أنديرا غاندي سيدة الهند الأولى

07-05-2007

أنديرا غاندي سيدة الهند الأولى

تعود معرفتي بأنديرا غاندي الى عام 1982 وبالتحديد في الشهر الأول من ذلك العام كنت أشارك في مؤتمر شباب حزب الكونغرس كإعلامي.. حيث كنت مراسلاً لمجلة الكفاح العربي البيروتية في ذلك الحين.

في حفل العشاء الذي أقامته (أنديرا) تكريماً للمشاركين وكانوا يمثلون أغلب دول العالم، كانت تدور على الوفود، وتتحدّث إليهم وتداعبهم بكلماتها المرحة حسب علاقة الهند مع كل دولة من دولهم.. ‏

كانت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا في ذلك الحين وكانت تربطها بها صداقة وقد داعبت رئيس الوفد البريطاني بسؤاله عنها كيف هي صديقتي الحديدية؟ وقد أثار ذلك ابتسام أعضاء الوفد، وانتقلت بين الوفود مازحة حسب طبيعة علاقة الهند بأية دولة.. حيث وصلت الى الوفد السوري وكنت أقف الى جانبها قالت: ‏

ـ لا مشكلات لنا مع سورية؟ ‏

وأرادت الابتعاد.. مازحتها: ‏

ـ سأختلق بعض المشكلات، حتى تتفضلي بمبادلتنا الحديث.. ‏

ضحكت: ـ وأي المشكلات تريد أن تختلق؟ ‏

قلت: ـ نريد أن نتحادث معك، نحن نكنّ لك احتراماً كبيراً، أنت زعيمة كبيرة من دول عدم الانحياز التي جعلت لهذه الكتلة أهمية كبيرة في عالم اليوم، وكانت الكتلة في ذلك الحين لها أهميتها فعلاً.. ‏

سألتني: ـ صحافي؟ ‏

ـ نعم.. ‏

ـ توقعت أن لا تصدر مثل هذه الممازحة إلا من صحافي. ‏

ـ أريد أن أجري معك مقابلة.. وقد قدمت طلباً لسكرتيرتك حول ذلك.. ‏

ـ يمكنك المجيء الى مكتبي في التاسعة صباحاً، في أي يوم ترغب وسأتذكرك جيداً.. ‏

قابلتها بعد يومين وعرفت بعضاً من همومها حول قلقها على الهند والمؤامرات التي تُحاك حولها، دون أن تسمي الدول التي تقوم بذلك.. ‏

كانت أنديرا قد فازت بانتخابات أوائل عام 1980 بغالبية كبيرة، بعد أن أبعدت وحزبها عن الحكم لمدة عامين ونصف، كان يحكم خلالهما تجمع أحزاب الجاناتا برئاسة موراجي ديساي، الذي اشتهر عنه، أنه كان ينقي بوله، ثم يشربه مع كل صباح.. لاعتقاده أنه يعطيه مناعة ضد المرض، وكان في عقده الثامن قوي الصحة، لا يعرف المرض كما اشتهر عنه.. ‏

أبعد حزب المؤتمر (الكونغرس) عن الحكم في عام 1977، لتعم الاضطرابات والفوضى عموم الهند ما أسقط الحكومة وعجّل بالانتخابات التي أعادت أنديرا وحزبها الى الحكم مع بداية عام 1980، مع ابنها الأصغر سانجي، وكان ساعدها الأيمن، كان سانجي شاباً طموحاً قوياً، أراد أن يساعد والدته في تخليص الهند من مشكلات كثيرة من بينها الازدياد السكاني المتعاظم، وقد وضع خطّة يحثّ الناس على الاهتمام بتحديد النسل، ويُقال أنه ساهم مع فرق طبية في ربط الحبل المنوي في عمليات سريعة كانت تطول الفقراء في مناطق كثيرة بالقوة. ‏

بعد ثمانية أشهر في آب، قتل سانجي في حادثة تحطّم طائرة مروحية مع مرافقيه، ومن بينهم العقيد ساكسينا.. وكان على أنديرا عندها أن تهيئ ابنها الأكبر راجيف الذي كان طياراً مدنياً في الخطوط الهندية الداخلية.. وكان ذا شخصية مختلفة عن سانجي، فهو بعيد عن السياسة يهتم بالجانب الآخر من الحياة.. رقيق، هادئ.. متفرغ لعمله يعيش حياته مع زوجته الإيطالية سوينا وولديه راؤول وبريانكا.. ‏

ربّما كان ذلك المؤتمر لشباب الكونغرس، من أجل تقديم راجيف للناس كرئيس (شباب الكونغرس).. كانت والدته تدفعه للعمل في السياسة دفعا؛ فيجب أن تستمر عائلة نهرو في الحكم دون توقّف.. فكما أتت أنديرا بعد والدها جواهر لال نهرو، وكان مقرراً لسانجي أن يخلفها لولا مقتله، فيجب على راجيف أن يتولى العملية وهذا يحتاج لتحضيره ودفعه لدائرة السياسة. ‏

قابلت راجيف في ذلك المؤتمر وربطتني به صداقة بعد ذلك، وقد أجريت معه حواراً.. كان غلاف الكفاح العربي: هل يصبح حفيد نهرو رجل الهند المقبل؟.. تحدّثت معه حول خططه المستقبلية وهمومه ومتاعبه.. وكانت الأفلام الصهيونية في ذلك الحين تكتسح الصالات الهندية من بينها (عملية ميونيخ ـ 24 ساعة في عنتيبي ـ أحبك يا روزا ـ زمن اليورانيوم.. وغيرها) وقد سألته عن سرّ وجود هذه الأفلام، أجاب حينها (لدينا ملحق تجاري إسرائيلي وبلادنا مفتوحة أرسلوا أفلامكم إلينا، قاوموا هذا المدّ، هناك أكثر من (20) سفارة عربية عاملة في الهند، ما الذي تقوم به هذه السفارات من إعلام حول قضاياكم؟) بالطبع كان محقاً في ذلك، وقد حضرنا معاً في المساء حفلة موسيقية، كان يرافقه فيها (بريانكا وراؤول) وكانا مازالا يافعين.. ‏

كان انطباعي عنه وهو الرفيق الدمث الخجول، أنّه يكتب شعراً سرياً، ربّما يقرؤه لأقرب الناس إليه.. ‏

وقدّر لراجيف أن يدخل معترك الحياة السياسية بعد مقتل والده في 30 تشرين الأول 1984 على يد أحد مرافقيها من السيخ.. حيث عمّ الغضب عموم الهند، وحدثت ردود أفعال من الهندوس ضد السيخ، حرقوا بعض متاجرهم، حاصروا بيوتهم، قتلوا بعضهم، ولكن راجيف بعد استلامه الحكم بأغلبية مطلقة، لم يقم بردود أفعال انتقامية، بل ضبط الوضع وأزال حالة الاحتقان بين الناس. ‏

بعد اقتحامها المعبد الذهبي للسيخ في أوائل حزيران 1984، ومصادرتها السلاح المخزّن في مخابئهم السرية، بيّتوا لها الغدر، وأعطى زعماؤهم الدينيون أمراً غير قابل للنقص لحارسها الشخصي وكان معها لـ(14) عاماً، بقتلها بمعونة أحد الحرّاس الجدد من السيخ الذين سرّبوه أيضاً رغم إجراءات الأمن.. ‏

والحارس القديم يسدّد نحوها المسدس وفيه الرصاص القاتل، قالت له مستغربة: «أوركيابهي ـ ومذا بعد يا أخي؟». ‏

كانت هذه آخر جملة تتلفظ بها قبل أن تخترق الرصاصات جسمها النحيل الهشّ حيث أُسعفت الى مستشفى معاهد عموم الهند الذي يبعد أكثر من نصف ساعة عن المكان الذي قُتلت فيه، ويُقال: إن سيارة الإسعاف سلكت طريقاً طويلاً لتتم الحبكة جيداً.. ‏

في آخر لقاءاتي معها (في أيلول 1984 أي قبل نحو شهر من اغتيالها) سألتها عن مستقبل راجيف (قالت: أنا دفعته لميدان السياسة، وهو شاب فطن، لست خائفة عليه» ثم تنهّدت بارتياح أشعر أنني أديّت واجبي تجاه بلدي، كأنني وصلت الى نقطة الراحة في عملي.. لا أطلب أكثر من ذلك.. ‏

لم تكن قد بلغت السبعين عندها، وحين خلفها راجيف كان في الأربعين من عمره (وهو من مواليد 1944) لم يستمر طويلاً في حكمه حتى اغتالته يد الغدر في منتصف عام 1990 بطريقة مروّعة.. فتاة تقدّم له طاقة زهر في داخلها قنبلة انفجرت وأودت بحياته وحياة بعض الناس حوله.. ‏

د. طالب عمران

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...