الأرضية التي قامت عليها فلسفة ما بعد الحداثة
مروان خورشيد:
استمعت الى محاضرة حول جذور فلسفة ما بعد الحداثة.. عنوان المحاضرة (الأرضية التي قامت عليها فلسفة ما بعد الحداثة) .. لخصتها لكم على شكل حوار بيني وبين صديقتي راما:
في البداية مقدمة قصيرة عن جذور الحداثة نفسها قبل الحديث عن ما بعد الحداثة:
يقول هيغل إن الذي اكتشف أرضية الحداثة هو ديكارت، ولكي نوجز هذه الأرضية نقول إن الحداثة تقوم على الذاتية (الأنا البشرية)، وعلى العقلانية، على الثقة في الإمكان العقلي البشري، هذا هو مشروع فلسفة الحداثة.
الحداثة إيمان بالعقل والعقلنة، أو كما قال هيدغر بأنها الفلسفات الذاتية، ولعل لفظ الذاتية، أي الأنا البشرية، أدق من قول العقل، لأننا يمكن بهذا أن ندخل حتى الفلسفة التجريبية في الحداثة من منطلق تشبثها بالذات. لأنه حتى الفلسفة التجريبية التي تقول إن العقل لوح فارغ وصفحة بيضاء، هي تنتهي إلى أن المعرفة نتاج الذات البشرية، لأن الحواس هي التي تنقل معطيات الإدراك إلى الداخل فتنتج المعرفة بالإمكان الذاتي البشري، وإن نفت وجود القبلي والفطري فيها.
وهذا تأليه للعقل وهو جوهر الحداثة.
لكن هذا التأليه للعقل سيصطدم بطبيعة الأصنام، لأن طبيعة الأصنام ستسقط إن طال بها الزمان أم قصر، بمعنى أن الكائن الذي يزعم نفسه إلهاً لا بد أن يبهت بأسئلة الحياة وأسئلة الفكر.
العقل مع الديكارتية زعم نفسه إلهاً، وهنا لا نقول ديكارت وإنما الديكارتية وأتباعها الديكارتيين كلهم.
ثم بدأ شيء من التشكيك من قبل الفلسفة التجريبية فيه، في العقل، فتمّ خدشه.
بعدها من داخل العقلانية جاء شخص بمشروع يبدو في البداية أنه مشروع إعادة بناء العقل، فإذ به كشفٌ لنقص العقل، وهو كانط، حيث أوصل العقل إلى الحائط، وقال له إن إمكاناتك أيها العقل محدودة في الظاهر فقط.
هذه الضربة الكانطية ستنتج فيما بعد مشروع ما بعد الحداثة.
لماذا يا مروان؟
لأنه لو ذكرت لكِ يا صديقتي تيارات الفلسفة الحداثية ستلاحظين أنها كلها محاولات تجاوز الحداثة.
كيف محاولات تجاوز للحداثة؟
مثلاً من بداية منتصف القرن التاسع عشر ظهرت الماركسية. الفلسفة الماركسية بماديتها الجدلية وماديتها التاريخية تنتهي إلى ماذا؟
إلى ماذا؟
تنتهي يا صديقتي إلى أن العقل البشري (أي الفكر) نتاج علاقات إنتاجية اقتصادية، وبالتالي لم يعد ذاك العقل إلهاً يحمل الحقيقة ومعطياً لها، صار بيد أدوات الإنتاج، بيد الفأس والمنجل وإيقاع الآلة، وهي التي ستشكل العقل.
هاتِ مثالاً آخر يا مروان؟
إذا بقينا في نفس القرن (التاسع عشر) سنجد في علم النفس سيجموند فرويد. سيجموند يقولها لكِ صراحة وإن لم يعبّر بلفظ (ما بعد الحداثة) فإنه عبّر بمنطوقاتها كلها، يقول في نص شهير له:
إن الكبرياء البشرية ضُربتْ في تاريخ العلم ثلاث مرات.
باختصار من فضلك صديقي.
هو كذلك يا راما...
أما الضربة الأولى فقد كانت على يد كوبرنيكوس، عندما قال للإنسان إن الأرض التي تظن أنها مركز الكون ليست سوى نقطة متناهية في الصغر، دائرة وتائهة في الفضاء، وإن مركز الكون ليس هو بيتك بل الشمس.
