«مرتكزات السيطرة، غرب ـ شرق» لفردريك معتوق التفوّق الغربي من منظور سوسيولوجي

14-10-2011

«مرتكزات السيطرة، غرب ـ شرق» لفردريك معتوق التفوّق الغربي من منظور سوسيولوجي

لماذا يسيطر الغرب على العالم منذ ما يقارب خمسة قرون؟ لماذا لم ترق تجارب السيطرة الأخرى الى مستوى التناسق الذي بلغته التجربة الاوروبية؟ هل يعود ذلك الى اختلاف في طبيعة البنى الذهنية عند الغربيين مقارنة مع سواهم من الشعوب الاخرى ام الى الاختلاف في تحريك عناصر هذه البنية الموجودة اصلاً عند الجميع وتفعيلها؟
أسئلة دقيقة وشائكة جهد فردريك معتوق في كتابه "مرتكزات السيطرة، غرب – شرق، مقاربة سوسيو – معرفية" منتدى المعارف، 2011 للاجابة عنها من منظور سوسيولوجي معرفي تاريخي، فرأى أن الغرب اعتمد في سيطرته على العالم على محركات ذهنية تمفصلت في تجربة المجتمعات الغربية على نحو مميز. هذه المحركات موجودة عند الشعوب كافة، إلا أنه لم يتم استغلالها خارج المجال الغربي بما يؤدي الى سيطرة ثابتة على العالم أجمع.
تتحدّد السيطرة استناداً الى ماكس فيبر في السيطرة القانونية المستندة الى الشرائع، او السيطرة التقليدية القائمة على الأعراف والتقاليد ، او الكاريزماتية القائمة على الولاء لشخصية خارقة.
لكن جوهر السيطرة في زمن الرومان والصليبيين الذي كان يقوم على تدمير مراكز العدو كما حصل في قرطاجة والقسطنطينية، اختلف مع المنطق الرأسمالي الاستعماري الجديد الذي عامل أخصامه بلا رحمة من دون أن يعتبرهم أعداء بل زبائن بالقوة والاستعداد، فالغرب اليوم لم يعد يعتمد على السيطرة العسكرية وحدها، ولا على الهيمنة الاقتصادية بل أكثر فأكثر على المحرك المعرفي.
لدى الغربيين في رأي المؤلف خمسة محركات ذهنية تأسيسية شكلت رافعة سيطرتهم على العالم على مدى خمسة قرون ونيف، بتوزيع متنوع ومتجدّد لم يكن هو نفسه على الدوام بحسب الموقع التاريخي والمكان والزمان. وهي تتكوّن من طاقات أساسية متمثلة في الهيمنة، والمعرفة، والتنظيم، والربح، والمجادلة السياسية او البوليميك".
الهيمنة عند الانسان جوهرها اجتماعي لا بيولوجي خلافاً لمنطق الهيمنة في عالم الحيوان ذات البعد البيولوجي الغريزي، وهي مبنية في عالم الغربي الغازي على القوامة الثقافية والعلمية والاقتصادية والاجتماعية، فالآخر الغربي حمل مشروعاً تغييرياً معلناً طارحاً نماذجه السلوكية ومعاييره القيمية باعتبارها متفوقة على تلك السائدة في عالم الجنوب، لكن المشكلة كانت في نقل هذه النماذج النوعية والمتقدمة، فقد قامت تجارب الاستعمار كلها على الاحتلال والقمع والقهر. وهذا ما احاط بالريبة قيم الغرب العقلانية والديموقراطية والفردانية المغايرة للأنانية والتي معناها احترام الخاص وعدم الفصل بينه وبين العمومي. نحن إذن إزاء نظرة جديدة الى العالم تقوم على فكرتي تفوّق الغرب ومركزيته العالمية، لأن الغربي اعتبر أساساً انه يمتلك العالم خلافاً لأنواع السيطرة الأخرى في التاريخ التي لم تكن تتعدّى حدود أقاليم.
في مسارهم النهضوي وتقدمهم للسيطرة على العالم اعتمد الغربيون البوليميك كأداة عمل سياسية تتيح عرض وجهات النظر المختلفة ضمن أفق مفتوح وخلاق، فتمكنوا من خلاله حل مشكلة الصراع السياسي الذي أدى تفاقمه جنوباً الى نشوب النزاعات والحروب الأهلية، ما أسهم في صلابة المجتمعات القومية الغربية وعدم انزلاقها الى الانقسامات العصبوية.
إن احترام الآخر المختلف في التراث الغربي الحديث القائم على البوليميك غير موجود في بلدان الجنوب حيث آليات التفكير والممارسة مبنية على قاعدة سلفية او محافظة، لا مجال فيها لوضع الآخر ضمن معادلة المساواة على قاعدة انسانية شاملة.
واستخدم الغرب المحرك المعرفي في اقتحامه للعالم انطلاقاً من مفهومه الديناميكي والتوليدي والتجاوزي لهذا المحرك في مقابل استكانة معرفية لافتة في بلدان الجنوب حيث الغلبة للتقليد والنقل. وبهذه النظرة الجديدة الى العالم أعاد الغرب صياغة نفسه والعالم المحيط به والانسانية ككل، محققاً تفوقاً نوعياً في معرفته المتقدمة للطبيعة والذات والآخرين. وفي حين ظلت جامعات الجنوب جامعات نقلية رغم التصاعد الكمي في أعداد الطلاب والأساتذة والمباني، كان الغرب يجدد معارفه باستمرار على اسس نسبية وعقلانية. وعلى سبيل المثال لم تنتج الهند ومصر والمكسيك التي يفوق عدد سكانها مجتمعة بعشرين مرة عدد سكان فرنسا سوى 58 في المئة مما تنتجه فرنسا من ابحاث، "20301 عنوان بالمقارنة مع فرنسا 34766 عنواناً عام 1998".
واعتمد الغرب في خروجه من القرون الوسطى التنظيم الاجتماعي المؤسس على أفكار الدولة الجمهورية والمواطَنة وحكم العقل والقانون، وقد جاء هذا النهج مغايراً على المستوى النوعي مقارنة مع الادارة المعتمدة في بلدان الجنوب على الولاءات الطائفية والقبلية. ما يضعنا امام ديناميتين تحكمان العالم تقوم احداهما على سيادة المجتمع في حين تقوم الاخرى على ادارة تقليدية تحجب عنه السيادة والحرية.
المحرك الأساسي الآخر الذي تأسس عليه تفوق الغرب يتمثّل في فكرة الربح المرتبطة عضوياً في الذهنية الغربية بفكرة التقدم الاقتصادي والاجتماعي، فالربح بالنسبة الى الغربي هو الناتج الشرعي لنشاط اقتصادي يهدف الى تقدم الفرد ضمن الجماعة ، حتى انه يمكن اعتبار الرأسمالية ظاهرة حضارية غربية بامتياز بينما في جنوب الأرض هناك رأسماليون ولكن لا وجود لرأسمالية.
مقارنة مع الحضارة الغربية التي فعّلت تفعيلاً متناسقاً المحركات الذهنية الخمس، اكتفت الحضارات الماضية بتفعيل محرك ذهني رئيسي تمحورت حوله دينامية الحضارة برمتها. فالاختلاف بين هذه الحضارات والحضارة الغربية إذن، كامن في المنهج الذي ميّز مجتمعات الغرب عن سواها وليس في تفوق نظري للغرب على الشرق. بعض الشعوب القديمة لجأ الى محرك ذهني اساسي او الى محركين ذهنيين اساسيين لفرض سيطرته الاقليمية. فعند الفراعنة ظاهر محرك الهيمنة محرك المعتقد الديني. لكن المحرك الثاني توقف مع افول الفرعون. وعند الهندوس اشتغل محرك التنظيم مع محرك المعتقد الديني لكنه ارتهن له. وعند العرب اشتغل محرك المعتقد الديني الى جانب محرك المعرفة، لكن الاول رسم أفقاً محدوداً للثاني. وعند العثمانيين اشتغل محرك الهيمنة الى جانب محرك الربح لكن سوء تحريك المحرك الثاني ادى الى تعطيل مفعول الاول.
