«داعش» يستهدف «العدو البعيد» ويفقد «التمكين»!
سواء اعترف تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» ـ «داعش» بذلك أم لم يعترف، فالمؤكد أنه يمر في واحدةٍ من أشد مراحله حساسية وخطورة. السماء فوقه مغلقة بأحدث الطائرات الحربية التي تحصي عليه حركاته وسكناته، والأرض تضيق عليه بعد أن رحُبت، وبدأت مساحات سيطرته تتقلص رويداً رويداً، فيما يرتسم في الأفق مسار سياسي بقيادة واشنطن وموسكو، عاصمتَي التحالفين اللذين تنقضّ طائراتهما عليه، مهدداً بعزلة التنظيم واجتماع خصومه ضده في خطوة قد تجعل مصيره مشابهاً للمصير الذي ناله غداة حرب «الصحوات» في العراق في العام 2007.
لذلك كان لافتاً أن يتزامن دخول التنظيم في هذه المرحلة الحساسة مع تدشينه سلسلة من أضخم العمليات الأمنية في تاريخه، من تبنّي إسقاط الطائرة الروسية فوق سيناء في مصر، مروراً بتفجيرات برج البراجنة في الضاحية الجنوبية لبيروت، وصولاً إلى هجمات باريس التي تعتبر أكثر هذه العمليات كفاءةً في التخطيط والتنفيذ.
وما يلفت الانتباه في هذه العمليات ليس تزامنها فحسب مع الهزائم الأخيرة التي لحقت بالتنظيم، وجعلته يخسر مزيداً من الأراضي التي كان يسيطر عليها سواء بيجي في العراق أو كويرس في سوريا، بل لأنها تعتبر بمثابة انقلاب كامل في إستراتيجيته التي سار عليها منذ تأسيسه على يد والده الروحي أبي مصعب الزرقاوي في العام 2003 وحتى وقت قريب.
فمنذ تأسيسه لم تظهر على التنظيم أي ميول لتنفيذ عمليات خارج حدود البلد الذي تأسس فيه، وهو العراق، بل ظلّ مواظباً على تطبيق سياسة «استهداف العدو القريب»، التي قيل إنها شكلت أحد أبرز الفروقات بينه وبين تنظيم «القاعدة» الذي كان يركّز نشاطه على «العدو البعيد». وطوال ثمانية أعوام أمضاها في العراق لم يشذ تنظيم «داعش» عن القاعدة السابقة، سوى في حادثتين اثنتين، الأولى اقتصرت على مساهمة لوجستية في تنفيذ الهجوم على منتجع طابا السياحي في مصر في العام 2004 الذي تبنته في ذلك الوقت «كتائب عبدالله عزام»، والثانية تنفيذ تفجيرات في أحد فنادق العاصمة الأردنية عمان في العام 2005، والتي تولى التنظيم فيها التخطيط والتنفيذ لوحده. وباستثناء هاتين الحادثتين لم يفكر التنظيم في تجاوز الحدود العراقية، وحتى عندما انتقل إلى سوريا في العام 2011 استمر على السياسة السابقة، وواظب على الالتزام بها طوال ثلاث سنوات.
وبالرغم من أن التنظيم دعا في أعقاب تشكيل التحالف الدولي لمحاربته بقيادة الولايات المتحدة في أيلول من العام 2014، لتنفيذ هجمات ضد المصالح الغربية في أنحاء العالم كافة، إلا أنه اكتفى في سبيل ذلك بمحاولة تحريض «الذئاب المنفردة» على تنفيذ عمليات فردية وشبه عشوائية ضد هذه المصالح، مع الإشارة إلى أن بعض العمليات في هذه الفترة وقعت في دول يتمتع التنظيم بتواجد فيها، مثل تفجير المساجد في السعودية أو اليمن أو متحف باردو في تونس، وبعضها وقع خارج حدود ولايته المكانية، كما في تفجير مسجد الصادق في الكويت أو مشاركته في عملية صحيفة «شارلي إيبدو» في باريس. وكانت هذه العمليات تقع في أوقات متقطعة، ومن ودون وجود رابط واضح بينها وبين القيادة العامة للتنظيم.
أما أن تقع ثلاث عمليات نوعية خلال اقل من شهر، وتستهدف كل واحدة هدفاً حيوياً في جهة مختلفة، وتظهر على الفور مؤشرات تربط بين المنفذين وبين قيادة التنظيم، فهذا يعني أننا أمام مرحلة جديدة ينطلق فيها «داعش» من قرار مركزي بتغيير إستراتيجيته واستبدالها بإستراتيجية جديدة قد يستمر في تطبيقها لفترة طويلة.
ففي عملية إسقاط الطائرة الروسية تسربت معلومات تفيد أن المخابرات المركزية (سي أي إيه) رصدت اتصالات بين قادة في «الدولة الإسلامية» وأتباعهم في سيناء قبل تحطم الطائرة الروسية وبعده، توحي بأن التنظيم كان خلف الحادث. وفي تفجير برج البراجنة اعترف أحد الموقوفين لدى الأمن العام اللبناني أن أوامر التنفيذ صدرت عن أبو أيوب العراقي (الذي يعتقد أنه شقيق سجى الدليمي)، وهو شخصية مركزية في «داعش» ويتولى منصب «والي دمشق» كما أنه يعد من بين المقربين شخصياً إلى زعيم التنظيم أبي بكر البغدادي.
أما في تفجيرات فرنسا فقد أكدت تحقيقات الشرطة أن العقل المدبر لهذه العمليات هو عبد الحميد عبود (أبا عود)، المعروف بلقب أبو عمر السوسي أو أبو عمر البلجيكي، والذي يتولى منذ آب الماضي منصب القائد العسكري للتنظيم في دير الزور. وقد لا يكون من قبيل المصادفة أن اجتماعاً طارئاً جمع بين أبي محمد العدناني وبين البلجيكي في أيلول الماضي، أي قبل أقل من شهرين من تنفيذ هجمات باريس. جميع هذه الدلائل تشير إلى أن قرارات التنفيذ في هذه العمليات هي قرارات مركزية تصدر مباشرة عن قيادة التنظيم العامة وليس عن قيادة الفروع، وإن كان الأمر يحتاج في النهاية إلى تنسيق بين المركز وبين الفرع المعني بالتنفيذ.
هذه المركزية تشير إلى متغيرات عدة طرأت على سياسة التنظيم: الأول أن «العدو البعيد» أصبح رسمياً هدفاً له أولوية عند قيادة التنظيم، وهو ما يعني عملياً أننا سنرى المزيد من العمليات التي تستهدف مصالح الدول الغربية وبعض الدول العربية في المرحلة المقبلة. والثاني أن التنظيم بدأ يستشعر أنه يفقد ميزة «التمكين» التي بنى عليها دولته المزعومة، لذلك أخذ يشق لنفسه طريق العودة إلى عهد «النكاية». وأخيراً، وهذه نقطة في غاية الأهمية وهي أن التنظيم تخلّى موقتاً عن سياسة استقطاب «المقاتلين الأجانب» وبذل الجهود لإقناعهم للانضمام إلى دولته، وأصبح يكتفي بتجنيد هؤلاء في بلدانهم، وحتى إعادة قسم من المتواجدين على أراضيه إلى بلدانهم الأصلية بهدف استخدامهم في تنفيذ عمليات نوعية ضد مصالح تلك البلدان.
وقد يكون من الصعب حالياً وضع تقدير دقيق لحقيقة موقف تنظيم «الدولة الإسلامية»، وتحديد ما إذا كان ينطلق في هذه التغييرات من لحظة ضعف يمر بها أم هو تكتيك يحاول من خلاله استيعاب الضربات التي تنزل فوق رأسه من كل حدب وصوب. لكن المؤكد أن الخيارات أمام التنظيم تضيق شيئاً فشيئاً، ولم يعد في وسعه القيام بالكثير لتغيير معادلة القوى على الأرض. لذلك من المتوقع أن يكون جوهر إستراتيجيته هو محاولة «الصمود» أطول فترة ممكنة، وإن اضطر إلى التخلي عن جزء كبير من الأراضي التي يسيطر عليها، لأنه يدرك أن معركته لم تعد معركة «تمدد» بل عادت لتكون معركة «بقاء» بالدرجة الأولى.
عبد الله سليمان علي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد