الكآبة العراقية
قبل سنوات كنت أسمع أن هناك كآبة برتغالية. ولعل هذا من منظور الأوروبيين الآخرين. فالكآبة الفلسطينية قد لا ترد على بالهم، والآن العراقية، منذ عقود من السنين في واقع الحال، ولعلها بلغت ذروة الكآبات. وهل أضيف الى ذلك الكآبة اللبنانية (فلبنان يُستدرج الى مصير قد لا يختلف كثيراً عن مصير العراق).
أنا أعلم أن ما من بلد عربي محصن من الكآبة. لكنني سأتحدث عن الكآبة العراقية، لأنني أعرفها جيداً، ومبتلى بدائها... وفي واقع الحال، أنا مبتل، في المقام الأول، بكآبة المثقفين، التي تحدث عنها أرسطو، والكآبة العراقية بخاصة، والعربية بعامة. في هذا الإطار يسري عليّ، وعلى زملائي المثقفين العرب، قول الجواهري «أنا عندي من الأسى جبل/ يتمشى معي وينتقل»، وقول الموسيقي الإيطالي جياكومو بوتشيني «كنت أحمل معي دائماً حقيبة كبيرة من المانخوليا».
كنا نعاني من الكآبة في العراق منذ أيام العهد الملكي، لأن الدستور كان يُعمل به يوماً ويعطل يوماً آخر، مثل يوم البؤس ويوم النعيم في حكم النعمان بن المنذر. وفي يوم النعيم، أذكر انني حضرت، في 1954، اجتماعاً لمؤتمر الحزب الوطني الديموقراطي برئاسة السيد كامل الجادرجي. وكانت صالة سينما روكسي، التي عقد فيها المؤتمر مكتظة، جلوساً ووقوفاً. لكن الذي حصل أن أربعة صبيان انقذفوا من بين صفوف الحاضرين، واحتلوا المنصة في اللحظة التي بدأ فيها السيد حسين جميل (سكرتير الحزب الوطني الديموقراطي) بافتتاح وقائع المؤتمر، وجعلوا يصرخون، ويتصايحون، ويهتفون بحناجر مبحوحة ضد المؤتمر. وأفشلوا الاجتماع، وفضّ المؤتمر... كان هؤلاء الصبيان المهووسون الأربعة ينتمون الى حزب جديد انقلب على السلطة بعد تسع سنوات واستبد بها طوال العقود الأربعة الأخيرة من تاريخ العراق الحديث. (ومن المفارقات أن أحد هؤلاء الصبيان أصبح في ما بعد روائياً عربياً معروفاً، وقد تنكر لفعلته تماماً، وتخلى عن أيديولوجيا الحزب الذي كان منتمياً إليه).
وفي العام 1954، تمت انتخابات عرجاء في العراق، لكنها ألغيت بعد فوز عشرة مرشحين من المعارضة (كان صوت واحد من المعارضة يخيف الحكومة). لقد ألغى نوري السعيد هذه الانتخابات، بإيعاز من القائم بالأعمال الأميركي، السيد فيليب آيرلاند، كما جاء في مذكرات النائب والوزير الحكومي عبدالكريم الأزري. وأعلن (نوري السعيد) أحكاماً عرفية، ألغت بجرة قلم، على حد تعبير جرجيس فتح الله، إجازة أكثر من أربعمئة مطبوع دوري بين جريدة ومجلة، وإغلاق وإلغاء أكثر من 46 نادياً وجمعية وحزباً. ودامت هذه الأحكام العرفية حتى سقوط نوري السعيد والنظام الملكي في العراق. كان نوري السعيد يحب أن يُسيّر أمور البلد بمفرده، ليعقد المعاهدات مع بريطانيا، والأحلاف مع أميركا، بلا حسيب أو رقيب. لأجل ذلك كان يلجأ الى وسيلته المفضلة والمريحة