العداء لأمريكا: حقيقة أم إعلام؟
ليس هناك من هو أكثر عداء لامريكا من حكومات العالم العربي. هذا ما تؤكده الظواهر والمظاهر، وما يظهر فوق الطاولة، أما تحتها، فالأمور مختلفة إلى أبعد حد: هنا، امريكا هي الجهة الرئيسية الصانعة للنظامين الدولي والإقليمي، فلا بد من خطب ودها وإقامة علاقات ممتازة معها، سواء كانت مبنية على مصالح مشتركة، أم على الانضواء في مناطق نفوذها، وتاليا في سياساتها العامة واستراتيجياتها، وإلا وجد من يتفاهمون معها أنفسهم في ورطة، وتصرفوا وكأن نظامهم خارج على الشرعية الدولية، أو يفتقر إلى دعمها، أو كأنه نظام ناقص تكتمل مقوماته بحصوله على غطاء منها، يجعلها راضية عنه، ويجعله يحس بالأمان.
والمشكلة مع امريكا معقدة، فهي، في حالة أولى، تتفق مع الذين تتعامل معهم على دور معين، يؤدونه بعد وصولهم إلى الحكم. في هذه الحالة، نجدها تراقب ما يفعلونه، وتتدخل لتغييره إن كان لا يتفق مع خططها، فإن رفضوا ما تطلبه، دخل نظامهم في منطقة رمادية سياسيا، ووجدوا أنفسهم في أمام خطر جدي، سببه أن امريكا لا تترك مصيرها بيد أحد، ولا تمنح ثقة غير محدودة أو مشروطة لأحد، وتفتش دوما عن بديل لما هو قائم، حتى عندما تضع يدها في يده. في حالة ثانية، تراقب امريكا سياسات بلد ما، دون أن تتخلى عن 'حقها ' في توجيهها، وهي تحدد موقفها النهائي منها، إن رفضت تبني طرق في العمل تتفق مع مصالحها وأهدافها. عند هذا، تحدث أزمة علاقة، تليها معظم الأحيان أزمة حكم في البلد المعني، الذي يدخل عندئذ في منطقة رمادية سياسيا، غالبا ما تكون خطيرة بالنسبة له.
في الحالة الأولى، تقيس امريكا سياسات الحكومات بالدور الذي اتفقت معها عليه، وفي الثانية بالدور الذي تتوقعه منها، أو تريدها أن تلعبه. وفي الحالتين، تكون سياساتها ومصالحها هي معيار علاقاتها، والسقف الذي يجب على الطرف المقابل إلزام نفسه به والعمل تحته، كي لا يفقد ثقتها وتوجه إليه تهم ثقيلة كدعم الإرهاب، أو التراخي في محاربته، أو تهديد الأمن القومي الامريكي... والغريب، أن الحكومات، عند العرب وفي العالم، تعطي امريكا حق التدخل المفتوح في شؤونها، فترى مندوبيها يبحثون مع هيئات رسمية عربية تفاصيل علاقاتها مع دول عربية أخرى، دون أن تعترض على 'حشريتها'، مع أن سلوكها يمثل تدخلا سافرا في أمورها. كما تحدد امريكا الطرق التي يجب أن تعتمدها بعض البلدان في التجارة الدولية، على سبيل المثال، وتلك المطلوبة لاختيار مخاتير بعض البلدات والقرى، وهي لا تتورع عن تقريع من يخالفونها بصورة علنية، وتعترض على بعض المسؤولين في دول أخرى، وتطلب من حكوماتهم استبدالهم بمن ترضى عنهم، بينما تصدر تقارير حول حقوق الإنسان في كل قطر ومصر، توزع فيها التهم ذات اليمين وذات الشمال، دون أن يتجرأ أحد على الاعتراض جديا على انتهاكاتها هي للحقوق، التي تستخدمها ذريعة للتدخل في شؤون غيرها...
يقع خلاف امريكا مع الآخرين، عندما تتناقض مصالحها الاستراتيجية في بلد ما مع سياساته ومصالحه، في هذه الحالة: امريكا هي التي تثير الخلافات مع حكامه، لأنها هي التي تنكر حقهم في أن تكون لهم سياسات لا تتفق وسياساتها، ومصالح تتعارض مع مصالحها، حتى داخل بلدانهم/ هذا التعارض في المصالح والسياسات هو أرضية الخلاف والتعارض، وأحيانا الصراع ضد من يملكون، مثلها، استراتيجيات إقليمية أو كونية شاملة تتخطى حدودهم، تنافس أو تناقض استراتيجيتها/ عندئذ، يعبر الخلاف عن نفسه في الاعتراض على الدور الذي ترفضه واشنطن، دون أن تكون الحكومات صاحبة الدور قد اتفقت معها على دور محدد بالضرورة، كما تعبر عن نفسها، من جانب آخر، في التزام حكومة ما بدور معين، تعتقد امريكا أن هذه قد تخلت عنه.
