بأي أفلام تقتحم الشركات العربية هوليوود
من برلين، تأتي الأخبار التي لا تُشتهى عربياً. فما سربته الصحيفة السينمائية الأميركية «فارايتي»، خلال اليومين الماضيين، من عمر «البرلينالة»، يشي بأن حال سينمات العرب ليس هدف تجّارها ومضاربيها، الذين خرجوا من جب الإنتاج من دون مقدمات، وبمشاريع غريبة التوجّهات والعناوين، وبأهداف لا تُعقل باستراتيجيات استثمارها. إذ ما هو مقصد الإعلان عن عزم الشبكة السعودية «أم. بي. سي.» (المال والقوة الإعلامية) إنتاج فيلم سينمائي روائي طويل، مقتبس عن المسلسل التلفزيوني التركي «نور»؟ وهل نجاح النص المدبلج إلى اللهجة السورية، الذي اكتسح المشهدية التلفزيونية العربية، خلال رمضان الماضي، كفيل الإيقاع بجمهور أوسع، يتكفّل بردّ تكاليف إنتاج الشريط الجديد (شراكة بين الشبكة السعودية المذكورة ونظيرتها «مومنتم» التركية)، التي خُمِّنت بين مليونين ونصف مليون دولار وثلاثة ملايين ونصف مليون دولار أميركي؟ الأدهى في استراتيجية إنتاج هذا العمل، الذي تُعوِّل عليه الإدارة السعودية، أنه سيُصوَّر بالكامل في تركيا وبلغتها، على أن تتمّ دبلجة حوار النجمين التركيين، كيفانك تاتليتوغ وسنغول أودن، إلى اللهجة السورية (مرّة أخرى). على المنوال نفسه. أعلنت الصحيفة الأميركية عن عزم طرفين لبنانيين، «إيغل بيكتشرز» و«مروه غروب»، تخصيص مليوني دولار لإنتاج فيلم روائي طويل عن حياة يسوع المسيح، على أن يكون جاهزاً للعرض في العام .2010 يقول مراسل الصحيفة إن مباحثات تجري مع صاحب «دخان بلا نار»، المخرج اللبناني سمير حبشي، لإخراج الفيلم، الذي تم اختيار ممثليه: يوسف الخال في دور الناصري، ونادين الراسي في دور مريم المجدلية، التي سيقع عليها عبء سرد حياته كاسترجاع درامي (فلاش باك). واللامعقول في هذا الإعلان، ما يثيره من ريبة في التوقيت والغرض: هل تحتاج حياة المسيح إلى نسخة عربية، كي نُفهم العالم أن ابن بيت لحم من أرضنا، وابن أجدادنا؟ وهل يحتاج المشاهد الغربي إلى الإقناع بفيلم عربي أن المسيح زار قانا وصور، وأن أرض جنوب لبنان ليست غريبة على موطأ قدميه، وجرجرة أذيال ردائه؟
مغامرات كويتية
أما الأغرب في أخبار طبعة «البرلينالة» للصحيفة الأميركية، ما أوردته عن المغامرات الإنتاجية لشركة «شهرزاد»، التي قالت إنها تتّخذ من البحرين موقعاً لعملياتها الساعية إلى ربط تحالفها مع هوليوود، إذ شاركت في إنتاج وتمويل اثني عشر فيلماً استقطبت نجوماً لامعين، كتيم روبنز في «المحظوظون»، وسارة جيسيكا باركر ودينيس كويد في «أناس أذكياء». إنها حزمة إنتاجية أنجزتها الشركة المتحالفة، استثمارياً، مع نظيرتيها الكويتيتين «كي فيشن» (في الكويت) و«ديزيرت دورز» (في دبي)، خلال الأشهر الستة والثلاثين الماضية. الجديد أن إدارة «شهرزاد» قرّرت استثمار تسعة عشر مليون دولار في فيلم «حب برلين»، الذي يجمع عشرة مخرجين وعشرين نجماً عالمياً، ما يدعم قرارها في المساهمة بميزانية إنتاج الفيلم الجديد «نيويورك، أنا أحبك»، الذي يجمع