حرب ما بعد الولايات المتحدة في سورية قد بدأت
الكاتب: بلال بالوش - ترجمة: لينا جبور
أعطت الإدارة الأمريكية أوامرها بسحب قواتها من شمال سورية، لتصبح البلادُ منطقةً مستباحةً للجميع. أثار انسحابُ القوات الأمريكية من شمال سورية مؤخراً الجدلَ حول مسألتين اثنتين في المنطقة. تدورُ المسألةُ الأولى مباشرةً حولَ إمكانية الوثوق بحكومة الولايات المتحدة كشريك، بالنظر إلى تخليها الواضح عن الأكراد (من المسلّم به أن قلة مصداقية واشنطن تسبق المناورة المفاجئة للرئيس دونالد ترامب)؛ وتتمحور المسألة الثانية الأقل إلحاحاً والأكثر أهمية حول كيف سيتوصل اللاعبون الدوليون الباقون في سورية إلى عملية توازن سياسي جديد. يخلق الانسحاب الأمريكي فوضى استراتيجية وأخلاقية إضافية في الحرب المستمرة منذ ثماني سنوات في سورية، لكن ما يزال من غير الواضح من سيستفيد استفادةً كاملةً. وبالفعل، بدأت بعضُ الشراكات القائمة تتفكك، في حين يتعمق بعضها الآخر.
ما يلوح فعلياً في الأفق وبشكلٍ واضح، هو أنه من المحتمل أن تظهر انقسامات أعمق بين روسيا وإيران وتركيا، وهي ثلاثة أطراف كانت في السابق متحدةً في معارضتها لمصالح الولايات المتحدة في المنطقة.
عمل قادةٌ من موسكو وطهران وأنقرة –في الأشهر الأخيرة - ما يسمى بمجموعة أستانا– على حل "النزاع" في سورية ضمن إطار اللجنة الدستورية السورية التي تقودها روسيا، لكن الخلافات بينهم أعاقت التقدم الجدي في هذا الموضوع. وفي الوقت الذي تبدأ فيه تركيا بالتوغل في الأراضي التي كانت تخضع سابقاً لسيطرة القوات الكردية المتحالفة مع الولايات المتحدة، كان رد فعل روسيا متجذراً في مزيج من القلق الضمني والتعبيرات الصريحة حول تكامل الأراضي وضبط النفس. ستزداد إحباطات الكرملين مع توسع تركيا في هجماتها بطريقة تزيد من خطر تقويض تقدم اللجنة الدستورية وقد تعرّض توطيد سلطة [الرئيس] بشار الأسد للخطر.
في هذه الأثناء، قوبلت أخبار الانسحاب الأمريكي في العواصم العربية كالمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، بقلق. أعادت الإمارات، قبل أقل من عامٍ، علاقاتها الدبلوماسية مع سورية بإعادة فتح سفارتها في دمشق. منذ ذلك الحين، أصبحت الإمارات جزءاً رئيساً من عملية حل "النزاع" في سورية، تحديداً بفتح القنوات الخلفية مع الحكومة السورية بتشجيع من روسيا.
في غضون هذه العملية، رفض أنور قرقاش، وزير دولة الإمارات العربية المتحدة للشؤون الخارجية، خطط تركيا لإقامة منطقة عازلة في سورية، الأمر الذي تسعى له الآن. كان قرقاش واضحاً في مقابلة تلفزيونية أُجريت معه في وقت سابق من هذا العام عندما قال: «لدى الإمارات العربية المتحدة تعاطف كبير مع الأكراد وتؤيد حماية الأكراد في إطار سورية الموحدة». وتابع: «تشعر بلادنا بالقلق إزاء تصريحات تركيا بشأن القوات الكردية السورية، ونعتقد أن التهديد التركي خطرٌ حقيقيٌ. ... أي تدخل من غير المحليين في الأراضي العربية، نعتبره سلبياً».
أما في العاصمة السعودية الرياض، سيؤدي انسحاب الولايات المتحدة إلى تعميق التوترات مع تركيا التي ثارت في الأشهر الأخيرة بسبب الإخوان المسلمين، وحصار قطر، واختفاء ومقتل الصحافي جمال خاشقجي العام الماضي. لقد أنفق السعوديون رأس المال –الدبلوماسي والاقتصادي– لتخفيف التوترات بين "قوات سوريا الديمقراطية" التي يقودها الأكراد والقبائل العربية في شمال سورية، ولن يكونوا سعداء بالعدوان التركي الذي يهدد هذه الجهود.
تمثل أحداث الأشهر الأخيرة تدهوراً مفاجئاً في العلاقات السعودية-التركية منذ تحالفهما القوي في السنوات التي تلت حرب العراق عام 2003، عندما سعى كلاهما لمنع ذلك البلد من الوقوع في أيدي إيران. أنتجت الانقسامات الطائفية في ذلك الوقت في المنطقة ائتلافاً عميقاً بين الرياض وأنقرة وغيرها من الأنظمة "السنية". وقد يؤول الأمر لذلك مرة أخرى، بخاصة إذا اكتسبت الجماعات الطائفية غير الحكومية القوة في سورية في أعقاب الانسحاب الأمريكي.
لم يمر وقتٌ طويل، بعد كل شيء، منذ كان تنظيم "داعش" يعيث خراباً وفوضى في جميع أرجاء المنطقة، ويستحدثَ نفسه، كما أشار الباحث فالي نصر «كوريث للخلفاء الأمويين والعباسيين الذين حكموا إمبراطورية واسعة من دمشق وبغداد».
سيثير انسحاب الولايات المتحدة من سورية المخاوف في إيران (وبين عملائها) من حدوث تمرد "سني" مبطن يتمثل في قيامة "داعش"، الأمر الذي سيقتضي زيادة دعم الجماعات المتمردة "الشيعية" رداً على ذلك. (لا يختلف هذا كثيراً عن الطريقة التي توجهت بها الولايات المتحدة لمساعدة الأكراد في قتال "داعش"، ثم في اعتقال ومراقبة ما يصل إلى 90.000 متشدد مشتبه بهم بنجاح).
قاتلت القوات المدعومة من إيران قبل أربع سنوات مقاتلي "داعش" في قلب العراق. قد تحدث مواجهة مماثلة مرة أخرى، لكن هذه المرة في سورية. تحدّث المراقبون في الأيام الأخيرة عن انتعاش تنظيم "داعش" في مدينة الرقة السورية. إذا اندلعت الطائفية مرة أخرى على نطاق واسع في المنطقة، فقد يتم التخلي عن دلالات التقارب الأولية بين إيران والمملكة العربية السعودية، ومع الرياض والقوى "السنية" الأخرى، وعلى رأسها تركيا، وهذا قد يصور "داعش" على مضض كمدافع عن المصالح "السنية".
شهد الأسبوع الماضي حدثاً نادر الحدوث في الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط، وهو اتفاق عبر الحدود بين كل الدول الإقليمية تقريباً باستثناء تركيا. إنهم متفقون جميعاً على أن توغل تركيا في شمال سورية لا يهدد مستقبل الأكراد فحسب، بل يهدد أيضاً بشكلٍ أساس الاستقرار في البلد بأسره. وهكذا، من الواضح أن نتيجة قرار انسحاب الولايات المتحدة هي ضمانٌ أن الحرب المستمرة منذ ثماني سنوات في سورية ستستمر دون أي نهاية تلوح في الأفق.
الجمل بالتعاون مع مركز دمشق للدراسات
إضافة تعليق جديد