كتاب الطفل السوري: مشاكل وهموم ومقترحات
يقول أراغون :( لا ثقافة بغير حب, إن الذي يحبّني يخلقني) فوق أرصفة دمشق, و على هامش الحياة و هامش الطفولة و الفرح نمرّ يومياً بالكثير الكثير من الأطفال الذين يبيعون أعمارهم و أحلامهم مع ما يبيعونه من بسكويت و علكة و أقلام و جرابات و أمشاط ومجلات التسلية كالشبكة و الموعد و طبيبك و غيرها من الكتب .
أطفال لا يعرفون القراءة و الكتابة و لم يتعرفوا بعد على الكتاب المدرسي و لا القصص المصورة و حكايات السندباد, إذ ليس الكتاب أبداً من مفردات حياتهم اليومية, بل إنه ترف لا يقدر عليه أهلهم المستميتون في البحث عن لقمة الخبز وشربة الماء و بضعة امتار مربعة في إحدى ضواحي دمشق المتكاثرة كالعلق على جسد المدينة, ليحولوها بقدرة الصبر وحده إلى مأوىً و ليس إلى بيت !!
و في علم النفس نجد حكاية عن طفلة في مدرسة داخلية كانت تظل صامتة لفترات طويلة منشغلةً بكتابة رسائل حتى أصبحت مثار شكّ لمعلماتها اللواتي حاولن مراقبتها لاكتشاف سرّها الذي تبين لاحقا من خلال رسالة مدعوكة وضعتها في جذع شجرة, كانت قد كتبت عليها : إلى كل من يجد هذه الورقة: أحبك !
إن المعنى الحقيقي الكامن في جملتها هو من أحدٍ في هذا العالم يريد ان يهتم بي؟ وهكذا فالأسئلة التي تطرح نفسها هنا هي:
هل تعلمنا نحن كيف نحب اطفالنا لكي نمنحهم ثقافة و معرفة تمكنهم من حياة قادمة طويلة و صعبة؟
هل يكفيهم الكتاب المدرسي و مناهج التربية القائمة حالياً لتنمية ثقتهم بالنفس بما يشحنهم بقوة دفع و توثب وإقدام على عالم جديد و غريب ؟
هل تعلمنا ان نكتشف قبلهم و معهم اهمية كتاب الطفل و أدبه بكل فروعه من روايات و قصص و مسرح و شعر في تكوين ثقافة جيل, و ذائقة حساسة للجميل و متفهمة للمختلف الآخر الغريب شكلاً و مضموناً؟
ألم يدرك القائمون على مناهجنا التربوية ان (الكتاب ) على قدرٍ كبير من الأهمية بما يتوازى مع أهمية الكتاب المدرسي لتربية و تعليم صغارنا الذين باتوا يهربون من الاثنين معا, ومن مواجهة فروض مدرسية يدرك الكثير منهم بفطرتهم وحسهم الموهوب انهم أكثر قدرة من محدوديتها و جمودها؟
ففي القانون الداخلي لوزارة التربية في سورية بند يمنع إسقاط او إتلاف أي كتاب من مكتبة المدرسة حتى لو اهترأ و تعفن و أكلته جرذان الأقبية في المدرسة بدون العودة لاستشارة شعبة أمناء المكتبات المدرسية, بل يمنع شراء أي كتاب جديد من أي نوع كان بدون الرجوع إلى دائرة الرقابة في التربية. و الطريقتان الوحيدتان اللتان يتم بهما تزويد أي مكتبة مدرسية بالكتب الجديدة, مع مراعاة عنصر الرقابة طبعا, هما: بأن يتبرع احد الأهالي بمجموعة من مكتبته الشخصية و هذا ما لا يحصل إلا نادراً. أو بأن تتم مناقلة كتب مدرسة إعدادية إلى أخرى ابتدائية بدون أي اعتبار لعدم تناسب كتب هذه المرحلة مع تلك !! و تزداد المأساة حين نعلم ان ليس هناك ما يسمى (بالحصة المكتبية) مخصصة للقراءة و استعارة الكتب, و لا يوجد قاعة صغيرة مزودة و لو بطاولة و مجموعة كراسي كمكان يلفت انتباه الطلاب أيضاً إلى اهمية علاقتهم بالكتاب غير المدرسي. بل نزداد أسى حين نعلم أن معظم أمناء المكتبات المدرسية -وهو في الواقع منصب حديث ارتأته وزارة التربية مؤخراً- محالون صحيّا إلى هذا المنصب ليرتاحوا, أي انهم إما من خريجي معهد رياضة أو صف خاص, و لا علاقة لهم بالمكتبات ولا بالفهرسة و التصنيف و بالعناوين المهمة و المفيدة للطفل, ولا بطريقة الإعارة لطلاب يضيعون و يتشتتون بين حاجتهم لفترة الاستراحة والفرصة لشم الهواء وأكل السندويشات و تحريك اجسادهم المحشورة كالسردين في مقاعدهم (45 طالباً في كل شعبة), و بين تزاحمهم و تدافعهم ل(قنص) أي قصة لا على التعيين من المكتبة, باعتبار ان أكبر عدد من الكتب في معظم المدارس التي زرتها 60 كتاباً لأكثر من 2000 طالب! تقول لي أمينة مكتبة احدى المدارس كي لااعتب عليها و كأن المسألة شخصية: و الله بصراحة كنت إجازة أمومة لأكثر من 3 أشهر وما بعرف شو عندي كتب في الخزائن, لأن معلمة اللغة العربية هي التي تعرف و تستعير لطلابها.
