي ونسبة أمطار ما زالت معقولة، فلماذا الحكم عليه بالعطش؟ لست أعني بالمنزل الجميل الدارتين الجميلتين اللتين ابتنتهما مؤسسة المياه من أجل تمديد حلقات مسلسل حكاية المياه في كسب...
الجمل
للكاتب أيضاً:
يطلبون رأسَ "الحُرَّة" ... لماذا ؟
حساب ذهني: "قَرن روسي، من لينين إلى ﭙـوتين"
عصر امبراطورية "أوپيك" أم عصر أمبراطورية بيلدِربيرچ"؟..
غازي أبو عقل: مَن أُصَدِّقُ.. مناحم بيجن أم جهاد الخازن ؟
غازي أبو عقل: نقد "النقد الذاتي بعد الهزيمة" (4-4)
التعليقات
وينك يازلمة لهلق
إضافة تعليق جديد