في رحيل عمر الفرا

22-06-2015

في رحيل عمر الفرا

مات عمر الفرّا، وبقيت «حمدة» وحيدة!
رحل أمس الأحد في دمشق، عمر الفرّا (1949 ــ 2015/ الصورة) إثر أزمة قلبية. وكان الشاعر السوري الراحل قد أكد حضوره الشعري منذ منتصف الثمانينيات، عبر مجموعة كبيرة من القصائد المكتوبة باللهجة البدوية، متكئاً على مخزونه الصحراوي الثري. هو المولود في مدينة تدمر وسط البادية السورية، ما أكد فرادة نبرته البدوية ضمن نسيج العامية السورية، خصوصاً إثر صدور ديوانه الأوّل «قصة حمدة»، القصيدة التي انتشرت بشكل كاسح في كافة أنحاء البلاد، في زمن أشرطة الكاسيت، قبل أن يقتحم الإذاعات المحليّة بطريقة إلقائه المميّزة، وقدرته اللافتة على شحن مستمعيه بمناخات درامية لم تكن شائعة قبلاً في الشعر الشعبي السوري. وسيعبر بأشعاره حدود البلاد إلى مختلف أنحاء العالم العربي، محمولاً على مواقفه الوطنية الملتهبة، إذ واكب بوجدانه المشبع بالحماسة أبرز المنعطفات التي واجهت المنطقة، وفي مقدمتها الانتفاضة الفلسطينية، حين أهدى الطفل محمد الدرّة إحدى قصائده، مروراً بالمقاومة اللبنانية، وانتهاءً بالأوضاع التي تعيشها سوريا اليوم.

هكذا، رسّخ اسمه عروبياً، قبل أن تتمزّق الخرائط ويتلاشى الحلم، وتتحطّم السفن. لكن تأثير عمر الفرّا الجوهري سيبقى في قدرته على صوغ وعي نسوي ــ على طريقته ــ وذلك في تحريض المرأة على استعادة حقوقها وحريتها في الاختيار والرفض والتمرّد على الأعراف السلبية، فـ«قصة حمدة» أقرب ما تكون إلى الملاحم البدوية الجوّالة، نظراً إلى تعبيريتها الآسرة، ودراميتها العالية. الدرامية التي سنجدها في معظم قصائده اللاحقة مثل «حديث الهيل»، و«الأرض إلنا». يقول في «قصة حمدة»: «ما أريدك… ما أريدك حتى لو تذبحني بيدك/ ما أريدك ابن عمي… ومثل أخويَ / ودم وريدي من وريدك/ أما خطبة/ لا يا عيني/ لاني نعجه تشتريها/ ولاني عبده من عبيدك/ ما أريدك».
هناك قدرة استثنائية على السبك وابتكار الصورة، والشجن البدوي المقيم في الضلوع، والمخزون التراثي العميق للشعر العربي في شقيه الفصيح والبدوي. كل هذه العناصر محمولة على طريقة خاصة في الإلقاء، أسهمت عملياً في إيصال ما يريده هذا الشاعر الذي صار ظاهرة شعرية، بصرف النظر عن أهمية تجربته في سياق العامية السورية التي وضعت هذا النمط الشعري خارج اهتماماتها طويلاً، إلى أن خلخل الفرّا هذه المعادلة، لافتاً إلى حضور الثقافة البدوية كجزء من النسيج الثقافي السوري المهمل: «أقْنُص معي... يا ذيب/ جُوعك مثل جوعي/ يا نفترس هالليل يا يطحنو ضلوعي/ حلو الصَّبُر يا ذيب.... حِيْن الدهر يرْحَمْ/ وعيب الصَّبُر يا ذيب لما العتم يلْتَمْ». الرحلة ما بين زمن الكاسيت والشاشة، منحت هذا الشاعر المتفرّد مكانته الخاصة في الوجدان الجمعي، رغم تفاوت مستوى قصائده، بسبب انخراطه بأسباب الشهرة، والتفاته إلى كتابة الشعر الفصيح الذي أتى أقلّ مرتبة من شعره الشعبي، كما فعل قبله مظفّر النواب ربما.
مات عمر الفرّا، وبقيت «حمدة» وحيدة...

خليل صويلح- الأخبار

يرحل وفي قلبه شيء من تدمر
لم يحتمل قلبه الستيني أخبار المجازر الجماعية الآتية من مسقط رأسه؛ فبعد دخول فرق الموت السوداء إلى «تدمر»؛ مسقط رأس الشاعر الذي ولد فيها العام 1949؛ سكتت حنجرة الشاعر الحمصي؛ وذبلت نبرته العالية مع كل خبرٍ لمذبحة مزجت الدم التدمري بخيام القهوة والهيل ومضارب العرب وضيوفهم.
عاش «الفرا» ملتمساً أصوات أسلافه على حجارة مدينته عبر عشرات النصوص الشعرية التي استقاها من بيئته؛ من صهيل خيول البادية الشامية؛ وغزوات أولاد الخؤولة والعمومة وتاريخاً من نشيد بدوي متصاعد رتلها صاحب «قصة حمدى»؛ مسلماً أنفاسه الأخيرة على قصيدة شعبية؛ كان لها وميض الصاعقة بين جمهور الثمانينيات في سوريا؛ جمهوراً لطالما كان مستبعداً من المنابر الرسمية للشعر والشعراء تحت حجة «تمكين اللغة العربية»؛ والخشية بين غلاة هذا التيّار من طغيان الشعر المحكي على الشعر المكتوب باللغة الفصحى.
أصدر الشاعر الراحل العديد من الكتب والمجموعات الشعرية، سواء بالمحكية البدوية، أو بالفصحى، لكن أشهرها كان «الأرض إلنا» و «حديث الهيل» و «كل ليلة» والتي عبّرت جميعها عن إنسان تجاوز حياة البدو نحو مجتمعٍ حضري؛ نجد فيها قيم أدب الالتزام؛ بعيداً عن مساربها التقليدية للحكاية والمرويات الشفهية؛ بل بنبرة (القصيد) الهادر؛ والإلقاء الرجولي المتين؛ حيث كانت أمسيات الشاعر السوري تلقى عاماً بعد عام حضوراً كثيفاً من عشاق المحكية؛ لينتزع « الفرا» بذلك مكانته بين شعراء جيله؛ مختطاً بذلك دربه عبر تسجيلات بصوته كان الشباب يقتنونها على أشرطة الكاسيت، ويرددونها كأهزوجة لم تقطع مع فلكلورهم وتراثهم الغنائي.
اللافت فيما تركه الشاعر وراءه من إصدارات شعرية، هو قدرة « الفرا» على الكتابة بالعربية الفصحى، بمستوى قارب قصائده بالمحكية؛ حيث أصدر في هذا السياق كتابيه «الغريب» و «رجال الله» واللذين كان لهما أثراً طيباً بين مريدي القصيدة البدوية، لتحضر في قصيدته «عروس الجنوب» التي كتبها عن الشهيدة سناء محيدلي؛ مثلما في قصيدته «رجال الله» عن انتصار المقاومة في جنوب لبنان: «لأن جراحهم نزفت؛ ونخوة عزهم عزفت، نشيد المجد للأوطان؛ لأن الأرض مطلبهم، ونور الحق مركبهم، تجرّد من بقيتهم رجال آمنوا قرؤوا، إذا جاء رجالٌ عاهدوا صدقوا، وقد جاؤوا كما شاء، صفاء النفس وحّدهم؛ وجلَّ حديثهم صبٌ، وبعض الصبِ إيماءَ، إذا هبوا كإعصارٍ؛ فلا يبقي ولا يذرُ». موهبة قرنت المكتوب بالشفهي، مدوزنةً حنجرتها على هودج الرمل العربي الكتيم، دون أن تلفحها رياح سموم، أو خماسيين؛ حيث يحضر ذئبُ «الفرا» منتفضاً على ذئب الفرزدق: «أقْنُص معي... يا ذيب، جُوعك مثل جوعي. يا نفترس هالليل يا يطحنو ضلوعي. لو الصَّبُر يا ذيب... حِيْن الدهر يرْحَم، وعيب الصَّبُر يا ذيب لما العتم يلْتَمْ. تبكي!!...؟ ليش البكا يا ذيب؟؟ خَلّي الدمع غالي. تِفْشَلْ... متى تِصْرَخْ. إِكْتِمْ أنين الحيف، خَزِّنْ ثَلِجْ كانون تِطْفِيْ لهيب الصيف. تمرّد... وانا اتمرَّدْ. مثلك أنا مشرَّد، مصابك مع مصابي، ركابك على ركابي، ونابك جَنِبْ نابي. تُحْفُر... قبور الناس الماتو حزن يا ذيب، عا عنتر وجسّاس ونسيو طيور البر تاكُلْ بيادرهم. أُقنُصْ معي... يا ذيب، عا عنتر وجسّاس ونسيو طيور البَرْ تاكل بيادرهُمْ. اقنص معي... يا ذيب، نرجِّع سنين الخير، حبه ورا حبّه، من حوصلة هالطير. لو.. عوكرت ونخيب، قُصَّه أَبَدْ ما تغيب، يجلجل صداها الكون. رهبة وهوى وترغيب. من مِدًّه مرُّو اثنين؛ مِصَعْلَكْ تَعِيْسْ وذيب. فزّو... قرصهم جوع. صحيت كلام القوم وشمَّت نَفَسْ تهريب. إخْوَه....أنا ويّاك، صوتك مثل صوتي، وباكِرْ ترى يا ذيب موتك مثل موتي. إن كَادَك شهم يا ذيب إصعَدْ على طلوعي، يا نفترس... هالليل، يا يطحنو... ضلوعي».

سامر محمد إسماعيل- السفير

 

عمر الفرَّا.. رحيل الشاعر الذي جعل البداوة أغنية والصحراء قصيدة
في عيد الأب، في بداية الصيف، ومع يوم الموسيقى، يغادر الشاعر السوري عمر الفرَّا تاركاً خلفه كلّ الفصول، والأعياد، تاركاً كلّ هذه «الألحان» التي حملتها قصائده منذ أن بدأ يكتب وهو صغير بعد.
من قلب بيئته التدمرية، وصولا إلى حمص التي عاش فيها، عرف كيف يلتقط نبض اللغة الشعبية، المحكية، مثلما قبض على روحية المكان بتاريخه وأقاصيصه المتشعبة، التي تذهب عميقاً في تراث البادية السورية، التي توصل إلى عالم مفتوح، متسع. وما اتساعه إلا هذه اللغة التي التقط ثناياها الخفيّة ليصوغ منها، في شعره، واحدة من التجارب الشعرية المميزة، والحياتية أيضاً. فالشعر عند الفرَّا، لم يكن مجرد لعبة لغوية، نجح في عجنها، بل هو أيضا تجربة حياة. من هنا، بدا شعره وكأنه كان يرغب في القبض على «حقيقة وجود». هل لذلك استعاد هذه «البداوة» الجميلة، المترحلة في فلك الأماكن الشاسعة التي لا يحدها سوى أفق يبحث بدوره عن أفق آخر، إلى ما لا نهاية؟
 قليلون هم شعراء المحكية الذين عرفوا كيف يصنعون من كلامهم شعراً حقيقياً، كبيراً. بيد أن مشكلتهم الدائمة، كانت في اعتبار أن اللغة المحكية تسيء إلى أدبنا، إلى ثقافتنا، وحتى إلى شرط وجودنا. لكن في العمق، لم تكن هذه القصيدة، سوى إيجاد معادل آخر للحياة، بعيداً عن نمطيات كانت تجعل من الشعر، في الواقع، مقيداً بالعديد من السلاسل. من هنا أتى شعره، في قسم كبير منه، وكأنه يعيد طرح معنى الكتابة، في ارتباطها بالحياة.
لكنها الحياة هي التي تغادر، لتترك خلفها ذكريات وكلمات. تترك بعض حرقة. ربما هي اليوم حرقة مزدوجة: رحيل شاعر كبير، في ظل أحداث لا تترك خلفها سوى الموت المستمر، سوى بلد، عسى أن لا يتحول بدوره إلى ذكرى أخرى، من ذكرياتنا التي نتناساها.
يغادر الشاعر، ليترك خلفه أكثر من حرقة.. ولنترك خلفه وردة، هي وردة الشعر بالضرورة..
محطات
 شاعر شعبي سوري ولد العام 1949 في تدمر ودرس فيها، قبل انتقاله إلى مدينة حمص.
أولى قصائده الشعبية، كانت وهو في الثالثة عشرة من عمره، وقد اشتهر بطريقة إلقائه المميزة.
عمل بالتدريس (في مدينة حمص) لمدة 17 عاماً قبل أن يتفرغ للكتابة الشعرية والأدبية.
معظم قصائده بالعامية البدوية بلهجة منطلقة قوية إضافة لقصائد بالفصحى. تنوع شعره في العديد من المواضيع والأحداث والمناسبات والقصص الاجتماعية التي يعبر فيها أجمل تعبير.
اشتهر بقصيدة (حمده) وأصبحت هذه القصيدة التي تتكلم عن فتاة بدوية انتحرت بعدما اجبرت على الزواج من ابن عمها، والتي أصبحت رمزا له مثلما أصبحت قصيدة أخرى بعنوان «عمي طافش».
له العديد من المجموعات الشعرية منها: «قصة حمدة» و «الأرض إلنا» و «حديث الهيل» و «كل ليلة» بالعامية و «الغريب» و «رجال الله» بالفصحى.

اسكندر حبش - السفير

انتصر للمرأة في عزّ القبيلة
لا يمكن الكلام عن الشاعر عمر الفرا من منحى واحد فتجلياته الشعرية وقصائده أوسع من أن يحاط بها في مقال، بالطبع لا نقصد الناحية النقدية أو الفنية التي ابتدعها الراحل في الشعر الشعبي الذي اشتهر به أكثر من غيره وأستطاع أن يحمله معه إلى عدة دول عربية ليؤكد حضور الوطن والحب والمقاومة والإنسان في دواوينه، بل المقصود القضايا الإنسانية والاجتماعية التي تبناها، وأعلن تمسكه فيها سواء قضية المقاومة والأرض ومقارعة المحتل والتي تعتبر من أكبر القضايا التي شغلت بال العالم والشعوب العربية الحرة.
لعل قصيدة «رجال الله» كانت جواز سفره نحو المقاومة اللبنانية ليعلن أن الألم واحد والعدو واحد. كما أن قصيدته المهداة إلى الشهيد محمد الدرة في ذكرى استشهاده كانت أكبر برهان على أنه البدوي المقاوم الذي حمل الهم الفلسطيني داخله كأي عربي نزيه، من غير أن يعتلي المنصات ويحاول كسب شرف المقاومة بالادعاء، فالقصيدة هي من يقول وليس الشاعر.
غير أن الأبرز في شعر الفرا الصرخات الاجتماعية التي أراد من خلالها تحرير المجتمع من التقاليد والعادات القبلية والموروث السلبي الذي يصر على وأد الأنثى العربية، فوقف ابن تدمر بوجه الأسطورة والموروث والتاريخ المشين وأطلق صرخة مدوية في قصيدته المشهورة «حمدة» ليعلن مناصرته للمرأة العربية والسورية، والبدوية على وجه الخصوص، لأنه اختار لسرديته اسما من عمق البادية السورية، ووقف في مهرجانات الشعر صارخاً بلسان حالها في وجه أحكام القبيلة التي أرادت تهميشها وإجبارها على الزواج بابن عمها فاختارت الانتحار على مصادرة رأيها كإنسان حر يرفض الانصياع لرغبات الذكورة ومنطق الفحولة التي تقرر ما تشاء ساعة تشاء، وبرغم أنه كان يكتب الشعر في اللغة الفصحى إلا أنه أراد لهذه القصيدة الاجتماعية أن تكون بلهجته البدوية حتى تتلاءم وتصل لكل البيئات الشعبية، مما يؤكد أن الهدف لم يكن من أجل رصف تاريخه فقط بشعارات بل أنها صرخة وجدانية خرجت من عمق حنجرة البادية.
غير أننا نجد في الديوان ذاته قصيدة «تسع تشهر» التي أراد فيها أن يسمعنا هواجس وألم الأم العاقر، حتى في قصائده الوطنية التي أراد فيها وصف الوطن اعتبر الشاعر الوطن أما إن أرضعت أو فطمت، إن حرمت أو وهبت «بأي حالة اسمها الأم» لقد أخلص ابن البادية لشروط التمرد فأول تمرده كان على الذات، وكان وفيا للشعر والقصيدة لأنه كتب عن قضايا العرب الكبرى من غير أن يتخمنا طوال حياته في الشعارات، أو أن يكون له هاجس القدوة، عاش كمعلم وعلم كمواطن ورحل شاعرا أمينا مخلفا لنا إرثا وطنيا وقضايا كبيرة، مؤكدا لقرائه أن الفن الجيد هو من يخدم القضايا العظيمة.


لؤي ماجد سلمان- السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...