في الحكم، أعني بها الأحكام العرفية، التي يعطل فيها الدستور. كان نوري السعيد يطلب من الشعب أن يمارس حقه في الحياة، ويترك السياسة وشؤونها له ولزملائه. أما نحن المتنورين من أبناء الطبقة الوسطى، فكنا نتطلع الى أن يكون للعراق موقع تحت الشمس. كنا نريد أن نؤسس مجتمعاً مدنياً سليماً معافى، وليس عليلاً كالذي كانه في أيام نوري السعيد. وكنا نريد أن تكون لنا زراعة وصناعة متطورتان، وأن يكون لنا أدب، ومسرح، وفن، وموسيقى، وجامعات، مثل بقية الشعوب المتقدمة. لكن نوري السعيد كان يقطّر لنا ذلك بالقطارة. لهذا باركنا الثورة عليه، بعد أن حُرمنا من فرص العمل السياسي الديموقراطي (السلمي). (بقدر تعلق الأمر بي شخصياً، لم أهلل للثورة كثيراً، وإن كنت شاركت في مسيرتها). مع ذلك، سيأتي يوم، سنحنّ فيه حتى الى أحكام نوري السعيد العرفية، لأننا كنا يومذاك نستطيع أن نجد في نادي العلوية (الأرستقراطي، الذي أسسه البريطانيون)، وبعض النوادي الحكومية، والتجمعات الفنية (كجمعية الرواد، وجمعية بغداد للفن الحديث)، والمقهى البرازيلي، وكافيه سويس، منتديات طوباوية، ولا نبالي كثيراً بوجود مخبرين سريين يتنصتون الى أحاديثنا.
ثم ذات صباح تموزي لاهب، طرق أسماعنا صوت يتلو عبر الأثير بنود بيان لثورة. كان الصوت يعلن عن نهاية عصر «الاستعمار والفساد»، ويُلغي الملكية، ويؤسس لحكم جمهوري. لكن قيادة الثورة كانت عسكرية... أسماء عسكرية مجهولة، مطعمة بأسماء مدنية معروفة تنتمي الى معسكر المعارضة. وقُتل أفراد العائلة المالكة، وسحل نوري السعيد. ودخل العراق مرحلة جديدة من عمره السياسي، على غرار ما شهدته أقطار عربية أخرى، من حكم «ثوري»، أو «انقلابي»، لكن على الطريقة العراقية. وقُدمت للطبقات المسحوقة، وللطبقة الوسطى، بمن فيها المثقفون، هدايا مجزية، كالإصلاح الزراعي، على رغم كل عثراته، والخروج من الأحلاف والمعاهدات الأجنبية، والإعلان عن دستور موقت أتاح للعراقيين ممارسة حياة مجتمع مدني في إطار محدود، بما في ذلك حرية التنظيم النقابي والمهني والسياسي (بقيود). واستلمنا نحن الأدباء بناية حلف بغداد مقراً لاتحاد أدبائنا، فصرنا نسهر ونعقد أمسياتنا الأدبية في أروقته وحدائقه.
لكن مجتمعنا بدأ يشهد انقساماً عمودياً حاداً في الانتماءات السياسية. ومنذ اليوم الأول من أيام الثورة انشطر العراق الى معسكرين متناحرين. ولأن المزاج كان يومذاك علمانياً، فقد انقسم المجتمع الى يساريين وقوميين. وطاول هذا حتى الأدباء. فإلى جانب اتحاد الأدباء «اليساري»، تشكلت جمعية الكتّاب والمؤلفين، من المثقفين القوميين و «الرجعيين». إنها معركة بين الأخوة الأعداء، على حد تعبير نيكوس كازانتزاكس. لكنها ستكون معركة كسر عظم. (فالحكم الاستعماري أو شبه الاستعماري يوحّد الناس، أما الحكم «الوطني» فيفرقهم).
