زكريا تامر: غادرت دمشق عندما فقدت القدرة على القص
كل بلد يعاملك باحترام، كمخلوق بشري، سيكون وطنك، رحلت عن دمشق إنقاذاً لزكريا تامر فعشت في لندن عشر سنوات وأقيم في أكسفورد منذ 14 سنة).
لم يكد الكاتب زكريا تامر يستقرّ على كرسيّه قبالتي في مقهى الروضة الدمشقي حتى قال غاضباً (من المستحيل السكن في دمشق) فخلال وجوده في دمشق لأكثر من شهرين أمضاها في حرب مع المرض، فتلوّث المدينة لم يترك الكاتب يستنفر أياً من ذكرياته الحافلة بياسمين دمشق ونضارة خضرتها وصفاء نهرها.
لذلك يقرّر تامر (سأسكن إن عدت نهائياً في مدينة أخرى).
يتنهد تامر، بحسرة، ثم يقول: هذه المدينة لا أعرفها وإني أجهلها كلياً وليست لها صلة بدمشق التي أعرفها، إني مقتنع الآن أن المدن كالبشر تحيا وتشيخ وتموت، إن دمشق المفعمة بالحياة والجمال لم تمت ميتة طبيعية بل قُتلت شر قتل وقتلتها معروفون ولا يطالهم العقاب، والطريف دعوة البعض للإكثار من زراعة الياسمين في دمشق والذي ينطبق عليهم المثل (زبال ويتزين بوردة).
ورغم ذلك لا يستطيع تامر كره دمشق فالرجل الحقيقي على حد قوله لا يكره أمه إذا شاخت وشوّهتها الأيام.
كرمت عدة مرات في سوريا بعد هجرتك. هل التكريم مكافأة لك؛ لأنك غادرت وابتعدت شقاوتك أم هو نوع من الاعتذار لصاحب دمشق الحرائق؟
أي تكريم نلته هو بالتأكيد ليس مكافأة، وليس اعتذاراً بل أنظر إليه على أن الدولة تنبّهت لما عليها من واجب تجاه المبدعين السوريين، وأرادت تكريمهم، فاختارت بعضهم، وكان اختيارها موفقاً ونزيهاً، وكانت أشبه بناقد موضوعي قيل له: اختر لنا أفضل الروائيين والقصاصين والشعراء، ولم يقل له : اختر لنا أدباء موالين لنا. ولذا فلم يكرم بعد أي أديب اشتهر بنفاقه للسلطة، وكل الذين كرموا في المجالات الروائية والقصصية والشعرية يستحقون التكريم، وقدّموا نتاجاً هو بمجمله الوجه الإيجابي للأدب السوري المعاصر ( حنا مينة، عبد السلام العجيلي، زكريا تامر، وليد إخلاصي، سليمان العيسى، محمد الماغوط).
تركت الحزب الشيوعي في بداية الخمسينات وتركت دمشق في بداية الثمانينات، هل ثمة علاقة بين ضيق الايديولوجيا وضيق المكان وسلطاته؟
كل ما أعرفه هو أني تركت دمشق بعد أن أصبحت عاجزاً كلياً عن كتابة القصة، وهذا العجز أفقدني صوابي خاصة وأني كرّست كل حياتي حتى أكون حكواتياً فقط، ولم أطمح إلى شهرة ولا إلى مجد ولا إلى مناصب. توقفي آنذاك عن كتابة القصص لم يكن سببه فقراً ذاتياً داخلياً بل كان سببه كامناً في العالم الخارجي الذي أعيش فيه يومياً، فكان لا بدّ لي من الرحيل إلى عالم آخر إنقاذاً لزكريا الكاتب. ولم أكن مخطئاً، فأنا الآن أملك قدرة على العمل تدهشني وتحيّرني، فقد أصبحت قادراً على إنجاز كتاب كامل في
(أشهر بينما عندما كنتُ في دمشق لا أستطيع في السنة الواحدة كتابة أكثر من ثلاث قصص، وأستقبل المهنئين المعجَبين بنشاطي الخارق. الحياة اليومية بدمشق تغرق المبدع تحت أطنان من الغبار، وحتى يتخلّص المبدع من ذلك الغبار لتتاح له القدرة على كتابة ما يريده فعلاً يحتاج إلى جهد بطولي، وما إن يشعر المبدع أنه قد تحرّر من ذلك الغبار حتى يحسّ بالإعياء ويكتفي بكتابة العديد من الأسطر ويستسلم للنوم، ويستفيق صباحاً ليغمره الغبار من جديد.
عندما وطئت قدماك أرض لندن كيف فكرت بدمشق أم أن صدمة المكان الجديد أخذتك كلياً؟
لم أفكّر في دمشق ولم يصدمني المكان الجديد أو يسلبني صوابي.
قلت لنفسي وأنا في الطائرة : كن صلباً، ولا تستسلم للعواطف الزائفة المضلّلة، واستخدم عقلك ببرود: كل بلد يعاملك باحترام ليس ككاتب بل كمخلوق بشري سيكون ذلك البلد هو وطنك. وكانت بريطانيا هي هذا البلد المدهش الذي يحترم الناس كافة شرط أن يتقيّدوا بقوانينه السائدة، وقد عشت فيها زهاء ربع قرن من دون أن أحسّ يوماً بأني مهانٌ أو مضطهد.. عشت بلندن عشر سنوات ثم انتقلت إلى مدينة أوكسفورد حيث أقيم بها منذ 14 سنة، وهي مدينة صغيرة تعوّدت الترحيب بالغرباء بسبب جامعتها الشهيرة، وقد أحببتها، وأشتاق إليها حين أبتعد عنها، وأشعر أحياناً كأني ولدت في أحد بيوتها.
واكتشفت وأنا في بريطانيا كم هو ممتع أن تراقب مجتمعاً يمارس حريته ويقدسها، ويعرف أفراده ما لهم وما عليهم، وهذه المراقبة قد ساهمت في إعدام كل الرقباء المتسللين خلسة إلى أعماقي، وبدأت أكتب كل ما أرغب فيه.
ماذا تذكر من ملامح الأمكنة الأولى في دمشق والتي لا تزال في ذاكرتك ؟
أذكر حارة البحصة الجوانية التابعة لحي سوق ساروجة، وهي الحارة التي ولدت فيها، وهي الآن لا وجود لها إذ هدمت كلها لتحلّ محلها أبنية شاهقة من إسمنت وحديد وحجر، وكانت تلك الحارة ملاصقة لساحة المرجة التي كانت تعتبر بدمشق الساحة الرئيسية، ففيها مقر الحكومة ودوائر الشرطة، ومنها تنطلق المظاهرات، وفيها تنصب المشانق فجراً لشنق المحكوم عليهم بالإعدام، فكان يُتاح لأهل حارتنا الرجال والنساء والأطفال التفرّج على المشنوق لحظة شنقه، والتعرف إلى الموت في أبشع صوره.
وأذكر مجانين دمشق المنتشرين في الحارات والأزقة والأسواق، وكل مجنون له شخصيته الخاصة المتميزة الطريفة بينما مجانين دمشق حالياً غلاظ يتصفون بالسماجة والتفاهة والوساخة.
وأذكر نهر بردى أيام كان فتياً، حيثما حلّ عمت الخضرة.
وأذكر رجال الحارات الشعبية وقيمهم الملأى بالنبل.
وأذكر البيوت القديمة متلاصقة متآلفة مصمّمة لمنح الراحة والطمأنينة لساكنها، كل بيت هو قلعة مستقلة، ولكنه في الوقت نفسه هو في قلب العالم الخارجي.
وأذكر الناس الذين كانوا مرفوعي الرؤوس لا يقبلون بأي ظلم، ولو ارتفع سعر خبزهم قرشاً لسادت الإضرابات والمظاهرات وسقطت حكومات.
وأذكر الحارات، سكان كل حارة هم عائلة واحدة كبيرة متعاونة في السراء والضراء.
وأذكر الخيرات التي كانت تملأ الأسواق، وأسعارها الرخيصة كانت تتيح لأي فقير أن يظفر بحياة كريمة لائقة.
وأذكر أن الفقراء والأغنياء كانوا يسكنون في حارة واحدة، بيت أغنى رجل ملاصق لبيت أفقر رجل، ولا وجود لحارات للأغنياء وحارات للفقراء.
تركت المدرسة مبكراً. كيف ترى تأثيرها عليك ككاتب؟
قد يبدو للمتسرع أن ترك المدرسة في سن مبكرة له آثار سلبية، ولكن ما حدث لي كان العكس لأن التعليم إذا كان متخلفاً تحوّل أصفاداً. كنت أقرأ كل ما هو قادر على إمتاعي وتثقيفي بغير أن أكترث للأسماء سواء أكانت مشهورة أم مغمورة، وبدأت أكتب بغير موجّه منصتاً فقط للصوت الداخلي الذي كان يحضني على الكتابة. ولعل هذا ما أدّى بي إلى أن أكتب قصة مختلفة عما هو سائد، ولا تحترم ما يسمّيه النقاد بقواعد كتابة الفن القصصي.
وأنا أعرف أصدقاء أدباء أشفق عليهم لأنهم أضاعوا أعواماً كثيرة من عمرهم بغية التحرر من المفاهيم الرثة التي غرستها فيهم المدرسة والجامعة.
علاقتك بمهنة الحدادة، هل كانت أول تجربة مع الحياة وبمواجهتها؟ ماذا تذكر من مناخاتها وعلاقاتها وأجوائها؟
أول تجربة لي مع الحياة ابتدأت لحظة خروجي من بطن أمي،
ثم توالت التجارب، بعضها مرّ، وبعضها الآخر مُستساغ ومشوّق، وكل تجربة تتضمّن درساً فظاً في سجن الحياة. أما تجربتي مع مهنة الحدادة، فهي التي ستجعل مني شخصاً لا يعتمد على أهله في تأمين قوته اليومي. وقد أحببت هذه المهنة، ولم أتركها إلا بعد مرور البلاد في أزمة اقتصادية أدّت إلى تعطيل الكثير من المعامل، وكتابي الأول <<صهيل الجواد الأبيض>> أصدرته وأنا عامل في معمل.
وأنا مدين ككاتب لهذه المهنة إذ علّمتني كيف أستخدم الواقع، كمادة أولية، وأصنع منها صوراً مختلفة متنوّعة، فالحداد يصنع من الفولاذ والحديد أشكالاً لا نهاية لها، يصنع سكيناً، ويصنع محراثاً، ويصنع أكرة باب، ويصنع ميزاناً، ويصنع أقفالاً، ويصنع قطعاً لا غنى عنها في آلات النسيج أو محركات الطائرات.
وإذا أردت أن أقارن بين عالم المعامل وعالم المثقفين والأدباء، ففي العالم الأول كل شيء واضح وصريح، الصديق صديق، والعدو عدو بينما العالم الثاني تهيمن عليه الأقنعة، ولا تستطيع أن ترى فيه وجهاً حقيقياً.
كثير من الكتّاب ترشح في كتاباتهم رائحة الحي الذي عاشوا فيه، فهل حارتك في دمشق موجودة في كتاباتك وحياتك بشكل دائم ؟
يخيّل إليّ أن كتبي القصصية لم تكتب عن حارة واحدة هي حارتي بل كتبت عن الناس في دمشق وحاراتها المتعددة. ما يهمّني هو المخلوق البشري لا المكان. المكان هو مجرد ديكور لا أكثر، ولا يضيف إلى العمل الأدبي قيمة فنية استثنائية.
رغم ابتعادك عن دمشق حوالى ربع قرن، هل لا تزال دمشق منبع الحكايات والقصص والشخصيات؟
على الرغم من أني أعيش في بريطانيا زهاء ربع قرن، لم أكتب أية قصة لها علاقة ببريطانيا، وكل ما كتبته ظل مرتبطاً بالبلد الذي ولدت فيه.
ولو استسلمنا للخيال، واعتبرنا الأدباء نوعاً من الشجر، فأنا شجرة غريبة الأطوار تعيش في بريطانيا، ولكن جذورها هي في أرضٍ سوريةٍ، ومتشبثة بها التشبث العفوي غير المصطَنع.
ويخيّل إليّ أن كل ما سأكتبه في المستقبل من قصص سيظل عن أرض عربية وإنسان عربي؛ لأني تعودت ألا أكتب عما لا أعرفه بعمق، وقد يختفي الحب قليلاً ليحل محله هجاء المحب الذي يريد لمدينته أن تصبح عاصمة للإنسان والحرية لا عاصمة للأقفاص المتنوعة الأسماء واللصوص الوقحين والناس الذين يمنعهم خجلهم من التسول.
ماذا بقي في ذاكرتك من مقاهي دمشق وصداقاتها ونقاشاتها؟
المقهى الذي أذكره بكثير من الود هو مقهى الهافانا الذي كان رواده خليطاً من الأدباء والصحافيين والمفكرين والضباط المسرّحين والموظفين المتقاعدين،
ففي هذا المقهى تنبّهت أول مرة إلى أن الأدباء يقدّمون نتاجهم إلى المرحوم سعيد الجزائري الذي كان مسؤولاً عن جريدة أدبية أسبوعية هي <<النقاد>> التي يتزاحم كبار الأدباء وصغارهم على النشر فيها، أو يتركون نتاجهم لدى مدير المقهى ليسلمه لسعيد الجزائري، فأنجزت كتابة قصتي الأولى، ووضعتها في مغلّف، وأعطيتها لمدير المقهى، وفوجئت في الاسبوع التالي بأن قصتي منشورة، فسارعت إلى كتابة قصة ثانية، وأعطيتها لمدير المقهى، وبعد أيام دخلت المقهى، ورأيت سعيد الجزائري جالساً وحده، فتذكرت أن قصتي الثانية لم أكتب اسمي عليها، فأحرجت، ولم أجد بداً من الاقتراب من سعيد الجزائري، وقلت له: أنا اسمي فلان الفلان، وقد أرسلت إليك قصة نسيت أن أكتب اسمي في نهايتها، فضحك، وقال لي: اجلس اجلس. أتظنّ أننا لا نعرف أن نقرأ. غداً اشترِ الجريدة وستجد قصتك منشورة واسمك عليها.
وكانت بدايتي تلك في <<النقاد>> هي خطوتي الأولى الواثقة في طريق الكتابة الوعر.
ويمكن القول من غير خشية من الاتهام بالمبالغة إن مقهى الهافانا كان آنذاك صورة صادقة مكثفة لسوريا الأدبية والثقافية، وقد حاولت مقاهٍ أخرى منافسته، فأخفقت، وكانت هياكل عظمية بغير لحم.
كانت التيارات المتصارعة سلمياً في المقهى هي تيار الماركسيين واليساريين وتيار القوميين العرب وتيار يؤمن بأن الأدب لا يمكن له أن ينفصل عن الواقع ومشكلاته، ولكن هذا لا يسوّغ له أن يخضع للأيدلوجيات، ويتحول بوقاً لها، والتيار الأخير كان (مسكيناً وحاله عدم)، ومستضعفاً وهدفاً لكل من هبّ ودبّ مع أنه اليوم التيار الذي حقّ له أن يضحك أخيراً.
وكانت المقاهي بدمشق تحظى بالرواج والإقبال لكونها متلائمة مع تقاليد مدينة محافظة، فالشاب لا يستطيع استقبال أصدقائه يومياً في بيت أهله حيث يسكن، يستطيع المقهى تحقيق ذلك بسهولة.
لمقبرة الدحداح مكانة خاصة عندك. ما سبب هذه المكانة؟ وكيف انعكست في كتاباتك؟
كل المقابر لدي متشابهة، لا فرق بين مقبرة ومقبرة، فهي آخر محطة في رحلة المخلوق البشري، ولكن مقبرة الدحداح هي المقبرة التي دُفن فيها أبي وأمي، ولو بقيت في دمشق، فسأدفن فيها أيضاً.
وقد فوجئت في زيارتي الأخيرة لدمشق بأن قبورها باتت باهظة الأسعار، كأنها طوابق في أحياء دمشق الراقية، ويحق لصاحب قبر من قبورها التفاخر.
وفي أيام الشباب والفضول والتوق إلى معرفة كل جديد، كنت أسكن بالقرب من مقبرة الدحداح، فأتيحت لي رؤية آلاف الموتى يوارون التراب، وعرفت الموت كم هو قاس وموحش وختام تافه لحياة تشبه النار والماء.
عشت في دمشق مؤخراً عدة شهور متواصلة، كيف ترى دمشق الآن؟ وهل تصادمت في ذاكرتك مع دمشق زكريا تامر وياسين رفاعية و....؟
أعوذ بالله! دمشق اليوم هي الجحيم نفسه. طقسها في الصيف يشبه طقس كلكوتا، والهواء ملوّث لا يصلح لمخلوق بشري، وكثرة عيادات الأطباء والصيدليات توحي بأن دمشق هي مجرد مستشفى فسيح الأرجاء، والفقر سائد إلى حد أنه حوّل بعضهم قطاع طرق لا يستخدمون السلاح في عمليات السلب والنهب، والذين اغتنوا فجأة جشعون طماعون مسعورون، ولا يكتفون بما حصلوا عليه من ملايين ومليارات، ويطلبون المزيد والمزيد، والناس غير مبالين بما يحل بهم كأن حياتهم ليست لهم، ولا يتابعون ما يجري في بلدهم وفي العالم، وقراء الجرائد والمجلات قلة، وقراء الكتب أقلّ، والحياة الثقافية تسودها الحروب والاغتيالات المعنوية، والسيارات في الشوارع تسير وفق قانون لا مثيل له في العالم، وهو قانون (دبّر رأسك). سائقو التاكسيات لا صلة لهم بما يسمّى بالتهذيب، ومتجهمو الوجوه كأنهم أتو تواً من مقبرة دفنوا فيها أمهاتهم أو آباءهم، وهم يجهلون دمشق، ويطلبون من الراكب أن يتولّى إرشادهم إلى المكان الذي يقصده، وكل سائق له تسعيرته الخاصة وأسلوبه في السطو على جيوب الراكب الأعزل. لا شيء في دمشق يصلح لأن يؤكل.. اللحوم مغشوشة، ولحم الدجاج كله هرمونات، والخضروات والفواكه تعاني الأمر نفسه، وأحجامها غير طبيعية ومخيفة، وقد أخبرني واحد من أصدقائي الفنانين التشكيليين أنه وضع في البراد خيارة من النوع الذي يزعم أنه بلدي، وبوغت في اليوم الثاني بأنها استطالت وغلظت، فانتابه الخوف منها، وأحسّ أنها حيوان لا فاكهة. وفي كل أسبوع، كنت أسمع عن صديق أو قريب نقل إلى المستشفى مسموماً إثر تناوله الطعام في مطعم ذائع الصيت. أما باعة دمشق المشهورون بدماثتهم وترحيبهم الودّي بالزبائن وتلبيتهم كل طلباتهم، فقد تبدّلوا، وباتت هوايتهم التشاجر مع الزبائن والتمادي في إهانتهم.
ومن يرغب حالياً في التسكع في شوارع دمشق يستحسن أن يكتب وصيته ويودّع أهله؛ لأن مخططي دمشق الحديثة لم يحسبوا أي حساب للمشاة، ولم يقتنعوا بعد بأنهم موجودون.
دمشق اليوم هي مدينة أجهلها كلياً، ولا صلة لها بدمشقي التي أعرفها وأحبّها، وقد اقتنعت أن المدن كالبشر تحيا وتشيخ وتموت. ومن المؤسف أن دمشق الخمسينيات والستينيات المفعمة بالإنسانية والباهرة الجمال لم تمت ميتة طبيعية بل قتلت شر قتل، وقتلتها معروفون لا يطالهم أي عقاب، ويتباهون بجرائمهم على أنها نقل لدمشق من ظلمات القرون الوسطى إلى أنوار القرن الحادي والعشرين.
ولو كانت المرحومة جدتي ما زالت حية وسمعت تلك الدعوة الغريبة إلى الإكثار من زرع الياسمين في دمشق لبادرت إلى ترديد مثل عامي شامي، ملخصه بالفصحى هو: زبال ويتزين بوردة.
وكل ما قلته عن دمشق لا يعني أنها باتت عاجزة عن تحريضي على كتابة المزيد من القصص عنها وعن أحوالها الراهنة الغريبة العجيبة، فالرجل الحقيقي لا يكره أمه إذا شاخت وشوّهتها الأيام.
باعتبار أنك تعيش في بريطانيا، هل طغت كمكان جديد على إبداعك وحياتك أي هل انسجمت معها كمنفى أم بقيت علاقتها معك خارجية؟ وهل روّضتك لندن أم ستبقى كالنمر سرعان ما تعود ذلك الدمشقي المسكون بعبق المكان وياسمينه؟
من الأمور الشائعة في بريطانيا أن المرء إذا طرأ تلف ما في بيته يجعله غير قادر على العيش فيه ينتقل إلى فندق ريثما يتم تصليح بيته، وأنا فعلت الشيء نفسه، وأنتظر أن يصلح بيتي، وقد لا يتم إصلاحه بعد مئة سنة، ولكني أنتظر صابراً بغير ملل، ولا أشعر في بريطانيا أني في منفى، والحياة فيها ليست علاقة سيد بخادم، ولا تحاول أن تروّض أحداً بل هي تتيح النمو والتطور للجميع مثلما يشاؤون لا كما تشاء هي، وتسمح للشوك والورد بأن ينبتا في أرض واحدة.
قلت عن كتاب صديقك الشاعر محمد الماغوط <<سأخون وطني>> إنه (يعزز الثقة بالكلمة في زمان الكذب والرياء هذا ويعيد إليها بعض بهائها المفقود). هل لا تزال الكلمة قوية ومؤثرة في زمن تسونامي بصري لم يبق ولم يذر؟
ما دام الإنسان الراغب في غذاء صحي لا يعتمد على نوع واحد من الأطعمة، ولا بد له من اللحم والخضروات والأسماك والبيض والحليب والفاكهة والحبوب، فهو أيضاً في غذائه الثقافي محتاج إلى كثير من التنويع حتى يكون غذاؤه صحياً بحق، الجريدة لها دور، والمجلة لها دور، والكتاب له دور، والتلفزيون والإذاعة لهما دور.
وأنا نفسي أقضي الساعات الطويلة في الليل والنهار محملقاً إلى شاشة التلفزيون من دون تأنيب ضمير، ولا أشعر أنها تزاحم الكتاب وتشنّ حرب إبادة على
الكلمة، فكل وسيلة من وسائل التعبير هذه لها خصوصيتها ومتعتها ودورها التثقيفي المباشر أو غير المباشر.
ومن المؤكد أن الكلمة سيبقى لها دور بالغ الأهمية والخطورة، ولا أخشى عليها من المنافسة مع الوسائل البصرية التي تعتمد أيضاً على الكلمة والصورة معاً، ولكن ما أخشاه في بلادنا العربية هو انتشار الجهل والتفاخر به علانية، واعتباره حالة طبيعية، ففي الستينيات كانت الطبعة الأولى من أي كتاب من كتب نجيب محفوظ هي عشرة آلاف نسخة، واليوم بعد أن ازداد سكان الوطن العربي وتضاءلت نسبة الأميين ونال جائزة نوبل، يطبع من أي كتاب جديد له ثلاثة آلاف نسخة فقط. وهذا يبرهن على أن العالم العربي هو عالم سوريالي مغرق في سورياليته، ويحق له أن يعامل كافكا بوصفه تلميذاً مبتدئاً.
محمد الماغوط وأنا
قال أحد النقاد: (تجربة الشاعر محمد الماغوط وزكريا تامر تنفتح على فضاء واحد تتداخل فيه الأصوات.. كل منهما ضمير الآخر). هل هذا التحليل صحيح؟ وإذا كان صحيحاً، هل ما زلتما أنت والماغوط مع الابتعاد المكاني كل منكما ضميراً للآخر؟
سئلت السؤال نفسه في عام 1974 في مقابلة صحفية مع مجلة فلسطينية، وقد أجبت عنه آنذاك الجواب الآتي: <<محمد الماغوط فقير من الريف، وأنا فقير من المدينة، اثنان لم يكتسبا ثقافتهما من المدارس والجامعات إنما ظفرا بها عن طريق جهد شخصي غير خاضع لأي توجيه. وهذا أمر مهم للغاية. لقد نشأنا الماغوط وأنا نشأة أدبية متحررة بصورة طبيعية من تأثير وسيطرة ما يُسمى بالقمم الأدبية، تلك القمم المتخلّفة. كما أننا عشنا حياة قاسية مرة، وجابهنا عدواً واحداً، ولذلك كان غضبنا نابعاً من حنجرة واحدة.. تلك الحنجرة المهدّدة بحرمانها من الهواء).
كان هذا جوابي قبل أكثر من ثلاثين سنة، ولم يطرأ عليه الآن الكثير من التعديل سوى أن كلاً منا قد نجح في تقديم ما هو جديد ومختلف عما هو سائد، ولكننا نحن الاثنين تعبنا وتبدلنا وتطورنا.. إما إلى الأمام وإما إلى الوراء، وهذا التعب والتبدل والتطور جعل كلاً منا جزيرة منفصلة عن الأخرى، والجزيرتان متباعدتان، وتحتاجان إلى بناء الجسور بينهما، ولكن كلانا بلغ من العمر عتياً، والماغوط لا وقت لديه لبناء مثل هذه الجسور، وأنا أيضاً لا وقت لديّ، ولم أعد أملك القوة والصبر المطلوبين لتحقيق مثل هذا الإنجاز، وكل ما أملكه من وقت أكرّسه إما للكتابة، وإما للتسلية والثرثرة المرحة.
عن السفير
حوار: احمد خليل
إضافة تعليق جديد