و يقول لي أمين مكتبة آخر بفخر لينال إعجابي بإنجازه الخارق: (وحياتك ما كان في غير عشرين كتاباً بالمكتبة و أنا قدرت أنو أرفع العدد للستين كتاباً مو منيح هيك ؟!).
هل يحق لي أن أترجم رؤيتي لما يجري في بلدنا: بأن وزارة التربية و مديرياتها أذكى من ذلك بكثير, إذ يبدو أن لديها منهجية في تفريغ العقول من المعرفة الحقيقية التي تسمح للمرء بان يدرك أكثر مما هو ظاهر و مرئي للعوام و الناس البسطاء, إنها منهجية في تجويف الطلاب أمل المستقبل الواعد - هذا الشعار الفاقد لأي معنى واقعي - من إمكانيات كشف علاقات الواقع المعقدة التي تربط بين السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي و الديني. فهل من المعقول أن يحاول أحد المعلمين منع كتب الشاعر نزار قباني في إحدى مدارس البنات للمرحلة الأساسية (التاسع) باعتبارها كتباً تعلم البنات (الصياعة و الضياع) على حد زعمه?! رغم انه و الحق يقال في أربع من المدارس التي زرتها لم أجد سوى كتب أشعار سليمان العيسى وحافظ إبراهيم ونزار قباني وكأنه لم يبق لدينا في سورية وفي الوطن العربي وفي العالم سوى هؤلاء الشعراء و مجموعاتهم الوطنية مع احترامنا الشديد لهم جميعاً!!
و هل المنهجية ذاتها هي ما جعلت مدير مدرسة مجاهد العامري الدمشقي للحلقة الأولى في منطقة الدحاديل البالغ تعداد طلابها 2000 طالب الأستاذ محمد الرباعي بالتعاون مع امين المكتبة السيد علي محمد و لمدة ست سنوات يمتنعان عن شراء أو تزويد الخزائن الحديدية السبع الصدئة, المقتولة بالغبار, بكتاب واحد جديد بالرغم من انها لا تحتوي سوى (على رف واحد فقط 60 كتاباً هي عبارة عن قصص مترجمة من (الأدب السوفييتي) و أخرى دينية و سلسلة صغيرة من كتب البيئة), مكدسة في غرفة يسمونها غرفة المعدات العلمية و المليئة بكل شيء للإتلاف عدا الوسائل العلمية؟!
أسأله ألم تستطع أن تجد و لو بنداً واحداً من بنود صرف أموال التعاون و النشاط و المطبوعات التي يجمعونها من الطلاب والبالغة (80 ليرة* 2000 طالب = 160000 ألف ليرة سورية) لشراء الكتب?!
يجيبني بلا تردد كما اجابتني مديرة مدرسة سمية المخزومية في المزة البالغ عدد طلابها 650 طالباً السيدة بديعة سويدان: بالتأكيد لا من غير الممكن أبداً رقابياً و مالياً, فكثيرة هي المرات التي نضطر فيها لأن ندفع من جيوبنا على كثير من التفاصيل فالمبالغ المجموعة من التلاميذ في مدرستي تصرف كما يلي:
التعاون: 5 ليرات مضروبة ب 650= 4750 ليرة يذهب منها 7% إلى التربية والباقي لشراء الطبشور و السجلات وأدوات النظافة و...الخ
النشاط : 50 ليرة مضروبة ب 650 = 32500 ليرة يذهب 50% منها إلى التربية و الباقي فقط لشراء أدوات الرياضة (و لكم أن تتخيلوا معي ما ادوات الرياضة: طابة كرة قدم ب 150 ليرة و مجموعة حبال للنط و طابات لكرة السلة التي تهترىء في الشمس لسنوات دون تغيير و و ..)
