جيفارا سينمائيا: ثوري حالم أم ثائر برجماتي؟
"- ما هي أهم صفات الثوري؟"
"- الحب."
إجابة غير متوقعة من قائد ثوري مثل أرنستو تشي جيفارا، لكنها لا تبدو غريبة وفق ما نراه في فيلم المخرج الأمريكي ستيفن سوديربيرج "تشي: الجزء الأول".
فالطبيب الأرجنتيني الذي تحول الى رمز للثورة حول العالم، حتى أصبحت صورته سلعة تجارية منتشرة على القمصان والقبعات والأكواب والأقلام، يمكن رؤيته في الفيلم من خلال قرائتين.
القراءة الأولى هي لشخصية ملائكية حالمة بعيدة عن التعطش للدماء أو الدموية. وهذا هو ما حاول سوديربيرج أن يؤكد عليه في الجزء الأول من عمله الملحمي عن جيفارا، والذي بناه بالكامل على يوميات الثائر الارجنتيني التي تحمل اسم "استعادة أحداث الحرب الثورية الكوبية"، والتي يروي فيها تجربته في القتال تحت راية فيدل كاسترو من أجل إسقاط نظام الدكتاتور فولهنسيو باتيستا في كوبا.
يبدأ الفيلم بحوار تجريه صحفية أمريكية مع جيفارا أثناء زيارته الى نيويورك عام 1964 ليلقي خطابا أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة. يستمر الحوار طيلة الفيلم، لنرى تجربة جيفارا في حرب العصابات التي أطلقها كاسترو عبر أسلوب الفلاش باك. وأثناء الحوار الذي صوره سوديربيرج بالأبيض والأسود وعبر كاميرا محمولة باليد، نسمع جيفارا متحدثا حول فلسفته الثورية وعلاقته مع كاسترو وذلك بموازاة الرجوع الى الأحداث التي مر بها أثناء حرب العصابات التي خاضها عامي 1957 و1958 وانتهت بسقوط نظام باتيستا وانتصار الثورة.
نسمع جملا مثل تلك التي قال فيها إن أهم صفات الثوري هي الحب ونرى مشاهد تظهر لنا تعامله النبيل مع رفاقه في القتال ومع القرويين الذين يهتم بتطبيبهم. حتى عندما نراه وهو يعدم رفيقين استغلا اسم كاسترو وشعار الثورة من أجل سرقة القرويين وقتلهم واغتصاب بناتهم، فإنه يعدمهم بعد أن يسمح لهما بطلب أخير.
والمشاهد التي تنقل لنا "ملائكية" جيفارا الثورية كثيرة، ومنها تواضعه المفرط وإنسانيته التي تتجلى حتى في تعامله مع أعدائه من جنود باتيستا ورغبته في عدم إراقة الدماء. هناك مثلا المشهد الذي يحمل فيه ضابط كوبي مسؤولية إراقة دماء جنوده لو لم يستسلم ويلقي سلاحه.
أما الجمل التي تبين لنا فلسفته الثورية فهي أيضا كثيرة مثل قوله لأحد رفاقه: "الشعب الذي لا يعرف القراءة والكتابة هو شعب يسهل تضليله".
هذه الجمل هي التي تفسر لنا العزيمة والاصرار التي نراهما في جيفارا في الفيلم والتي تصل الى حد "الاخلاص الثوري" عندما ينصاع الى أمر كاسترو بترك القتال والاهتمام بتطبيب الجرحى من المقاتلين والقرويين، أو عندما ينصاع مرة أخرى لأمر كاسترو بترك القتال، والحرب قد اقتربت من نهايتها، والاهتمام بتدريب دفعات جديدة من المقاتلين.
لكن كل هذه الجمل والمشاهد والحوارات لا تمنحنا فرصة لرؤية شخصية جيفارا بأبعادها الكاملة. فالاعتماد الكامل على يوميات جيفارا لا يترك مجالا لرؤية سلبياته أو أخطائه أو حتى رغباته الانسانية.
فهو في الفيلم أقرب الى شخصية المسيح في فيلم "آلام المسيح" لميل جيبسون، حيث نرى فيه النقاء والوفاء والاخلاص على المستويين العام والشخصي. فهو المخلص للثورة ضد الطغيان في كل مكان. في أحد مشاهد الفيلم يقول لكاسترو قبل بدء الثورة: سأشارك معك في الثورة في كوبا بشرط أن تتركني بعد نجاحها كي أشعل الثورة في كل مكان في أمريكا اللاتينية. بالطبع ثورته حملته لاحقا الى الكونجو في أفريقيا وانتهت به قتيلا في بوليفيا.
أما إخلاصه الشخصي فنراه عندما تبدي إحدى الرفيقات اهتماما خاصا به وإعجابا شديدا. يتجاهل جيفارا الاهتمام وفي جملة مقتضبة يخبرها بوجود زوجة وابنة له في الأرجنتين. كما أنه يتسامى عن كل المضايقات التي يتعرض لها من بعض الرفاق لجنسيته الأرجنتينية، من أجل إخلاصه لهدف اسمى وهو تحرير الشعب الكوبي من نظام باتيستا.
هذه الصورة التي ينجح بينيسيو ديل تورو في تجسيدها ببراعة على الشاشة، هي التي تجعل من الفيلم "بروباجندا ثورية تحريضية" لكن دون زعيق أو افتعال. والفضل في ذلك يعود الى الواقعية الشديدة التي اختارها سوديربيرج كأسلوب للفيلم. وهي واقعية تصل الى حدود أسلوب الأفلام الوثائقية. وهذا هو ما يجعل الفيلم يقف في المنتصف بين العمل الدرامي والدراما الوثائقية التي تعيد تمثيل الشخصيات وإحياء الأحداث كما وقعت دون إضافة أو إخلال.
- تبدو القراءة الأولى أقرب الى السطح منها الى العمق. ففي إعادة قراءة الفيلم يمكن رؤية شخصية جيفارا وهي أقرب الى البراجماتية والواقعية من المثالية أو الحلم. فهو يعرف لماذا هو هنا في هذا المكان وهذا التوقيت تحديدا وماذا يفعل ولماذا يفعله. يقول للصحفية الاميركية في إحدى إجاباته على أسئلتها: يجب أن تكون مؤمنا بالقضية التي تحارب من أجلها، لأن وقتها فقط يمكن أن تموت في سبيلها.
في مشهد آخر يبدي حزنا على مقتل رفيق له، لكنه سرعان ما يصدر أمرا بأن يدفع جنود باتيستا ثمن مقتل الرفيق وفورا. حتى مشهد إعدامه للرفيقين اللذين ضلا الطريق بدت فيه واقعيته عندما رفض طلب أحد الرفيقين قبل الإعدام بإحضار قسيس له من أجل الاعتراف وذلك لأن إحضار القسيس سيستغرق وقتا أكثر من ما يمكن السماح به. لكنه سمح للرفيق بطلب أخير آخر وهو شربة خمر.
لكن كل هذه الواقعية والبراجماتية لا تمنع من إظهار نبل جيفارا. فمثلا بعد انتصاره في معركة سانتا كلارا واستيلائه على المدينة بأكملها، رفض أن يسمح لأحد رفاقه بالذهاب الى هافانا بسيارة مسروقة وقال له إنه يفضل الذهاب الى هافانا سيرا على الأقدام على أن يذهب بسيارة مسروقة. هذا على الرغم من أن السيارة هي لأحد ضباط باتيستا الذين قتلوا في المعركة.
هذا المزيج بين الايمان الثوري والواقعية ونبل الفرسان هي التي تجعل جيفارا في الفيلم هادئا للغاية وصاحب فلسفة ورؤية، تتبدى في جمل مثل: "لو كره الناس حكومتهم فمن السهل إسقاطها".
كما أن تحولات جيفارا الهادئة من المفكر الثوري الى العمل المسلح، تظهر لنا قدرا كبيرا من براجماتيته وواقعيته. وخلال هذه التحولات التي جرت بهدوء شديد، يقدم لنا الفيلم تفاصيل يومية من حياة جيفارا، قد تبدو غير مهمة للوهلة الاولى، لكنها تمنحنا في النهاية إحساسا بالاقتراب أكثر من جيفارا وبفهمه بصورة أعمق من تلك التي نراها في صورته الأسطورية الشهيرة.
بعيدا عن القرائتين فإن بينيسيو ديل تورو يقدم أفضل دور له خلال مسيرته. فأدائه المتقن لشخصية جيفارا يقترب من الكمال.
أما سوديربيرج فهو ينجح ببراعة في المزج بين المشاهد التي صورها بالأبيض والأسود والمشاهد التي صورت بالالوان. كما يبرع في نقل المعارك التي دارت في الغابات أو المدن الى مقاعد المشاهدين. فتدفق المشاهد وحيوية الحركة تجعل المشاهد في قلب حرب العصابات التي خاضها جيفارا ورفاقه ضد جنود باتيستا. لكن النجاح الاكبر للفيلم هو في تعريف المشاهد بشخصية صاحب أشهر صورة في القرن العشرين.
المصدر: BBC
إضافة تعليق جديد