يوجد حالات نادرة توافق أو تطابق بين استراتيجيات امريكا وبين مصالح الدول الوطنية، التي يغلب عليها طابع المحلية، إلى هذا، تتردد الدول الصغيرة كثيرا في فتح النار على امريكا، خوفا من الاصطدام بها كقطب دولي مسيطر هنا، موجه هناك، ولأن الدول الصغيرة تؤثر التدرج في الدفاع عن مواقفها ومصالحها، إيمانا منها بأن امريكا لا تمزح ولا تتحلى بالصبر، في كل ما يتصل بمصالحها وسياساتها، وأن إقامة ميزان قوى في غير صالحها أمر صعب ويتطلب خططا واستعدادات تشمل بلداننا عديدة، غالبا ما يكون بينها تفاوت في المواقف والأفعال والمصالح، كما هو حال دول امريكا اللاتينية، التي تحاول فنزويلا اليوم حشدها وراءها، في مواجهة واشنطن.
على أن امريكا ليست قدر البشرية، ومن الممكن مقاومتها وإحباط خططها، بيد أن المعارك التي نراها في معظم حالات الاشتباك معها غالبا ما تكون إعلامية أكثر منها حقيقية، وغالبا ما يكون العداء لها لفظيا، ذلك أن الخوف من إمكاناتها، التي تترجمها خطط طويلة الأمد كثيرة التشعب قوية التأثير، تقبل التطبيق نظريا في كل مكان بفضل انتشار عالمي يجعل واشنطن قادرة على حشد قدر من القوة متفوق على خصومها لمحليين، الذين يؤثرون أن لا يختلفوا معها إلا لكي يحسنوا شروط علاقاتهم منها، فهم لا يرغبون أصلا في خوض معارك كسر عظم ضدها، خشية الإطاحة بهم، إن بلغت المواجهة معها حد اللاعودة.
بسبب انتشارها العالمي ومصالحها الكونية، التي تتعارض غالبا مع مصالح القوى والدول المحلية، تبادر امريكا إلى سياسة تربص بكل ما ومن ليس أمريكيا، وهي تخضع الآخرين، أصدقاء وخصوما، لاختبارات لا تتوقف، لأنها استراتيجياتها لا تقوم على شيء يسمونه الثقة أو الاسترخاء، فتراها تحتاط دوما لما قد يقع، وتتخذ ترتيبات لقطع الطريق على المفاجآت غير السارة، التي كثيرا ما باغتتها رغم احتياطاتها وترتيباتها. ليس لدى امريكا صديق دائم أو عدو دائم، بل لها مصالح تتابعها بتصميم محارب عازم على إزاحة كل من يعترض طريقه، يفسر هذا رغبتها في تكييف الآخرين مع سياساتها ومصالحها، وسبب رفضها التكيف مع سياساتهم ومصالحهم، فإن حدث وقبلت ما كانت ترفضه، وجب أن يكون القبول وقتيا وعابرا، بالنسبة لامريكا، يجب أن تكون هزيمة الآخرين استراتيجية، وأن يكون تراجعها هي تكتيكيا، عارضا وقابلا للإلغاء، ومن يراقب التاريخ، سيجد أنها لم تتراجع استراتيجيا أمام أي طرف آخر، وأن تراجعاتها التكتيكية كانت نادرة وعابرة، ثمة خط سير تتبعه السياسة الأمريكية من غير الجائز أن يتوقف، فإن حدث وتوقف لسبب ما، وجب الحفاظ عليه وتغيير شروط تحققه، بكنس العقبات التي أوجبته، خلال فترة يجب أن تكون قصيرة قدر الإمكان، فلا يظنن أحد أن امريكا تقبل الهزيمة، أو تسلم بنتائجها، وإن اعترفت أحيانا بتعثر برامجها وخططها، وتظاهرت أنها بدلت خياراتها وغيرت مواقفها، أو تراجعت عنها، ومن يراقب ما حدث في الوطن العربي بعد إعلان قيام الشرق الأوسط الجديد، سيفهم طريقتها في العمل، وسيدرك أنها قد تفشل في نقطة معينة، لكنها تتدارك فشلها بشق طرق جديدة لخططها، تعتمد في شقها أساليب وأماكن جديدة، وأن نهجها العام يبقى ثابتا وموجها نحو اختراق خصمها من نقاط ضعفه، علما بأن قيام الشرق الأوسط الجديد لم يتم بعد، لسبب بسيط هو أننا ما زلنا في طور الفوضى الخلاقة، التي قالت هي نفسها إنها السبيل إلى قيامه. عاش وطننا العربي فوضى رهيبة خلال العقد الأخير، رغم ما يقوله السذج عن فشل سياسات واشنطن العربية؟
ليس العراك مع امريكا سهلا، إنه أمر فائق الصعوبة، لا تقدر عليه مجتمعات ضعيفة وحكومات عاجزة، كمجتمعاتنا وحكوماتنا، وعلى من يريد خوضه بجدية، وتحويله من عراك كلامي إلى صراع جدي، البدء بالتصدي لما تستغله امريكا ضده: مشكلاته الحقيقية ونقاط ضعفه كمجتمع وعجزه كحكومة، وإلا خسر معركته ووجد نفسه ذات يوم بين المهزومين بالضربة القاضية!
ميشيل كيلو
المصدر: القدس العربي
إضافة تعليق جديد