المطبوعات: 26 ليرة مضروبة ب 650 = 16900 ليرة جميعها تصرف على أوراق المذاكرات و الأسئلة الامتحانية !! و ما يذهب إلى وزارة التربية يعاد توزيعه على المدارس كدعم لاستكمال النواقص و شراء مجلة المعلم العربي ومجلة الطليعي (وفي الواقع قلة قليلةجداً من الأساتذة ومن الطلاب يقرأ هاتين المجلتين, هذا إن كانوا يعلمون بوجودها أصلاً!!)
و يكملان- كلٌ على حدة - تقريبا بنفس النبرة الساخرة و المتحسرة على الحال: فكيف بعد كل هذا تريدنا ان نفكر بشراء الكتب و نهتم بأمور المكتبة عندما تغيب الأمور الأساسية أحيانا كالمقاعد الدراسية أو حتى غرفة مخصصة للمعلمات و المعلمين التي أفرغوها لتستوعب العدد المتضخم من التلاميذ كل عام اكثر من سابقه ؟!!
أصحيح أن وزارة تربية و شعبة أمناء مكتبات و الموجهين التربويين لا يستطيعون أن يقدموا مدرسة جيدة تضم مكتبة قيمة? بالتأكيد نعم, إذ ان مدرسة سميّة المخزومية المذكورة هي نموذج للتفاخر و لتكون ديكوراً إعلامياً أمام كاميرات التلفزيون ,المحلي طبعاً, عندما تمارس وزارة التربية نشاطات وطنية من قبيل عيد الشجرة والدورات التدريبية الطلائعية و دورات تدريب المعلمين !! و لكن السؤال ا لحقيقي هو: هل يستطيعون ان يبنوا علاقة متينة بين الطلاب و المكتبة التي لا يعرف الكثيرون منهم وجودها في مدرستهم? بالتأكيد تعرفون الكثير من الأمثلة!!
ولكنني بالفعل أعاود تساؤلاتي نفسها: إذ عندما تسجل المنظمة العربية للثقافة و العلوم أكبر نسبة أمية في العالم العربي, سبعون مليون أمّي في العام ,2005 وفي سورية تقول البيانات الرسمية و التقارير الممهورة بقلم المنظمات الدولية إن إجمالي عدد الأطفال دون سن ال 18 يقدر ب7.7 ملايين طفل, و بحسب دراسة نفذها معهد(فافو) النرويجي بالتعاون مع المكتب المركزي للإحصاء يكون عدد الأطفال الذين تسربوا من المدارس السورية هو 152 ألف طفل!! وبربط بسيط بين الأرقام, هل لنا ان نتخيل كيف هي حال القراءة عند هذا القطاع الضخم و المهم جدا من البنية الديموغرافية السورية? و نتساءل كيف ستكون القراءة و الكتاب من الأمور التي تنمو و تتجذر في عقول أطفالنا حين لا تكون أصلاً من عادات الأهل و ليست جزءاً من الحياة اليومية و الأفعال المتبادلة للعائلة بما يمكن أن يجعلها أيضا نشاطا ذهنيا مهماً و أصيلاً في حياة أطفالنا??
لعلها كانت خطوة رائدة أن تقوم وزارة الثقافة في 1969 بإصدار مجلة أسامة التي صيغت بأقلام العديد من أهم كتاب تلك المرحلة مثل زكريا تامر و سليمان العيسى و حسيب كيالي و مصطفى عكرمة و ليلى صايا سالم و نجاة قصاب حسن و دلال حاتم و غيرهم ممن كونوا حركة أدب الأطفال في عدة مجالات كالقصة و الشعر و المسرح . و كذلك (كتاب أسامة الشهري) الذي بدأ إصداره عام 1981 و انتظم شهريا حتى عام 1985 ثم تعثر! .