لذلك وبسبب تضارب دينامية المحركات، تعطلت الحركة في معظم التجارب الحضارية او انها اقتصرت على محرك واحد سرعان ما اصابه الترهل. عند الصينيين فقط تناغم محرك التنظيم مع محرك المعتقد الفلسفي فأتت النتيجة تمدداً افقياً وعمودياً للتنظيم في حياتهم ماضياً وحاضراً. الحقيقة ان الحضارة الغربية حققت تموضعاً جديداً لحركة المحركات الذهنية باتت معه تشتغل بشكل نابذ من الفرد باتجاه المجتمع فالوطن فالعالم برمته. في حين ان حركة المجتمعات الأخرى بقيت محصورة في جبذ وابتلاع يعيدان كل ابداع الى الداخل، الى نواة العصبية الأم المتحكمة بمسار الامور كافة، فراوحت لذلك فاعلية المحركات الذهنية مكانها.
في نظرة اجمالية نرى ان الكتاب يشكل دراسة سوسيو – معرفية تاريخية شاملة لصعود الحضارات الانسانية وانحطاطها تبعاً لتعاملها مع محركات اساسية توجّه المجتمع الانساني، وقد استطاع المؤلف ان يؤسس اطروحته على اطلاع وثيق بالحضارات القديمة والحديثة بما يقدم اسهاماً فعلياً في فهم طبيعة المأزق الحضاري العربي واشكالية العلاقة بين الحضارة الغربية وغيرها من الحضارات، لكن ذلك لا يعفينا من مناقشة بعض افكاره واطروحاته، ومنها:
أ – قول المؤلف "ان أحداً من كتاب النهضة لم يبلور ارتباط الحداثة الغربية بتنظيم جديد ومختلف في الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية" لا يأخذ في الاعتبار إسهامات اساسية للنهضويين في هذا المجال وبالأخص فرنسيس المراش طليعة الليبراليين العرب الذي ربط في روايته "غابة الحق" 1865 وفي كتابه "رحلة باريس" 1867 بين الحداثة الغربية وبين التنظيم العقلاني والسياسي الاجتماعي الذي عرفه الغرب مع نهضته الحديثة ، والذي وقف وراء عمرانه وازدهاره وتفوقه على بقية الشعوب.
ب – اذا كانت الرأسمالية أدت الى اتساع الطبقات الوسطى كما يقول المؤلف، فإنها أيضاً ومنذ مرحلة مبكرة قد أدت الى تفاقم الهوة الطبقية والى الفقر حتى باتت الثروة في قبضة اقلية ضئيلة في قلب المجتمع الرأسمالي بالذات، وإن هي تداركت بعض أزماتها فذلك بفضل النهب الذي مارسته على شعوب الجنوب، وليس صحيحاً في رأينا اعتقاد المؤلف ان "محو الفروقات الاقتصادية والتخفيف من التمييز الطبقي كان في صميم صيغة الحكم التي شكلت بديلاً حقيقياً للأنظمة الملكية والامبراطورية السابقة" حيث أشارت تقارير التنمية البشرية دائماً الى فداحة الفجوة بين الفقراء والأغنياء والى وجود فئات واسعة من المهمشين والفقراء في اغنى المجتمعات الرأسمالية.
د – ليس من المؤكد، كما يعتقد المؤلف، "ان الغرب يستطيع متابعة سيطرته على العالم على هذا النحو لمدة طويلة جداً، باللعب على قوة محركاته الذهنية المتناسقة" فقد بدأ هذا الغرب يعاني من أزمات اقتصادية كبرى في مقابل صعود مميز للصين، كما ان الغرب سيواجه حركات راديكالية تهدد زعامته في الصميم، وليس ما يجري في العراق وأفغانستان وباكستان وفي أميركا الجنوبية سوى إيذان بانصرام عهد الاطمئنان الى إذعان الشعوب واستسلامها.

كرم الحلو

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...