النجمين البريطاني أورلاندو بلوم (ممثل «مملكة الفردوس» لمواطنه ريدلي سكوت) والأميركية ـ الإسرائيلية ناتالي بورتمان (عُرفت في سلسلة «حروب نجم»). يبدو أن نجاح «شهرزاد» في اختراق المسابقة الرسمية للدورة التاسعة والخمسين لمهرجان برلين بفيلم «الساعي»، الذي عُرض يوم الاثنين الماضي، وضُخّت أموال كثيرة في ميزانية إنتاجه، جنّبها المخاطرة المالية التي تعصف بالأسواق العالمية، وسهّلت لها أبواب التحالفات. مثلما لم يمنعها من المشاركة في تمويل «الساعي»، ما أقدمت عليه شركة «أومينلاب ميديا» من تكليف كاتب السيناريو الإسرائيلي أورين موفيرمان (ولد في تل أبيب في العام 1969، وساهم في كتابة نص «لم أكن هناك» لتود هاينز) لإنجاز هذا العمل، الذي يوجّه إصبع الاتهام الموارب إلى العدو البعيد، الذي يصيب العائلات الأميركية المتطامنة في رفاهيتها بمقتل فلذات أكبادها، الذين ذهبوا إلى أرض العراق كي يدافعوا عن «أميركانا»، كما تقول الأم الشابة البيضاء أوليفيا (الممثلة البريطانية سامنثا مورتن) للبطل المجنّد ويل مونتغمري (أداء جيّد لبن فورستر)، الذي يقع في نزاع فريد بين أساه عليها ووليدها (نفهم لاحقاً أن والده القتيل أسود البشرة)، وحاجته الشخصية إلى التطهّر من إثم نقل خبر وفاته إليها.
يحمل هذا التقليد العسكري الأميركي وجهين دراميين: الأول، فجائعيته فيما يتعلق بالأهالي، وقدريته التي تنعكس في الاستجابات المختلفة للعائلات الخمس، التي وقف ويل أمام أفرادها كساع عسكري ينقل خبر الموت. والثاني، تحوّل البطل إلى ما يشبه «يهوذا بلباس الجيش»، الذي تخلّى عن موقعه في الجبهة العراقية، بعد تكليفه مرغماً الوقوف أمام جبهات مدنية عزلاء إلاّ من عواطفها، التي يحرقها الشاب ويل بأخباره (أو وشايات الغياب الأبدي). والعدو العراقي مغيّب في فيلم موفيرمان عن قصد؛ فهو ليس الدلالة اللازمة للبحث عن تصفية الحساب. حتى أخبار الحرب لا ترد من حول البطل، الذي ينقلب إلى وحش بنزعات مازوشية قصدية (مضاجعته حبيبته السابقة وخطيبة صديقه حالياً، تعمّده السكر المتواصل، عدائيته التي تجد مرجعيتها في أهوال الحرب). ذلك أن أكلاف الحرب لا تتمثّل بالخسائر البشرية فقط وحسب، بل بما ستثمر به من خطايا. ولكي يُثبت فيلم «الساعي» ذلك، يضع بطله ويل تحت ويلات الشخصية الثانية الأكثر ضغطاً وفاشية: الكابتن توني ستون (وودي هارلسون). منذ اللقاء الأول، يصرّ هذا العسكري المسلكي، الذي يميط اللثام قليلاً عن جرائم تفاخره بالحروب الأميركية، على الاستهانة بالتجربة المريرة لويل. فعلى هذا الأخير الإيمان بأن ما أدّاه في أرض العراق، ليس أقل ضرراً بما سيقوم به لاحقاً كساعي موت. وكلما أمعنت الشخصيتان في الاستماع إلى إذلالات الآباء والأمهات والزوجات لهما، ينغمران أكثر فأكثر في موت ذاتي، يقودهما إلى تمثّل الحرب في مرأب سيارات، وقسوة أكثر رعباً، نشهدها في المهانة التي يقعان فيها في حفل عقد قران حبيبة ويل السابقة، وتهتّك أكثر فحشاً، يقودهما إلى ممارسات جنس مجنونة.
تلصّص
اخترقت الشركة الكويتية «شهرزاد» هوليوود: لا شك في هذا. لكن، هل كانت على حقّ في المساهمة في تمويل هذا الفيلم؟ الجواب: لا. ما يقوله العمل، المتخابث بخطابه الإيديولوجي، تحميل مبطّن للعراقيين لوزر المآسي الأميركية، على الرغم من أن العراق يُختزَل طوال الفيلم بعلم البلاد وكلمة «الله أكبر» بين نجماته، وهو معلّق على حائط غرفة البطل المنكوب.
هذا النموذج البشري الخاسر، نجد صداه في باكورة المخرج الأرجنتيني أدريان بينيز «جيغانتي» (ضمن المسابقة)، حول الشاب خارا (أداء لافت للانتباه للممثل الأوروغواي هوراسيو كومندولي)، الذي يعمل «عساساً» عبر كاميرات المراقبة في سوبر ماركت ضخم، في إحدى ضواحي العاصمة مونتوفيدو. وعلى الرغم من جثته الضخمة، التي تشبهه بعمالقة الإغريق، إلاّ أن قدرية هذه الشخصية تتحكّم بها حالات تلصّصه الدائم على المحيط والأشياء. الغريب أن خارا لا تسترعيه غرائب الشخصيات من حوله، ولا تطرّف محيطه. فيما يمرّ زمنه الذاتي بعيداً عن شرعية الانقلابات الحقيقية، الواجب حدوثها لديه ككائن بشري حيوي. إنه حبيس منطقه السوريالي، وأداته فيه موسيقى الروك الصاخبة، التي نفهم أنها هوسه وغذاؤه الذاتي ضد نفاق زملائه العسس، وقسوة حيوات العاملات والعمال، الذين يراقب سرقاتهم الصغيرة من رفوف الشركة، وفراغ يوميات عائلته الصغيرة الميسورة الحال، وروتينه الشخصي الذي لا يقوده إلى منتهى ما. عينا خارا التلفزيونيتان تقودانه إلى الاختبار الجدي في فهم عواطفه، التي يُصرّ على محقها من دواخله. فعبر الشاشة الصغيرة، يقع البطل الشاب الكتوم في حبّ عاملة نظافة، على قدر قليل من الجمال. وكلّما أمعن في تلصّصه عليها، زاد ولعه بها؛ قبل أن يتحوّل هذا الغرام من طرف واحد إلى سُعار حيواني في تملكها. يقع خارا في الريبة، ويتعجّل الانتقام من كل شخص يقترب منها، بدءاً من رؤسائها، وانتهاءً بعشّاقها الذين يفترضهم. كل هذه الخسارات، والشابة جوليا لا تعي الحرب الدائرة من حولها. تُرى، ما الذي يدفع بالأقدار كي تجمعهما؟ أولاً: العمل الذي يصرفهما من منصبيهما. ثانياً: الانتقام الذي يحرق قلب العاشق الضخم الجثة، ما يجعله مغامراً في عبور حدود الخوف وزلاته. وفيما تجول البطلة جوليا هائمة في شوارع العاصمة وشواطئها، يتبع خارا حدسه، بأنه ساع (كما المجند ويل) في الذود عن الحبيبة العاطلة عن عملها، فيقرّر الهجوم على السوبرماركت، وفضح رئيس المراقبين، الذي يلوط بعامل شاب حسبه خارا حبيباً خفياً لجوليا.
زياد الخزاعي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد