التجارب الأمريكية في الرمال العراقية
يتميز خطاب إدارة الولايات المتحدة الحالي، وهي تقود في العراق منذ سقوط النظام الصدامي، في التاسع من نيسان عام 2003، أشرس حرب مواجهة مع الإخطبوط العالمي للإرهاب، يتميز بالنمط التجريبي المفعم بالسطحية والسذاجة واللامبالاة. عليه يتعين على إدارة الرئيس الجمهوري بوش، الذي يهمه نجاح المشروع الديمقراطي في العراق والشرق الأوسط، إعادة النظر في تكتيكه الحالي، وإسقاط ذلك الخطاب الذي بدأه جي غارنر وسار على هداه بول برايمر، وبالتالي إتاحة الفرصة أمام العملية السياسية، كي تتخذ لها مساراً مختلفاً عما يحصل منذ ثلاثة أعوام ونيف. إن من أخطر سمات سياسة إدارة الرئيس بوش، في معالجة الأوضاع المتردية كل يوم في العراق، هو التخبط وقصر النظر والسذاجة، التي تميز كل إجراء مدني وعسكري، أقدمت عليها الإدارة الأميركية، في معالجة تداعيات السقوط، مما ولد في داخل العراق وفي الشرق الأوسط، على حد سواء، وحتى في الولايات المتحدة نفسها، كماً هائلاً من ردود الأفعال السلبية التي جعلت شعبية الرئيس بوش، تنزلق درامياً إلى أوطأ مستوى لها، منذ توليه الرئاسة.
لنبدأ أولاً بالإجراء الأكثر ضرراً، الذي أقدمت عليه الإدارة الجمهورية بعد السقوط، حينما حلت الجيش العراقي، المتكون بنسبة 90% من المغلوب على أمرهم من فقراء العراق. هكذا وبجرة قلم، وجد نحو نصف مليون مواطن عراقي فقير، ممن ساقه النظام الصدامي للخدمة العسكرية بالقوة والإعدام، وجدوا أنفسهم مرميين على قارعة الرصيف بلا عمل، كما ترمي القمامة! ومن الطبيعي أن يؤدي ذلك القرار الساذج، إلى قطع مصدر العيش الوحيد لمليوني عراقي، من عوائل العسكريين المطرودين من الخدمة. والغريب في الأمر أن ذلك القرار القاتل صدر دون أي مسوغ، فلم تنطلق على القوات الأميركية الزاحفة على بغداد، رصاصة عسكرية واحدة! ثم جاء سريعاً قرار اجتثاث البعث، بشكله التعسفي القمعي، ليستفز ويميز سلباً، أكثر من مليون مواطن عراقي، زجه النظام في أتون الحزب الفاشي بأسلوب الترهيب أو الترغيب. ومن جراء صدور القرارين الساذجين، خلقت الإدارة الأميركية لها، أعداء تقدر أعدادهم بالملايين داخل البلد المحتل، وهي لم تنقل السيادة بعد إلى الحكومة المؤقتة، بموجب قرارات الهيئة الدولية. وتوالى بعد ذاك مسلسل الإخفاق الأميركي على الأرض الملتهبة، ووسط ملايين العاطلين عن العمل. ولم تسعف إدارة بوش سلسلة الترقيعات الفوقية الساذجة، وتعيين وتبديل المسؤولين والقادة العراقيين والأميركان كل يوم، الذين لم يفلح واحد منهم، في حل معضلة عراقية واحدة على أرض الواقع، من تحسين الخدمات، وتوفير الأمن، والغذاء، والعمل. ويمكن إيجاد الأسباب في نمط الخطاب الأميركي الساذج، الآتي من واشنطن، والذي أخضع الجميع إلى عجلاته، من عراقيين وأميركان وأطراف تحالف دولي!.
لقد عمد صدام إلى تصفية كل القيادات البديلة له، ولا يعرف الناس اليوم في العراق قيادة سياسية مستقلة، تتميز بالكفاءة المهنية، دون أن تكون مسنودة من قبل كتلة مجتمعية، أو حزب قومي أو طائفي. وتهيمن على الشارع العراقي اليوم ثلاث قوى لا رابع لها، تحظى بكل أصوات "العامة"، وهي قوة البعث المنهارة التي بدأت تلملم أجزاءها، مدعمة اليوم من قبل دول الجوار العربي، ومن قبل القيادات الدينية السنية. تنافسها قوة الأحزاب الدينية الشيعية المدعمة من إيران، وقوة الأحزاب القومية الكردية، المدعمة من قبل السفارة الأميركية في بغداد!. نتيجة لتلك الخريطة السياسية النموذجية، وبفعل الخواء الثقافي للشارع الغوغائي، هُمّشت القوى السياسية الوطنية التقليدية، وأفلست "تصويتياً" كل القيادات اللبرالية والعلمانية والتكنوقراطية، من خارج نفوذ هذه القوى المهيمنة على مشاعر الشارع المتبلد. وعندما لم يعثر الأميركان بعد السقوط بسهولة، على ضالتهم من القيادة الموحدة، أي "حميد كرزاي" العراق، أصابهم الإحباط، وبدأوا في التخبط، وفق أسلوب "جرب وأخطأ"، والانصياع لما يمليه عليهم الشارع الغوغائي، من قيادات نخبوية مؤثرة في المجتمع على الطريقة الصدامية، أي باستخدام السطوة العشائرية أو الدينية أو المسلحة! وصار السياسيون العراقيون "الجدد" يتميزون، لدى "أصدقائهم" الأميركان، بعدد الرجال المسلحين الذين يتبعونهم! وياللسخرية، لم يحصل قائد المعارضة العراقية لخمسة عشر عاماً في الخارج، الدكتور أحمد الجلبي، الذي بدد عليه دافعو الضرائب الأميركان، ملايين عديدة من الأموال من جيوبهم، لم يحصل من الشارع العراقي بعد سقوط النظام السابق، ولو على مقعد واحد في البرلمان الجديد!. ربما يكون صدام قد فشل في كسب ود الشعب العراقي، أو الجيش العراقي، ولنا على ذلك أكثر من دليل، أولها هروب الجيش، وتصفيق المواطنين للدبابات الأميركية، والتلويح لها بالورود، في صبيحة التاسع من نيسان، لكنه نجح بالتأكيد، نجاحاً ساحقاً في توريث الشارع أسلوبه الخاص، في الحكم والحوار وصنع السياسة. لقد تحول جميع ضحاياه من السياسيين إلى صداميين. فالمواطن العراقي عندما خرج إلى الشارع ليمارس حقه في الحرية والديمقراطية، إنما كان يحمل أنموذج صدام في شخصيته! في البداية استظرفت الإدارة الأميركية القيادتين الشيعية والكردية، بإعتبارهما قيادتي الأغلبية. وإعتمد البنتاغون تكتيك "الأمر الواقع"، على أساس أن المؤشرات الميدانية تدعم ذلك، دون الإلتفات إلى مستقبل الديمقراطية في الشرق الأوسط الكبير التعددي العلماني. ولقد وجد بول بريمر وخليلزاد نفسيهما محصورين في زاوية ضيقة من التحالفات "الواقعية"، واضطرا إلى استكمال اللعبة الديمقراطية على هذا الأساس المزيف، وكأنهما يتعاملان مع شارع واع، كما في شيكاغو أو نيويورك أو لوس أنجلس!
من الخطوات الساذجة التي أقدمت عليها الإدارة الأميركية في العراق أيضاً، ضرب إليسار بإليمين، وإليمين بإليسار، واستبدال التسلط الشيعي بالتسلط بالسني، والعكس بالعكس. و بعد أن لم تصغ إلى نصائح أصدقائها من الحكام العرب بعدم المساس بالنظام الصدامي، مما دفعهم إلى تجنيد "الإنتحاريين" الساعين إلى إفشال التجربة الديمقراطية في العراق، استدارت الإدارة الأميركية فجأة، مئة وثمانين درجة إلى الوراء، وراحت تستأنس في كل نشاط تقوم به في العراق، بحكمة الحلفاء العرب والجامعة العربية!. وأبت إلا توسيع رقعة الخلاف الأثني البسيط في العراق، فربطته بالخلاف الجغرافي الإستراتيجي، بين ملالى إيران، وبين شيوخ الخليج. وأضحى العراق الآن الضحية الأشد بؤساً في الصراع الدولي الأزلي، الأميركي - الإيراني. ففي الصباح يفجر نفسه إرهابي سني قادم من الخليج، في مجموعة من الأطفال الشيعة، وفي المساء يفجر نفسه إرهابي شيعي ممول من إيران، في رهط من المصلين السنة. وهل يدرك الساسة الأميركان حجم الخطأ الجديد الذي يرتكبونه، حينما يتعاملون مع القتلة والإرهابيين من كلا الطائفتين، طمعاً في إعلان النصر النهائي، والانسحاب السريع من العراق، حتى وإن كان ذلك التعامل على حساب مستقبل الديمقراطية في العراق والمنطقة؟ هل يعتقد صانع القرار الأميركي، أن يوماُ سوف يأتي على العراق، يحكمه فيه قادة، كانوا إلى حد الأمس قتلة الآلاف من الأطفال والنساء والشيوخ، بعد أن تحولوا بعصا سحرية إلى قادة يسعون إلى عراق فدرالي تعددي، تسوده الديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان؟ من ناحية أخرى، نقرأ توصيفات متناقضة ومتضاربة تطلقها الإدارة الأميركية على الإرهابيين والقتلة في العراق، فتارة تسميهم المتمردين، وتارة الإرهابيين، وتارة أخرى الميليشيات، أو المقاومة المسلحة، وغير ذلك! تري أية تجريبية سياسية قاتلة تلك، التي تمارسها واشنطن في العراق؟
لم يدرك السياسيون الأميركان بعد، البون الشاسع ما بين طبيعة المجتمع العراقي التنوعية، وطبيعة أي نظام عربي آخر. ففي العراق مكونات اجتماعية، متضادة ومتوازنة، في القومية وفي الدين. وبينما نجد المجتمعات العربية المجاورة، منتمية كلياً إلى القومية العربية، والدين الإسلامي، يتشكل المجتمع العراقي، من مكونين متساويين ومتعادلين، قومياُ ودينياً. فالمذهب السني متعادل مع المذهب الشيعي، بحيث لا يحق لأحد الزعم، أن هناك وحدة إسلامية عراقية! وقد يكون تعادل كفتي السنة والشيعة على أرض العراق نعمة سياسية عظمى، تصب في مصلحة الشعب العراقي التواق إلى الوحدة الوطنية الحقيقية، وتكسبه حصانة فعلية ضد هيمنة الدولة الدينية الخالصة، كما هي الحال في إيران أو السعودية!. وفي الجانب القومي المتعصب، لاتوجد أغلبية قومية موحدة، فالعراقيون القوميون منقسمون دينياً، فالعربي نوعان سني وشيعي، والكردي نوعان سني وشيعي، والتركماني نوعان سني وشيعي. هذا بالإضافة إلى وطنيين وعلمانيين ولبراليين من كل القوميات والأديان. في الواقع لا نلمس في موزائيك المجتمع العراقي أية رابطة قومية أو دينية، تفوق شدتها ولحمتها، الرابطة الوطنية العراقية، التي ما فتئت ترفرف على وادي الرافدين، منذ بدايات الحضارة الإنسانية قبل آلاف السنين. وحينما يتعامل السياسي الأميركي مع مكونات المجتمع العراقي، يحلو له تبسيط الأمور، وإختزال العراقيين الذين يتعامل معهم إلى مسلمين ومسيحيين، أكراد وعرب وتركمان، سنة وشيعة.
وقبل أن يأتي الأميركي، المدني أو العسكري إلى العراق، لمساعدة الشعب العراقي في بناء الديمقراطية، يتلقي في بلاده تدريباً، يظن في نهايته، أنه سيعمل في بيئة ليس فيها، سوى أميركي طيب، وعراقي شرير!. فتراه بعد وصوله إلى مدينة عراقية، يظن أن كل العراقيين أعداؤه، وأنه جاء إلى هنا لمقاتلتهم واستئصال شأفتهم، على الطريقة الإمبريالية البالية!!. وما سلوك الجندية إنغلاند في سجن أبي غريب، سوى دليل ناصع،على كره الأميركان لكل العراقيين دون تمييز!. وحسب الأشخاص الذين عملوا مع بول بريمر، في المنطقة الخضراء فإنه كان متعنتاً، يرفض الإستماع إلى مساعديه العراقيين، لانعدام عامل الثقة بهم، وتلك لعمري صفة إمبريإلىة، بعيدة كل البعد عن الهدف السامي، في نشر الديمقراطية والمحبة والسلام، وسيادة القانون واحترام مبادئ حقوق الإنسان في الشرق الأوسط. لماذا إذاً ضحت الولايات المتحدة بالآلاف من خيرة بناتها وأبنائها في العراق، وبالمليارات من الأموال المقتطعة من رغيف الخبز الأميركي؟ أحد المسؤولين الأميركان العاملين في العراق، قال لموظف عراقي يحمل الجنسية الأميركية، ويعمل في حقل إعمار العراق في شركة أميركية معنفاً: "أنت في نظرنا عراقي، وسوف تبقي هكذا، وإن حملت جنسيتنا!".
ينبغي على السياسيين الأميركان، الذين يهمهم أمر التغيير الإيجابي في العراق حقاً، التخلص من تلك الروح الإمبريالية الاستعلائية، إذا هم أرادوا فعلاً، مشاهدة تغيير ملموس على الأرض. الحق أنهم قد يجنون فوائد ملموسة، إذا تخلوا عن سلوكهم الإمبريالي الحالي، وركنوا إلى ثقافة التسامح والثقة تجاه ملايين العراقيين، الذين يتعاونون معهم كل يوم بإخلاص، ويسهمون في وضع الحجر الأساس، للبنى التحتية للديمقراطية العراقية النموذجية. ومن الجدير بالذكر أن تلك هي طبيعة الناس في الولايات المتحدة، فهم يستسهلون تصنيف الناس على شكل ستريوتايبي ميكانيكي. ولا نجد مثالاً أفضل نضربه، على سذاجة إدارة بوش بالنسبة إلى تصنيف الناس من المهاجرين، بعد أحداث سبتمبر الإرهابية المدانة، إلى أميركي عربي (أي إرهابي)، وأميركي غير عربي (أو. كي.)!. وينتظر المهاجرون غير العرب منذ تولي الجمهوريين السلطة في أميركا، ستة أشهر، لحصولهم على الإقامة، بينما ينتظر المهاجرون العرب خمس سنوات. أما العراقيون، وهم على الأغلب من معارضي نظام صدام، والمؤيدين للإحتلال الأميركي، فمازالوا ينتظرون الموافقة على إقامتهم، منذ أكثر من سبع سنوات! وفي رأينا أن السبب الأساسي يكمن في عصيان الزرقاوي في العراق، أو في تمثيل "المجاهدين" الأشرار بالمقاولين الأميركان وتعليقهم على جسر الفلوجة!
د. أسعد الخفاجي
المصدر: الزمان
إضافة تعليق جديد