كما أغنت وزارة الثقافة و اتحاد كتاب العرب في الثمانينات حركة النشر الرسمية و (الخاصة مثل دار الحافظ في دمشق و مكتبة ربيع في حلب و دار الفكر بدمشق و..) إذ انهما أسسا لكتب الأطفال بترجمات عديدة عن الانكليزية والفرنسية و الروسية بجهد كبير قاما به بالتعاون مع المترجمين و الأدباء لصياغة مشروع أدب أطفال لم يتكامل في المضمون و الشكل و جمالية الاختيارات فالعديد من كتب تلك المرحلة غلبت عليها الشعاراتية و التعليمية إذ كان الموضوع هو النضال من اجل القضايا الوطنية و القومية العربية مثال قصة الأغنيات الجميلة حين ترد على لسان بطلها الصغير عبارات من قبل (الأرض ملكٌ لمن يعمل بها) بدون مراعاة مستوى نضج الشخصية العمري و المعرفي (1) . كما صيغت مضامينها بإحالة الصراع دوما إلى صراع خارجي و تجريدي و خيالي و إقصاء احتمالية وجود صراع نفسي وجودي ليكتشفه الطفل عن طريق التأمل أو التفكير التأملي .
و باعتماد أسلوب الحديث بلغة الحيوانات كأبطال للحكايات بما بفقد الطفل إمكانية المشاركة و التماهي مع بطل او شخصية القصة فيما لو كانت بشراً ذات انفعالات و أفعال و ردود أفعال مشابهة لتكوين الطفل, مثال معظم نتاجات الأديبة لينا كيالي و بعض قصص دلال حاتم و موفق أبو طوق و محمد قرانيا و غيرهم (2), رغم جماليات الكثير من قصصهم و جمالية هذا الأسلوب و لعل المثال الذي يحضرني هنا دفاعاً عن هذا الأسلوب هو كتاب كليلة و دمنة المشهور .
و بتجاهل أن الطفل أذكى و أكثر قدرة على التفهم و أوسع خيالاً من الوعظ و الفكرة الثقيلة عن الخير و الشر باعتبارهما جوهرين لا يمكن أن يلتقيا في نفس المرء الطفل. و نسيان أن أبطال الحكايات و القصص هم أشخاص مثلنا يخطئون و يرتكبون الحماقات رغم كونهم طيبين و أخياراً!
ولا يمكن هنا ذكر تشعّبات و تداخلات المواضيع الأخرى في بنية أدب الأطفال إذ يحتاج إلى أكثر بكثير من الدراسة الوحيدة التي قامت بها اليونيسيف بالتعاون مع وزارة الثقافة لإصدار كتاب مهم عام 2003 هو (أدب الأطفال في سورية من 1970 و حتى 2002) إذ لم تبحث أي من الدراسات الأربع رغم أهميتها في شكل الطباعة مثلاً و الصور الملونة و نوعية الورق المستخدم و نوعية الأغلفة باعتبارها جزءا مهما جدا من (صناعة) أدب الطفل و جزءا مهما أكثر في رسم مخيلة الطفل و ذاكرته. و اكتفت الدراسات الأربع رغم وجود بعض فقرات تحليل المحتوى بذكر أرقام و إحصائيات مهمة دون التطرق لعدد من المواضيع الحساسة كموضوع التربية الجنسية عند الطفل او التربية الدينية او حتى مشكلة عمالة الأطفال و المشردين منهم و العصابيين و الإعاقة الجسدية إذ ربما مرد ذلك أصلا إلى قلة الكتب التي تناولت هكذا مواضيع عند الأطفال.
و لكن ما الذي يحصل الآن؟ و أين وصلت تلك التجارب؟ و إلى أي مدى يمكن أن نعوّل على مديرية ثقافة الطفل التي تم تشكيلها حديثاً وتتبع لوزارة الثقافة? و ما احوال المشاريع الأخرى التي تتبناها دور نشر خاصة؟
مديرة ثقافة الطفل الآنسة ملك ياسين أصرّت على اهمية ما تفعله المديرية إذ انها تعمل بتوجيهات وزير الثقافة السابق بأن لا يقل حجم الإصدارات عن 25 % من مجموع إصدارات الوزارة و بالمسابقات الأدبية سواء تلك التي للموهوبين الأطفال أنفسهم او لأدباء الأطفال الكبار و أن ليس بإمكاننا الحكم بهذه السرعة على مديرية حديثة التشكل تحتاج إلى كوادر للتأليف و للترجمة و للرسوم المصورة و للتدقيق اللغوي و غيرها. و لا تنسى ما تفعله المديرية مع اليونيسيف من حيث الاهتمام بالمناطق الريفية و البعيدة فقد قررنا إهداء الأطفال المتحررين من الأمية مجموعة من الكتب (عشرة عناوين فقط) عن المواضيع المتعلقة بالريف معتمدة على بساطة القصة و الصور و متناسبة مع ظروف تحررهم من جهلهم بالقراءة و الكتابة.
و لكن يبدو أن لا احد منا سواء كأفراد او كجهات حكومية قادر على الاعتراف أو توضيح صريح و مفهوم للبطء الكبير في آلية العمل أو لعدم انتظام أي من المشروعات الصغيرة التي تبدؤها الوزارة أو المديرية إذ هل يعقل ان لا تصدر وزارة الثقافة مديرية ثقافة الطفل بحسب قوائم الوزارة نفسها, سوى5 عناوين عام ,2003 و 7 عناوين من بينها عنوان مترجم واحد إضافةً للدراسة المشتركة مع اليونيسيف عن ادب الأطفال طبع منها 200 نسخة فقط و هذا عام 2004 بحسب إحصائية الوزارة بينما بحسب ما كتب على غلافه هو إصدار عام 2003 ! ليتبع ذلك 11عنوانا بالإضافة للعشرة عناوين المتعلقة بمشروع اليونيسيف لمحو الأمية المذكور سابقاً عام ,2005 لينتهي الوضع فقط بعنوانين عام 2006 الأول منهما مترجم! هل هذا العدد هو 25% من إصدارات الوزارة?
وإن عرفنا ان أكبر عدد للنسخ المطبوعة من بعض العناوين هو ثلاثة آلاف نسخة فسيكون ترجمة ذلك واقعياً انه لن يحصل أطفال وطننا الغلابى البالغون (8 ملايين طفل تقريباً) إلا على مزق و نتف من هذه الكتب التي يحظى بها أولاد وأصدقاء وأولاد أصدقاء مديري دوائرنا الحكومية و دوائرهم المقربة!!
فكيف والحال هذه يمكن تجاهل المشكلة المتعلقة بمطبعة وزارة الثقافة حين تصر- كما يرى المسؤولون في مديرية ثقافة الطفل و بعض المؤلفين - على تأخير مقصود في طباعة الكثير الكثير من المخطوطات الموافق على نشرها رقابياً و التي تكاد تهترىء و تضيع بين زيوت و شحوم مكنات الطباعة و تكاد سنوات استحقاق الوزارة من نشرها بالنفاد, بحجة دائمة من قبل مديري المطبعة المتعاقبين بأنهم مشغولون بما هو عاجل جدا من بروشورات معارض و بطاقات دعوات و ... و كيف يمكن تجاهل قضية مجلة أسامة التي عادت بشق الأنفس إلى الساحة ب(11 ألف نسخة فقط) و التي يحيل بعض الكتاب و الرسامين - رفضوا ذكر أسمائهم- مشكلتها الحالية إلى هيئة تحريرها غير الكفوءة لتتعين في منصب حساس لمجلة تعنى بالطفل تربويا و فكريا وأخلاقيا, إذ كيف لمجلة مهمة ووحيدة من نوعها ان ترتقي بمضامينها و هي تعتمد آلية عمل تقوم على المحسوبيات, و كيف سيعطي الكتاب إبداعهم و ضميرهم و هم يتقاضون أجورا بخسة على الصفحة الواحدة من 750 ليرة إلى 2000 ليرة كحد أقصى في حين تتقاضى صبية رسامة مقرّبة من رئيس التحرير السابق على كل صفحة تأليف و رسوم 3500 ليرة سورية.
و لكن رغم كل ما سبق من مشكلات حقيقية تنخر في نسغ حركة النشر للأطفال, إلا أنه لم يمنع السيدة أنطوانيت القس وهي القارئة والمترجمة في وزارة الثقافة و مديرية الطفل من القول بأن إصدارات الوزارة من الكتب المؤلفة افضل بكثير من الدور الخاصة التي تمتلك مشكلة تربوية, بمعنى أنها لا تدقق كثيرا على جودة منتجها من حيث القيم التربوية و عادات و تقاليد مجتمعنا و هذا ليس المقصود فيه الركون لهذه التقاليد فيما نكتب و ننشر كوزارة, إنما نحن نرفض الكتب الإرشادية و نرحب بالتي تثير أسئلة استنتاجية لدى الطفل و تربي المنطق لديه و بإمكانك المقارنة بين إصداراتنا و إصدارات الدور الخاصة. و يبدو ان ذلك قريب من الواقعية إذ تفصّل و تقسّم لي الكاتبة مريم خير بك (وهي عضو في جمعية ادب الطفل في اتحاد الكتاب العرب و صاحبة دار الحارث للنشر) سمات منشورات الدور الخاصة و أسباب عدم جودة بعضها بأن قسما كبيرا منها 50% بعيد عن الأدب و يقع تحت صفة الكتاب الديني الإرشادي و التقريري الذي قلما يراعي عمر الطفل و لا يخلق فعلاً إبداعياً عنده, و هذا مردّه إلى استسهال الكثير من الكتاب مواضيع الطفولة أو وقوع بعضهم الآخر- الذين رفضوا في المؤسسات الرسمية لا لعيب فيهم بل بسبب منطق المحسوبيات في تلك الدوائر- تحت ضغط استغلال الناشرين الذين يفكرون قبل كل شيء بأرباحهم بما يعني إملاءات على الكتاب ليكتبوا أفكارا متوافقة مع أفكار أصحاب دور النشر و هذا ما يفسّر وجود الكثير من الكتب مغفلة الاسم او بنفس المؤلف دوماً باعتبار المؤلف موظفاً في هذه الدار و ليس كاتباً حرّاً و مبدعاً.
المستثمرون لايضعون أموالهم في مشاريع تخص الأطفال والناس لايثقون بجودة مضامين الكتب المتوفرة في السوق فهم على خوف دائم من خسارة اموالهم في كتب تافهة و عليه توجهت لدار الغد الإنساني الذي ينشر سلاسل مصورة, يلونها و يلعب بها الطفل لمرة واحدة, مترجمة من نتاجات العالم الروسي و الإنكليزي و الفرنسي, بالسؤال عن احوال النشر في داره, فيجب: إنني لن أزايد عليك بالمعنى الوطني و لكنني أحاول ان أطبّق المعادلة بقدر ما استطيع أي مادة جيدة و موضوع مميز يساوي ربحا تجاريا. و ليس فقط غلاف مبهرج او صور لونية خادعة, و لكنه يتحسر بان دار النشر عموما هي مكان خاسر مادياً .
إضافة إلى الصواعق الكهربائية القادمة من الفضائيات العربية و غير العربية التي تصيبنا و تصيب اطفالنا بحمّى العنف و الركض وراء ثقافة استهلاك و شهوة شراء ألعاب و منتجات صناعية هي نفس الشخصيات الكرتونية التي يشاهدونها على التلفزيون, او يتلفظون و يرددون حكايات لقنهم إياها التلفزيون و أفلام الكرتون و الديجيتال بدلاً من حكايات الجدات و قصص الكتب المخصصة لهم, تؤكد لي صاحبة مكتبة ميسلون فكرة أن بعض الأهالي باتوا يهتمون بالأكل و البوشار أكثر من الثقافة و الكتاب, وصاروا في عجلة من أمرهم و كأنهم في عدوى شراء فقط ما هو ملوّن وغال السعر بدون اهتمامهم بالمضمون رغم انهم يكتشفون بعد حين سوء اختيارهم فيبدؤون بالشكوى !
ويؤيد السيد ياسين اللحام مدير فرع دمشق لمؤسسة الربيع التي قامت في حلب منذ عام 1984 و أصدرت اكثر من (1600 عنوان) و هو رقم كبير و مميز قياسا بإصدارات الدور الأخرى فكرةً معاكسة إنه لأمر صعب جدا ان تقدم مادة طفلية جديدة و جيدة تشد الطفل عما هو معروض في القنوات الفضائية و للأسف لدينا في سورية بعض الشركات التي تعتبر نفسها مختصة وهي محتكرة في الواقع, بمواضيع الطفولة تقوم بإغراق السوق بألعاب بلاستيكية لشخصيات فيلمية كرتونية لتزيد من ترسيخها في عقول اطفالنا و تثبيت فكرة انه من المستحيل اللعب و العيش و قضاء أوقات جميلة بدون هذه الألعاب او الشخصيات الكرتونية كلعبة (بطاقات اليوغي) أو لعبة (اليويو) و التي تكون تكلفتها بحدود عشر ليرات و يتم بيعها بسعر خيالي 250 ليرة سورية!! فتصور كيف سيكون مصير كتاب الطفل الذي رغم تكلفته الإنتاجية العالية و انخفاض سعر بيعه في السوق قياساً لسعر لعبة اليويو, يقبع على رفوف المكتبات وفي أدراج للمستودعات و في احسن الأحوال تشتريه إحدى المدارس الخاصة أو بعض الجمعيات الخاصة...؟
و يبدو أننا أمام تحد كبير لم يهتم به المستثمرون العرب, لصياغة مشاريع نشر متكاملة تعتمد على كوادر مؤهلة, مشاريع على شكل وكالات و تراخيص من شركات و مؤسسات عالمية و دور نشر أوروبية بما يغني الانتاج الفكري و المردود الثقافي لأدب الأطفال. أو مشاريع عربية مشتركة ضخمة تمكن من إنتاج و إبداع (كتاب عربي) بالالتفات إلى تشابه مجتمعاتنا العربية بما يشجع حركة النشر و التوزيع بين البلدان العربية.
بإصرار و بضيق شديد يروي لي مدير دار الربيع معاناته مع الجهات الحكومية في مجال التعاون لتحسين واقع النشر في ادب الطفل قال: منذ ثلاث سنين اتصلت بنا مكتبة الأسد مستعجلة تطلب مساعدتنا في إقامة معرض خاص مصغر لشخصية مهمة وكبيرة في عالم نشر أدب الأطفال على اعتبار اننا من أجود الدور الموجودة في سورية تهتم بالطفل و بالفعل اشتغلنا ليل نهار مع وزارة الثقافة و مع دار الحافظ و دار الحارث و دار الفكر و اتحاد الكتاب العرب, لأكتشف يوم الافتتاح ان الشخص المهم هو مدير أهم دار نشر في فرنسا تعنى بكتاب الطفل وانه مدعو لأجل تقديم اقتراحات لتحسين مستوانا في عالم النشر. و لنتفاجأ حين نشر خبر الزيارة في الصحف بأنه لم يتم ذكرنا إطلاقا نحن من فتحنا فيما بعد قنوات جديدة و مهمة جدا لأدب الطفل على الاتحاد الأوروبي بالتعاون مع ذاك الضيف. و عند استفسارنا عن السبب اعتذر المعنيون في مكتبة الأسد بان المشكلة من المكتب الصحفي في الوزارة و نحن نعلم تماما انه لم يكن أي صحفي من الوزارة ولا من المكتبة نفسها حاضرا على نقاشنا و هكذا ضيعوا و ميّعوا القصة وانتهت! و هذا يا سيدي مثال فاضح عن كيفية عدم تقدير الجهود الضخمة التي نبذلها و لكن لدار الحارث وجهة نظر مختلفة إذ تقول صاحبته: بأن الضيف مرّ مروراً على كل من منشورات دار الفكر ودار لحافظ وتوقف عند بعض منشورات الوزارة وعند القاموس والموسوعة اللغوية الصادرين عن دارنا وبالفعل عند دار الربيع ولكنه قال حرفيا: هناك مشكلة مهمة جدا وهي أن الاعمال المقدمة تفتقر في جزء كبير منها الى الخصوصية والهوية المحلية أو العربية إذ إن نماذج ورسومات دار الربيع ذات انتماء فني مشابه لما هوموجود في السوق العالمية والأوروبية.
يرد دار الربيع بانزعاج على استفزازي له بأن اصداراته منتشرة بسبب العلاقات الشخصية بأنه في بلدنا لا مكان إلا للعلاقات الشخصية مع دوائر الدولة وحتى مع اليونيسيف اضطررنا الى المجاملات والتوددات لكي نبيع بعض منتجاتنا رغم جودتها وحاجة اليونيسيف لها وأهمية استشارتنا في الدراسة التي قاموا بها عن أدب الأطفال على الأقل في الجزء المتعلق بدارنا وبمنشوراته وبطريقة عملنا وفكرتنا عن عالم النشر للأطفال.
إنها إذا المشكلة القديمة المتجددة دوما والغرق في دوامة التهميش للمتفرد والمبدع وتعليق الأهم من المشاريع واللعب في دوائر العلاقات الشخصية وكأن العمل الجماعي لا يقوم إلا على المحسوبيات واقصاء طرف لحساب أطراف أخرى.
أهي مرة أخرى ثقافة التبرير وتعليق المشكلة على شماعات الغير كسبب وكجذر لأي مشكلة حتى لو كانت متعلقة بمضمون الكتاب? فما يلقيه دار الربيع ودار الغد الانساني من عتب وحجج نحو الجهات الحكومية والدولية الراعية للطفولة يحجب ببساطة نقصا وعيبا في منتجات الدور نفسها فرغم كل الكادر الضخم والتمويل الكبير الذي يضخه دار الربيع للرسومات المتقنة بالفعل والجميلة إلا أن عدة من نماذجه تعاني نفس المشكلة من حيث تلقينه المواضيع وركون الكثير منها الى تقليدية في نماذج الصداقة عند الأطفال مثل كتاب حكايات وعبر وفي شكل التربية عند الأهل ومقولات العمل والدراسة وغيرها.
ألخص هنا بعض ما قاله الأهالي الذين قابلتهم في المكتبات العامة: نعم بالفعل إن ما يمنعنا من شراء كتاب الطفل هو غلاء سعره وتحديداً من الإصدارات المحلية كوزارة الثقافة واتحاد كتاب العرب قياساً مع جودته الفنية المتدنية و غير الملفتة لأطفالنا الذين يتلهفون للألوان الزاهية و الصور الكبيرة المتوفرة في بعض دور نشر أخرى, فليس من السهل ان تقنع طفلاً صغيراً بان مضمون الكتاب هو الأهم من فرحهِ بالألوان و أشكال الرسومات الكرتونية.
و نهايةً أجد ضرورة في الإشارة إلى أنه مع تطور عالم النشر و الاهتمام العالمي بالطفل ثقافياً و معرفياً ربما أصبحت أهمية ان يكتب الأطفال ما يفكرون به موازية لأهمية ان يكتب لهم الكبار بالنيابة عن أحلامهم و آرائهم, و ربما لذلك لم تتوان السيدة أنطوانيت عن التأكيد على قيمة و روعة الأدب المترجم كمادة جذابة من حيث ملامستها الأبسط لخيال الطفل و سهولة الدخول إلى عوالمه و أفكاره و أحلامه, وعن ترجمة كتاب جميل جدا بعنوان (الأنهار الضائعة) و هو مجموعة من 188 قصيدة بين طويلة و قصيرة لأطفال مختلفي الأعمار-للأسف لم تشر فيه من أي بلدان هم و عن أي لغة تمت الترجمة و ما تلك النظرية التي اشتغل عليها معلمو هؤلاء الأطفال ليتركوهم يبدعون ما أبدعوا- أصغرهم (فلور عمرها 4 سنوات و أكبرهم عمره 15 سنة) و لن أستطيع الخلاص من فتنة ذكر بعض من قصائدهم لجمالها كلها تقريبا و حيرتي من رهافتها وذكائها و عمقها النفسي و الوجودي احياناً لذلك اخترت أقصرها, من غير أن أقارن مثلاً مع القصائد الفائزة في مسابقة وزارة الثقافة الأدبية للأطفال عالم جدير بالأطفال 2003 إذ ان بعض القصص و المقالات جيدة, و إذ إنني أرأف بحال اطفالنا من أن نجعلهم عرضة لمقارنة و نقد علني لا يفيد بقدر ما يؤذي, كما أتلطف بهم من تشويه يلحقه بهم أهلهم و المسؤولون عن المسابقة حين يطبطبون على أكتافهم بأن جيد و برافو أحسنتم يا عصافير ثابروا وإلى الأمام في كتابتكم الإنشائية و المقيدة بالتلقين و المكبلة بأفكار الكبار تقول فلور: أنا سعيدة البارحة في المسبح لم أتقدم ولا خطوة و اليوم أنا أطفو أفضل مما يفعل القارب في الماء اوهذه القصيدة المجهول اسم كاتبها او كاتبتها و لكن العمر 5 سنوات : المطر ... سرير السماء ينقلب و يسقط أو قصيدة هزيمة الزمن لآنيت 11 سنة الزمن يدفن أحياناً في أعماق القلوب و عندما يموت احد ما يفرّ منه زمنه زمن الموسيقا يسمع وزمن الكاتب يقرأ, هناك من ليس لهم زمن, هذا ليس خطأهم لأنهم طيلة حياتهم يعملون, يعملون في المصانع, يعملون مع الآلات دون أحلام دون تفكير في مجتمع لا يترك للإنسان زمنا لأن يكون حرا زمناً للإبداع.
1- راجع دراسة نور الدين الهاشمي القصة السورية في التسعينيات /مجلة الموقف الأدبي/ آب .2000
2-راجع دراسة محمد برّي العواني/مجلة الموقف الأدبي/ آب .2000
إضافة تعليق جديد