فضربت النرجسية البشرية بهزّ اعتقادي في قيمة البيت الذي يسكنه الإنسان، أي الأرض.
بالضبط يا صديقتي... فقد توازنه، وخاصة رجال الدين، الذين تحركوا ضده فمات بسكتة دماغية، بينما تلميذه غاليليو غاليلي فرجوه نجوم الضهر.
هاتِ الضربة الثانية؟
أما الضربة الثانية التي ضُربتْ بها الكبرياء البشرية، (يقول سيجموند فرويد دائماً)، فكانت من قبل داروين.
كيف؟
لأن الإنسان قبل داروين كان يظن أنه متمايز ومتميز عن الكائن الحيواني، فجاء داروين ليقول له أنتَ أيها الإنسان سليل الكينونة الحيوانية، ولا فضل لكَ عن الحيوان كفضلٍ مائزٍ خاصٍ، وإنما أنت فقط درجة في التطور.
ضربه للإنسان في المقتل.
نعم، هو هذا بالضبط. رجال الدين فقدوا توازنهم أكثر... ولليوم غير متوازنين.
بقيت الضربة الثالثة، هاتها باختصار يا مروان، ولا تطيل الشرح، القراء عم يتململوا من الإطالة؟
أمرك أنتِ والقراء يا راما، اشربي عصيرك راح يبرد.
أما ثالث الضربات للكبرياء البشرية فأنا صاحبها، (يقول سيجموند فرويد عن نفسه)، وهنا سنرى أن أرضية الحداثة بدأت تتكسر.
كيف وشو عمل فرويد؟
كان الاعتقاد سابقاً أن العقل البشري هو مُنتج الحقيقة، وهو أداة الإرادة، ومُنتج المعنى، فكشفتُ (والكلام لسيجموند فرويد) أن العقل ما هو إلا جزءٌ بسيطٌ من كينونة النفس البشرية، لا يشكل إلا جزءاً من عشرة، وتسعة الأعشار الأخرى هي اللاشعور، هي اللاوعي.
ليس هذا فقط، بل اللاوعي هو الذي يتحكم بالعقل، ويقوده ويوجهه، فصار العقل عبداً للاعقل، بعدما كان إلهاً.
يعني هذا الرجل (سيجموند فرويد) ضرب الحداثة من المدخل السيكولوجي، بعد ما ضربها الأول (ماركس) من المدخل الاقتصادي؟
نعم، هو ما حدث.
كمل؟
❤️ ثم إذا اقتربنا يا راما من نهاية القرن التاسع عشر سنجد فيلسوفاً يموت في سنة 1900، بالضبط يموت في يوم السبت 25 أغسطس 1900، يعني على الحافة تماماً.
مَنْ هو يا مروان؟
هو فيلسوف الهدم والمطرقة نيتشه، الذي قال إن أكبر خطأ في التاريخ البشري هو الأفلاطونية (التي أقام عليها الدنيا ولم يقعدها).
أووف، ليش العصبية يا فريدريك نيتشه، لماذا؟
قال إن أكبر خطأ في تاريخ البشرية هو النزعة الأفلاطونية، لأنه منها بدأ إعلاء العقل على الغريزة.
ثم جاء هايدغر ليقول إن اللغة تتحكم في العقل، فصار تأليه جديد هو اللغة.
إذاً ما المقصود بتجاوز الحداثة بعد كل هاد الحكي؟
هو أن جميع فلسفات القرن العشرين والنصف الثاني من التاسع عشر حامتْ حول فكرة واحدة، وهي إسقاط العقل من مرتبته، إسقاط إله الحداثة، وهذا هو معنى التجاوز، تلك هي أرضيتها، وهذه هي الأرضيات المتقافزة التي انتقل إليها الوعي. نقول أرضيات متقافزة لأن (ما بعد الحداثة) ترفض أن تقف على أرض ثابتة.
اختم يا مروان؟
في النهاية هذه المحاضرة القصيرة هي فقط مقدمة لنفهم طبيعة فلسفة ما بعد الحداثة، والتي يقابلها في الأدب والنقد التفكيكية... بينما البنيوية في الأدب والنقد يقابلها في الفلسفة الحداثة.
وشكراً لكِ يا راما، كملي أركيلتك وعصيرك... ولكم يا أصدقاء الشكر أيضاً.
إضافة تعليق جديد