ثم جاء زلزال 1963، الذي أُريد به أن يُقضى على اليسار في العراق قضاء مبرماً لن تقوم له قائمة. وجثمت الكآبة على صدورنا، نحن اليساريين والديموقراطيين، ممن بقوا على قيد الحياة، ولم تبرح صدورنا منذ ذلك التاريخ... كان اليسار أول من دفع الثمن. وسيأتي دور الشعب العراقي برمته بعد ذلك. فهو لن يُكتب له أن يعيش في بحبوحة، مع أن لديه موارد اقتصادية مجزية تؤهله لذلك. سيتعرض الشعب العراقي الى حكم فردي غاشم لم يشهد له مثيلاً. وقد تم هذا بالتدريج والتخطيط: في البدء كان حلم «الجبهة الوطنية»، مع بدعة «الحزب القائد». ورافق ذلك سيادة فكرة وأيديولوجيا الحزب القائد، في كل شيء، بما في ذلك إعادة كتابة التأريخ... ثم سيكف الشعب برمته عن ان يمارس دوره كشعب. سيصبح رعية أو عبيداً لحاكم أوحد، هو «القائد الضرورة». وأي شاعر لا يؤله القائد الضرورة، وأي رسام لا يرسم القائد الضرورة، وأي مغنٍ لا يلهج باسم القائد الضرورة، لن تقوم له قائمة... أصبح للقائد الضرورة حضور في كل مكان: في محل العمل، وفي الشارع، وفي البيت. وشغل كل برامج الإعلام السمعية والبصرية. أصبح هو العراق. وكان على الجميع أن يسبّحوا باسمه ليل نهار... في هذا الإطار كان عبدالكريم قاسم ملاكاً بالمقارنة معه. أذكر اننا نشرنا في أيام حكمه، التي بدأت توصف بالديكتاتورية، ترجمة لقصة هانس كريستن أندرسون «بدلة الامبراطور» في مجلة «المثقف»، ولم نتعرض الى الملاحقة أو المساءلة. أما من يجرؤ على الإلماع بعُشر معشار ما ورد في قصة «بدلة الامبراطور»، في عهد «القائد الضرورة»، فيقطع لسانه، ويُرمى الى الكلاب الشرسة لتفترسه، كما فعل مع بعض خصومه... وأذكر أن صديقاً لي اعتُقل، وعُذب، ثم قتل، بسبب علامة تعجب وردت في رسالة له، في سياق خبر عن دعوة «السيد الرئيس» لأصحاب رؤوس الأموال العراقية في المهجر. كانت هذه الرسالة مراقبة، وكانت علامة التعجب السبب في هلاكه (وقد استلمت عائلته جثته متعفنة).
نحن لسنا هنا مع منطق إما، أو، الشكلي: إذا أنت انتقدت نظام صدام حسين، فأنت مع أميركا. إن هذا منطق سطحي وسقيم. نحن نزعم أن مآسينا هي من صنع الولايات المتحدة في الأساس، حتى لو تم تنفيذها على أيدي مواطنين منا. ونحن نعلم أن الولايات المتحدة كانت تحكم جمهوريات الموز في أميركا الوسطى من طريق حكام محليين تختارهم من بين أراذل الناس (يُنظر في هذا، الحوار مع غابرييل غارسيا ماركيز، في كتاب «رائحة الجوافة»). وحتى لو افترضنا أن صدام لم يتم التقاطه من الشارع، مثل حكام جمهوريات الموز، فمن المعروف أنه جاء الى الحكم من طريق انقلاب مشبوه على حكم عبدالرحمن عارف، القومي الذي كان أرحم على الشعب من سواه، ثم انقلب على الصفوف الأمامية من الانقلابيين، وتربع على دست الحكم، من خلف الستار أولاً، ثم احتكر السلطة بكاملها في ما بعد... وحتى لو تجاوزنا هذا أيضاً، فهل نتناسى ما تعرض اليه العراق من مآسٍ وفواجع في أيام حكمه؟ ثم لماذا ينزه من النقد وقد اتسمت أيام حكمه كلها بالسلبيات والمآسي؟
لقد كُتب على العراق أن يُحرم من الديموقراطية الحقة منذ أيام العهد الملكي. وإذا كانت ثورة 1958 ألغت دستوراً قائماً على الورق، ومعطلاً بالفعل، فهي أتت بدستور ظل موقتاً، ولم تُجر انتخابات برلمانية، أو لم يُتح لها ذلك. لكن نهجها كان أكثر تقدمية من أي نظام عراقي، سبقها أو تلاها، على رغم سلبياتها. ففي عهد قاسم صدر قانون جديد للأحوال الشخصية نالت فيه المرأة العراقية حقوقاً مساوية تماماً لحقوق الرجل. وكان هذا القانون متقدماً على نظائره من القوانين في جميع الأقطار العربية. وكان العراق أول دولة عربية تقلدت فيه المرأة منصباً وزارياً. أما انقلاب 1963، الدموي، الذي تم فيه اعتقال زهاء 127 ألف مواطن ومواطنة (عُذب عدد كبير منهم وقتلوا). لكنني أعتقد بأن نقطة التحول نحو الهاوية في العراق بدأت في 1979، بعد أن تكرس الحكم الفردي الديكتاتوري المطلق، ثم زج العراق في حرب مع إيران دامت ثماني سنوات، وحرب أخرى بعد غزو الكويت، تلاها الحصار الخانق الذي استمر اثنتي عشرة سنة. وفي هذه المرحلة الطويلة من القهر، والجوع، والحرمان، والذل، واليأس، ضاقت صدور شرائح كبيرة من الجماهير العراقية بالنظام الحاكم، وبات في تصورها أن أي وضع آخر لن يكون أسوأ من حكم القائد الضرورة. لكن خيوط اللعبة العراقية كانت دائماً بيد الأميركيين. كانوا هم أصحاب القرار في تقرير مصير العراق. ولم يكن يحق للعراقيين أن يقرروا مصيرهم بأنفسهم (هل نسينا كيف أُجهضت الانتفاضة الشعبية على حكم صدام في أعقاب حرب الخليج الثانية؟). وفي 2003 اتخذوا قرارهم باحتلال العراق متحدّين بذلك الإجماع العالمي ضد هذه الحرب. فحولوا العراق من جحيم الحكم الديكتاتوري، الى جحيم آخر أشد هولاً بكثير، مع هامش ديموقراطي لذر الرماد في العيون. وبعد أربع سنوات فقط على «التحرير»، لم تعد الجماهير العراقية تنظر الى الوراء بغضب. فهي اليوم فقدت كل شيء، وفي المقام الأول خسرت العراق كله.
وهناك ذلك الطوفان الكاسح من الفكر الرجعي والظلامي، الذي يجتاح عالمنا العربي اليوم، ربما من دون غيرها من المجتمعات. وتلك الهجرة الجماعية المحيّرة الى الماضي. إنه موسم الهجرة الى الوراء، والانقطاع عن ركب الحياة، والعودة الى القرون الوسطى، مع ما يرافقها من إلغاء للمنجزات الحضارية التي حققناها بشق الأنفس على مدى قرن أو قرنين. إنه مصير أسود ينتظرنا!
وأنا كنت دائماً متشائماً (على الصعيد السياسي)، ولا أرى أي بارقة أمل في الأفق. مع ذلك كله، يبقى دولاب الحياة يدور، كما يقال. وبهذا الصدد سأطلق سراح بيت الجواهري، الثاني، المكمل لبيته السابق، بعد أن حجبته عن سبق إصرار، وهو: «أنا عندي، وإن خبا، أمل/ جذوة في الفؤاد تشتعل». أم ان الجواهري قال ذلك يوم كان يؤمن بأن هناك بصيص أمل في حياتنا! لكن ألا ترون معي أن بيت الجواهري، السوداوي، الأول، يفوق بيته الثاني، المتفائل، كثيراً في جماليته؟ ولعل هذا لم يأت عفو الخاطر!
لكنني أحب الحياة، وأريد أن أشرب من كأسها حتى الثمالة. وككاتب، أحب أن أكتب عن الزهور وتاريخ ظهورها على كوكبنا... وعن سيدة مغرمة بأوبرات بوتشيني... وعن عازف البيانو، العراقي، سمير بيتر، الذي أمضى معه المخرج البريطاني شين ماك ألستر تسعة أشهر لينتج فيلماً مذهلاً عن محنته، ومحنة العراقيين كلهم بعد الاحتلال الأميركي للعراق... وعن دموع (هيلن)، السيدة المسيحية العراقية العمياء، التي هجرها أقاربها بعد أن نجوا بجلودهم من جحيم العراق... وأكتب عن أشياء أخرى، مثل كيمياء الكلمات، وفيزياء بلا آينشتاين، وكل ما يجعلنا نشعر بأن الحياة لم تتخلّ عنا تماماً.
علي الشوك
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد