قصة مدينتين: أنقرا بمواجهة أنقرا
الجمل: سعت تركيا إلى التعامل مع معطيات تطورات الأحداث والوقائع الخاصة بحركة الاحتجاجات الشرق أوسطية الجارية منذ مطلع هذا العام، وما كان لافتاً للنظر أن ردود الأفعال التركية كانت أكثر انسجاماً مع التوجهات الأمريكية ـ الفرنسية ـ البريطانية، ومن أبرز الشواهد الدالة على ذلك الموقف التركي إزاء حركة الاحتجاجات السورية، فما هي خلفيات ردود أفعال ومواقف السياسة الخارجية التركية الحالية وعلى وجه الخصوص إزاء سوريا وبقية بلدان الشرق الأوسط، وهل سوف تشهد السياسة الخارجية التركية مرحلة العودة مرة أخرى إلى أحضان محور واشنطن؟
* أنقرا وإشكالية مقاربة "الحدث السوري": قراءة خاطئة أم نوايا جديدة؟
يقول خبراء السياسة الدولية، بأن العلاقات بين الكيانات الإقليمية والدولية، إما أن تكون علاقات تعاون، أو علاقات صراع، وفي هذا الخصوص فقد شهدت العلاقات السورية ـ التركية العديد من فترات التوتر والتهدئة، ولكن بعد صعود حكومة حزب العدالة والتنمية التركي، ومواقف سياسة أنقرا الخارجية بعد ذلك، فقد انتقلت العلاقات السورية ـ التركية إلى مجال التعاون، وبوتائر أسرع مما كان متوقعاً، ولكن، وبطريقة يغلب عليها اللامعقول، برزت ردود أفعال أنقرا إزاء حركة الاحتجاجات السورية، بما تضمن الكثير من المفاجأة والاستغراب، هذا، ويمكن الإشارة إلى النقاط التي رافقت واستصبحت أداء السياسة الخارجية التركية إزاء الحدث السوري، وذلك على النحو الآتي:
• المؤشر الأول: بدأت التصريحات التركية الرسمية إزاء الحدث السوري، وهي تتطابق بشكل كامل مع التصريحات الأمريكية والبريطانية والفرنسية، وخالية من أي خصوصية تركية، وكان اللافت للنظر أنها لجهة التوقيت كانت تأتي بعد التصريحات الأمريكية والبريطانية والفرنسية، بما خلق انطباعاً بأن أنقرا تسعى إلى التأكيد على مضمون التصريحات الأمريكية والفرنسية والبريطانية إزاء الحدث السوري، إضافة إلى بث الإشارات التي تفيد لجهة أن أنقرا قد أصبحت أكثر اهتماماً بتنسيق سياستها ومواقفها الشرق أوسطية وفقاً لمتطلبات أطراف مثلث واشنطن ـ لندن ـ باريس.
• المؤشر الثاني: تمثل في سعي أنقرا لجهة القيام بدور "الطرف الثالث" الساعي للتدخل من أجل التأثير على تطورات الوقائع والأحداث الجارية، وذلك عن طريق إرسال المبعوثين، إضافة إلى إطلاق وجهات النظر التي تحث على انتهاج توجهات معينة، وفي هذا الخصوص لم يعد خافياً على أحد المضمون الذي سعت تصريحات أنقرا إلى استخدامه إزاء وقائع وتطورات "الحدث السوري".
• المؤشر الثالث: تمثل في انتهاج سياسة المناورة على الخطوط الداخلية، وفي نفس الوقت المناورة على الخطوط الخارجية، وبكلمات أخرى أكثر وضوحاً، في نفس الوقت الذي ظلت أنقرا تلتزم فيه بتواصلها مع دمشق، فقد حدث أن قامت أنقرا باستضافة اجتماعات لخصوم دمشق، إضافة إلى تواجد بعض خصوم دمشق في أنقرا، وإذا كان التواصل مع دمشق يبعث بالإشارات الإيجابية. فإن احتضان خصوم دمشق يبعث بالإشارات السلبية، وقد أدت هذه المتلازمة المتعاكسة الإشارات إلى تزايد حجم اللايقين في توجهات سياسة أنقرا الخارجية. على الأقل خلال فترة الاحتجاجات السورية التي انقضت في الأسبوع المنصرم.
• المؤشر الرابع: تمثل في الطريقة التي تعاملت بها أنقرا مع حركة الاحتجاجات التي جرت فعالياتها في "الحدث التونسي" و"الحدث المصري" و"الحدث اليمني" و"الحدث البحريني". بشكل لم ينطوي على مجرد اهتمام أنقرا بتطورات البيئة السياسية الشرق أوسطية وحسب، وإنما على ما هو "أكثر وأكبر من ذلك"!.
وتأسيساً على هذه المؤشرات، فقد برزت المزيد من التساؤلات حول خلفيات حيثية الإدراك التركي لمكانة أنقرا في الشرق الأوسط. وأيضاً لدور أنقرا. ومدى الفجوة بين إدراك أنقرا لمكانتها ودورها في المنطقة، وإدراك الأطراف الشرق أوسطية الأخرى لمكانة ودور أنقرا.
* قصة مدينتين: هل وضع الحدث السوري "أنقرا في مواجهة أنقرا"؟
تشير معطيات التحليل السياسي، إلى أن دبلوماسية أنقرا الشرق أوسطية الأخيرة قد رفعت سقف الشكوك التي تفيد لجهة وجود مدينتين في أنقرا، الأولى أمريكية أوروبية غربية الملامح والخصوصية ، والثانية شرق أوسطية إسلامية الملامح والخصوصية:
• المدينة الأولى، أسستها الأتاتوركية، ووصلت إلى أعلى مراحلها خلال فترة الرئيس التركي تورغوت أوزال، والذي لم يترك شيئاً لم يوقع حوله اتفاقية تعاون مع إسرائيل وأمريكا.
• المدينة الثانية، أسسها العثمانيون، الذين أخذوا بأسباب الإسلام من دمشق خلال الخلافة الأموية، ولكن بعد الانقطاع الذي امتد لحظة صعود الأتاتوركية في منتصف عشرينيات القرن الماضي، وحتى عشية عام 2002م التي أرخت لصعود حزب العدالة والتنمية، فقد عادت هذه المدينة بوجهها الشرق أوسطي الأصيل وهي أكثر اهتماماً بإدماج نفسها في بيئتها التاريخية الشرق أوسطية.
شهدت أنقرا خلال السنوات الماضية المزيد من المنعطفات الحرجة، وعلى وجه الخصوص في الصراعات السياسية التي خرج فيها سكان المدينة الثانية وهم يحققون بقيادة حزب العدالة والتنمية (الإسلامي) الانتصار تلو الانتصار في مواجهة سكان المدينة الأولى المأهولة بأنصار حزب الشعب الجمهوري والحزب القومي التركي (القومي ـ الاجتماعي). إضافة إلى تحقيق المزيد من الانتصارات النوعية التي أدت إلى:
• إضعاف خصوم حزب العدالة والتنمية المتمركزين في المؤسسة العسكرية التركية.
• إضعاف خصوم حزب العدالة والتنمية المتمركزين في المحكمة الدستورية العليا التركية، وهيئة الادعاء العام التركية.
ولكن، على خلفية الحدث السوري، برزت بعض وجهات النظر التي سعى من خلالها الخبراء إلى مقاربة طبيعة الموقف التركي الرسمي إزاء وقائع حركة الاحتجاجات السياسية السورية الأخيرة:
• مقاربة الخبير الأمريكي جوشوا دبليو ووكر (باحث بجامعة هارفارد الأمريكية): تحدث عن الدور التاريخي الذي ظلت تلعبه أنقرا في منطقة الشرق الأوسط، وخلص إلى استنتاج يقول بأنه برغم أهمية أنقرا فإن دمشق هي التي تستطيع وحدها تحديد نجاح أو فشل الدور التركي في منطقة الشرق الأوسط، وبالتالي مهما كان وزن وحجم أنقرا كبيراً، فإنها لن تستطيع القيام بأي دور بمفردها طالما أن المفاتيح موجودة في دمشق.
هذا، وأضاف الخبير جوشوا قائلاً، بأن المتظاهرين الذين شاركوا في الاحتجاجات داخل سوريا، لم يرفعوا أي شعارات تطالب أمريكا أو بريطانيا أو فرنسا لجهة القدوم وتقديم الدعم لهم. وبالتالي، فإن أنقرا قد أخطأت كثيراً عندما سعت إلى تبني المواقف المتطابقة مع مثلث واشنطن ـ باريس ـ لندن، وهو أمر سوف لن يؤدي سوى إلى جعل أنقرا تبدو في نظر دمشق مثلها مثل هذه العواصم الثلاثة، وهو الأمر الذي سوف يؤدي بالضرورة إلى إضعاف قدرة أنقرا في الحصول على مفاتيح الشرق الأوسط.
• مقاربة الخبير كارفيللي والخبير كورنيل: تحدثت عن المنعطف الحرج الذي واجهته السياسة الخارجية التركية خلال الأربعة أشهر الماضية، وهو منعطف تضمن وضع أنقرا في مواجهة أحد أمرين: خيار دعم نشر الديموقراطية الغربية في المنطقة، ومعناه أن تسعى أنقرا إلى دمج برامج سياستها الخارجية الشرق أوسطية ضمن جدول أعمال برنامج واشنطن المتعلق بنشر الديموقراطية في الشرق الأوسط. أو خيار قيام أنظمة إسلامية سنية، ومعناه أن تسعى أنقرا إلى تقديم الدعم والمساندة لحركات المعارضة الإسلامية السنية الناشطة في منطقة الشرق الأوسط وعلى وجه الخصوص حركة الإخوان المسلمين.
أدى تداخل إرث المدينتين إلى تداخل خلفيات توجهات أنقرا الأخيرة إزاء موجة الاحتجاجات السياسية الشرق أوسطية، وعلى وجه الخصوص المتعلقة بـ(الحدث السوري)، فقد انطوت النوايا التركية على الجمع بين مسارين، ضمن جدول أعمال سياسة خارجية تركية، ضم الآتي:
• التعاون مع أطراف مثلث واشنطن ـ باريس ـ لندن في معطيات برنامج نشر الديموقراطية في منطقة الشرق الأوسط، وفقاً لمقاربات المنظور الأمريكي، بما يتيح لأنقرا استعادة وتعزيز روابطها مع حلفاءها الغربيين، وينعش علاقات أنقرا ـ واشنطن، ويدعم مشروع انضمام تركيا إلى عضوية الاتحاد الأوروبي، ويعزز مكانتها في هياكل حلف الناتو العسكرية والأمنية.
• التعاون مع الحركات السنية الإسلامية الشرق أوسطية المعارضة، بما يتيح لحزب العدالة والتنمية الإسلامي التركي، بناء تحالف إسلامي ـ سني شرق أوسطي كبير، يفسح المجال أمام مشروع أنقرا الهادف إلى إعادة إنتاج الإرث السياسي العثماني التقليدي ضمن نسخة عصرية جديدة.
الجمع بين الخيارين ورط أنقرا في إشكالية الجمع بين "رهانين" متعاكسين، وذلك، وكما يقول علماء المنطق: إن الجمع بين الشيء وضده يقود إلى التناقض. والتناقض يقضي بدوره إلى إبطال صحة الحجة وخطأ البرهان، والأمر واضح بكل بساطة: من غير الممكن الجمع بين مشروع نشر الديموقراطية الأمريكي. والمشروع الإسلامي. وذلك لأن أمريكا حددت بكل وضوح موقفها المعادي للإسلام والمسلمين. بما في ذلك معاداة حزب العدالة والتنمية نفسه، والذي سعت أمريكا وإسرائيل إلى استهدافه بواسطة العديد من "الأيادي الخفية". والمعروفة جيداً للزعيم التركي أردوغان والزعيم التركي عبد الله غول.
ولكن، من المحتمل جداً أن تكون ورطة أنقرا قد حدثت بفعل عدم القدرة على قراءة معطيات الحدث السوري بالشكل الصحيح القائم على معرفة التفاصيل والحقائق والإلمام بحقيقة المعلومات التي شكلت خلفياته إضافة إلى محدوديته الصغيرة. التي سعى الإعلام الغربي والخليجي إلى تضخيمها بأضعاف ما هو حاصل بالفعل على أرض الواقع، وتأسيساً على هذه الفرضية، فقد سعت دمشق إلى إرسال سفيرها الجديد لأنقرا، وهو المهندس الرئيسي لاتفاقيات التعاون التركي ـ السوري، الذي يمثل المفتاح الرئيسي للدور الذي ظلت أنقرا تطمح لجهة القيام به في منطقة الشرق الأوسط. فهل يا ترى سوف تسعى أنقرا إلى الحرص على المفتاح الدمشقي. أم أنها سوف تضيعه، كما أضاعه كمال أتاتورك، وسليمان ديميريل، وتورغوت أوزال، وكنعان إيفيرين. وظلت أنقرا تبحث عنه دون جدوى طوال الحقب الممتدة من منتصف عشرينات القرن الماضي وحتى عشية انتخابات عام 2002م.
الجمل: قسم الدراسات والترجمة
التعليقات
فليسألوا روسيا!
إن الجمع بين الشيء ونقيضه هو
إن التماهي المؤقت الحاصل
التقرير ليس سوى صورة زائفة
تسويق تركيا
غلطة الشاطر بألف
إضافة تعليق جديد