"المحسنية" تجربة رائدة تختزن تاريخ التعليم في سورية
الجمل ـ تحقيق ـ سعاد جروس : بعد أن تجولنا في شارع الأمين المتفرع عن /الشارع المستقيم/ المعروف بشارع مدحت باشا المنتهي بالبزورية حيث تقع المدرسة المحسنية، كانت الوقفة الأولى مع الظن أنها ستكون عابرة .. لكنها باغتتنا بممر ينفتح على مشهدية واسعة لجزء كبير وهام من تاريخ الحارة ودمشق والمنطقة ..
فوق الباب الخشبي العريق كتب بخط عربي جميل وبأحرف نحاسية مزركشة المدرسة /المحسنية للذكور أنشأها العلامة السيد محسن الأمين الحسيني سنة 1321 هجرية/.
في الموزع الرخامي عند المدخل استقبلتنا صورة بالأبيض والأسود للعلامة مؤسس المدرسة، وقد ارتفعت فوق الباب المؤدي إلى فناء المدرسة، هناك حيث العمارة الدمشقية الأموية الطراز بحجارتها البيضاء والسوداء والوردية، روى البناء تاريخ توسع المدرسة، إذ استقامت الجدران الحديثة الممثلة للتوّسع المستجد، إلى جانب البناء القديم المحتفظ بلمسات الماضي الحميمة، لتؤلف معاً مبنى من ثلاثة طوابق تطل على فسحة سماوية، يتصدرها ليوان أثري منقوش بالعجمي والرخام المجزع، محتضنة صورة أخرى كبيرة ملونة للسيد العلامة مؤسس المدرسة.
أخذنا طريقنا من بين الطلبة المنتمين للقرن القادم، نحو الطابق الثاني حيث كان في المكتبة التاريخ يأخذ استراحة مستمرة منذ نحو قرن من الزمن، بين الصناديق الكرتونية والخزائن الخشبية و خلف الأبواب الزجاجية في غرفة بنيت حديثاً ، لتضم أكثر من مكتبة أهمها مكتبة العلامة السيد محسن، وقد تبرع بشرائها الحاج رشيد بن عبد الله الروماني بمبلغ خمسة آلاف وخمسمائة ليرة سورية سنة 1953 ووقفها للمدرسة، بالإضافة إلى مكتبة الأستاذ أديب التقي، من أوائل مدرسيين المحسنية، و مكتبات أخرى أهداها المحسنون .
على الطاولة الخشبية المغطاة بالزجاج فردنا بعضاً من تلك المخطوطات، والمجلات، والكتب، وأيضاً البيانات السنوية للجمعية، وكأننا بذلك كنا نكشف عن وجوه شخصيات عديدة متميزة حاولت أن تقدم نفسها من خلال أعمالها. طلبة، معلمون، وتجار دمشقيون محسنون، سيدات مجتمع راقيات، كان لهن باعاً في العمل الاجتماعي، منهن المحسنة حرم الحاج يوسف بيضون، وأيضاً أعضاء لجنة السيدات المتشكلة عام 1950، بعد أن تناهى إلى سمع بعضهن أن قسم الثانوي في المدرسة مهدد بالإلغاء بسبب نقص الواردات، إذ تنادين إلى عقد اجتماع تمهيدي في دار السيدة حبيبة بيضون روماني، انبثقت عن الاجتماع لجنة السيدات المؤلفة من حبيبة بيضون روماني (محاسبة)، نعمة عسيران حيدر (مراقبة) نازك نظام (خازنة) رشيقة عضل (للشراء) تاجة شحادة (عضوة) قمر نظام (عضوة). كما التقينا أيضاً أعضاء مجلس الجمعية اللذين أسسوا الجمعية والمدرسة 1321 هـ وهم العلامة السيد محسن الأمين (رئيس عام)، الحاج محمد علي رضا (عضو ومفتش في المدرسة ومراقب على الحسابات)، الحاج محمد حسين صندوق (عضو مفتش في المدرسة وأمين صندوق)، الحاج رشيد الروماني (عضو مفتش في المدرسة). عبد الوهاب بيضون (مستلم دفاتر) بالإضافة إلى الأعضاء العاملون في جمع الإعانة. وعلى ذات الطاولة اللجنة الثقافية المؤسسة عام 1946 المشّكلة من شباب جندوا أنفسهم لمكافحة الأمية آنذاك، فخصصوا وقتاً مسائياً في المحسنية لتعليم الأميين، من هؤلاء الشباب : مصطفى البغدادي، ورضا حيدر، وصبحي النحاس، ونادر حلباوي، وعبد الله الروماني، وهاشم مرتضى، وحسن صندوق، ونعمت بلوق..
تبنى الطالعون من البيانات السنوية قيادة الرحلة، لنوغل معناً في تاريخ واحد من مراكز العلم والتنوير الديني والفكري الهامة في عصره. تواصلنا من خلاله مع شخصية علمية متفردة عاشت في حي شديد الخصوصية، لما يتمتع به من تنوع اجتماعي، و مذهبي، وجغرافي.
فهو الحي الوحيد تقريباً في دمشق القديمة، الذي يضم في أحيائه الإسلام السنة والشيعة والمسيحيين من أكثر من طائفة وأيضاً الدروز، إلى جانب اليهود ، أما من حيث تنوع الانتماء الجغرافي فقد أم حي الأمين أناس من أقاليم عدة من جبل عامل في لبنان ومن جبل العرب ومن إيران والعراق ومن شمالي سورية ومن بعلبك ومن الباكستان، ومن فلسطين بعد عام 1948.. إلخ. ضمن هذا الموزاييك من الجنسيات والمذاهب.
الخارجون من الورق
برزت المدرسة المحسنية كمركز تنويري شعاره الدين الخلق والعلم .. وهو شعار لمسنا تمثله في الواقع من خلال الشخصيات المقيمة في ذاكرة البيانات والنشرات الأدبية والتربوية الصادرة عن الجمعية، في بعض خطب المناسبات الخاصة، ارتسمت بورتريهات لوجهاء محسنين ظهرت فيها خصالهم النبيلة، ليكونوا مثالاً جدير بالاحتذاء وقدوة حسنة للتلاميذ،، وقد بينت تلك الخطب غاية الجمعية من الاحتفاء بذكرى المحسنين وتكريمهم مما جاء فيها كلام للأستاذ رشيد مرتضى سنة 1946 بذكرى وفاة المحسن كامل نظام : /إن للبشر في حياة المحسنين عظة، وفي موتهم ذكرى، أما في حياتهم فيرينا المحسن في أعماله كيف تكون التضحية والإنفاق، وكيف يكون البذل والسخاء، وأما الذكرى في موتهم فيرينا الجمهور من بعدهم كيف تحفظ أعمال الرجال ،وكيف يكون الاعتراف بالجميل، وكلا المظهرين يمثلان لنا عاطفتين من أشرف العواطف الإنسانية، إحداهما صنع الجميل والأخرى عرفان الجميل/.
كما كونت جداول التبرعات لعام 1945 م تصوراً حول اهتمامات شخصيات اجتماعية بارزة كالحاج رشيد الروماني المتبرع بمبلغ 1700 دينار عراقي لشراء وقف المدرسة، والسيد محمود الروماني المتبرع بمبلغ 1500 دينار عراقي لشراء وقف المدرسة أيضاً، والحاج عبد الحسين صاحب من إيران من المؤازرين والعاملين في إنشاء القسم الداخلي، والسيد إبراهيم البيشلى المتبرع من وصيته بمبلغ 36 ليرة عثمانية لوقف عقار للمدرسة، كما قدمت تلك البيانات شخصية من العراق، وهو الشيخ بلاسم آل ياسين الذي أسس مدرسة في العراق على نفقته الخاصة، وتبرع بمبلغ 1000 دينار عراقي للمدرسة المحسنية، والكلية العاملية في بيروت.
تكافل اجتماعي
تلك المعلومات والأرقام تخط لنا الخارطة الاجتماعية لمنطقة بلاد الشام، وعلاقتها مع دول الجوار كالعراق وإيران، وعمق الصلات الروحية التي تربط هذه الشعوب، كما أن تلك المعلومات تعرفنا على أهمية تجربة الجمعية المحسنية ومساهمتها في مد جسور التعاون بين المجتمعات المتنوعة من جانب، وبين طبقات المجتمع الواحد، لينشأ ما يشبه التحالف لدى طبقة الأغنياء المؤلفة من الوجهاء والأعيان والتجار، لصالح تعليم وتثقيف أبناء المجتمع كافة من فقراء وأغنياء، في محاولة ترسيخ مبادئ الدين، كأخلاق وتعامل حسن، وهذا بدا واضحاً في أعمال المشرفين والأساتذة والطلبة معاً، وكذلك في خطابهم التربوي المتقدم. وريادة المحسنية كتجربة تربوية واجتماعية تأتي من كونها إحدى التجارب التربوية والاجتماعية التي تأسست في مواجهة المد التبشيري الأجنبي الذي شهد أوج ازدهاره مع انحسار الدولة العثمانية والتوجه الاستعماري الأوربي نحو الشرق أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. حيث اتبعت المدرسة المحسنية ذات الطرائق التدريسية في نشر تعاليم الدين الإسلامي إلى جانب العلوم الأخرى، ففي المرحلة الابتدائية كان يجري تعليم ثلاث لغات أجنبية وهي التركية والفارسية والفرنسية، إلى جانب تعلم وإتقان اللغة العربية من حيث القواعد والنحو والصرف والخط والخطابة، بالإضافة إلى علوم الحساب و(دوبيا) والمنطق والجغرافيا، وفي سنوات لاحقة تم إدخال الموسيقى والغناء والرسم إلى المواد الدراسية إلى جانب دروس الرياضة واللياقة البدنية. كما كانت تعتني المدرسة بالنشاط الطلابي خارج الدوام كالقيام برحلات علمية أو تنزه في مصايف دمشق أو إقامة مخيمات الكشافة لعدة أيام، وأيضاً العناية بالمواهب الفنية كالمسرح. بالإضافة للمناهج العلمية المتقدمة التي اتبعتها المدرسة المحسنية، تبنت أيضاً منهجاً تربوياً خلاقاً، فمثلاً استبعد النظام الداخلي للمدرسة من قانون التأديب الضرب والتوبيخ الذي يمس الكرامة، إذ أقتصر العقوبات على كتابة عدداً من الأسطر في وقت الفرص، ويزيد عدد الأسطر كلما كانت العقوبة أكبر، فيعاقب التلميذ المتخلف عن المدرسة لمدة يوم كامل غير مبرر بكتابة ثلاثمائة سطر، بينما يجازى من لا يهتم بنظافته الشخصية بكتابة عشرين سطر أو يوقف أمام الحائط بدون لعب فترة الفرصة، أما عقوبة الطرد من المدرسة فكانت تقع على من يتفوه بكلام منافي للأخلاق بين زملاءه أو من يعتدي على زملاءه بالضرب أو مشاكسة معلمه، ولا يتم الطرد إلا بعد تنبيه الطالب اكثر من مرة.، وإبلاغ أهله ومناقشة الأمر معهم. أما النظام المالي فقد كان متوجهاً لدعم الأهداف الخيرية للمؤسسة ؟ ونيل علومها لم يكن متاحاً إلا حسب رغبة الأهل، ومن لا يرغب بتعليم أولاده اللغات الأجنبية أو علوم غير علوم الدين واللغة العربية يتمكن من ذلك، وحسب النظام الداخلي للمدرسة الابتدائية مرحلة التأسيس كان الأهل يدفعون مبلغ 4 قروش سورية لتعلم مبادئ القراءة الكراس الأول، و 6 قروش لتعلم تتمة أجزاء مبادئ القراءة وأجزاء القرآن الشريف لحد يس وخط وحساب، و9 قروش لتعلم ما بعد يس إلى الختام وخط وحساب وديانة، 12 قرش لتعلم التجويد والخط والحساب والديانة والنحو والصرف والإملاء والقراءة العربية ، 18 قرش لتعلم المذكورات مع اللغات و24 قرش لتعلم المذكورات مع الدوبيا . أما الدفع للمدرسة فهو شهرياً . وتلك الأرقام تبدو كبيرة قياساً إلى بداية القرن العشرين، حيث يعادل تعادل قيمة القرش الشرائية الليرة السورية(100 قرش سوري) اليوم أي مائة ضعف، وبمعنى آخر فإن الاشتراك الشهري لكامل المواد يعادل اليوم 2400 ليرة سورية وما يعادل 48 $ وتعتبر هذه مرتفعة قياساً إلى المدراس الخاصة الأخرى ولكن تخصيص المحسنية عدد كبير من الكراسي للتعليم المجاني لأبناء الفقراء، يجعل من تلك الاشتراكات مساهمات خيرية ترمي إلى توزيع المال بين الناس بالعدل، ففي البيان السنوي للأعوام 1941 و1944 بلغ عدد الطلاب 161 بأجرة تامة، 108 بنصف أجرة، 153 المجانيين والعدد الإجمالي بلغ 421 . كما تشير الأرقام للسنوات التالية إلى مدى الإقبال على التعلم في هذه المدرسة قياساً لواقع التعليم آنذاك، في بيان سنة 1947 وحتى 1948 كان عدد الطلاب بالمدرسة 484 طالب منهم 189 طالب يدفعون أجرة كاملة و145 يدفعون نصف أجرة و150 طالب يتعلمون مجاناً
حول تأسيس المدرسة العلوية العثمانية (المحسنية) يقول مؤسسها العلامة السيد محسن الأمين العاملي : /وإن تفاضل العلوم وشرفها إنما هو باعتبار شرف غاياتها . فأفضلها علوم الدين علوم الدين التي بها يعرف الخالق ويعبد وهي نظام أمر الدين والدنيا ، وبها تنال السعادة في الأولى والآخرة ثم العلوم الرياضية من الحساب والهندسة والهيئة والجغرافيا وغيرها التي لا يستغني عنها في الدين ويحتاج في أمر الدنيا وعلوم الصناعات وشبهها التي يجب تعلمها على الكفاية ، ويتوقف عليها نظام العالم إلى غير ذلك من أقسام العلوم المتشعبة. وما أكثرها في هذا الزمان إنشاء المدارس لتعليم القراءة والكتابة واللغات والحساب وجملة من العلوم الرياضية وما يجري هذا المجرى وكان جل هذه المدارس يوجب الدخول إليها البعد عن عقائد الدين الإسلامي ومحاسن الشريعة الغراء والتخلق بغير أخلاق ... وتفادياً عن وقوع قومنا في هذه الورطة بذلنا غاية الوسع وجهد الطاقة في تأسيس مدرسة كافلة لجمع شمل أبنائهم وتعليمهم ما يحتاجون إليه في معاشهم ومعادهم معتمدين في ذلك على الله .. فإن الناس لم تعد تنفع فيهم المواعظ في الامتناع عنها إذا لم يروا ما يقوم مقامها مما بني على أساس الدين فوفق الله تعالى بمساعدة جماعة من محبي الخير إلى ابتياع دار واسعة تامة المرافق بمدينة دمشق المحروسة ووقفها مدرسة بعد تسميتها (بالمدرسة العلوية العثمانية).
صدى المحسنية
ولعل ما يثير الدهشة والاحترام معاً النشرة الثقافية المتواضعة الصادرة عن المدرسة(صدى المحسنية) الناطقة بلسان حال طلابها لما فيها من مقالات ناضجة لطلبة من المرحلة الابتدائية ينتمون لبدايات القرن العشرين . وفي العدد الأول منها الصادرة في أيار 1948 نقرأ تعريفها /صدى المحسنية رسالة أدبية ثقافية مدرسية/ تصدر عن فئة من الطلاب الثانويين منهم سكرتير التحرير سامي وهبه (أمين السر) عباس نحاس (مدير الدعاية)، حكمة الروماني (مدير المكتبة)، بديع خضري، منذر شمعة، أديب منجد، محمد علي الصوص، (أعضاء)، بإشراف بعض الأساتذة كرئاسة تحرير الاشتراك السنوي 600 قرش سوري للعموم و300 قرش سوري للطلاب. وسعر النشرة يعتبر سعراً مرتفعاً جداً بالنسبة لفترة صدورها .
في افتتاحية النشرة الأولى 1948 م كتب المربي محمد صندوق حول أهداف المحسنية كجمعية قائلاً: /أما أهداف المحسنية التي وضعها منشئ المحسنية العلامة السيد محسن الأمين فثلاثة : الدين والخلق والعلم، تلك هي الدعائم الثلاث التي ترتكز عليها قوة الأمم . وما يسجله لها التاريخ بمداد الفخر أنها أو مؤسسة علمية خيرية في دمشق استهدفت هذه النواحي الثلاث …..، ولقد جنى المنشئ ثمار أعماله يانعة قرت بها عينه فشاهد من هذه الزهرات الفواحة التي تعهدها بيده المباركة، أفواجاً من الفتيان الذين نفخ فيهم من روحه وقد مارسوا مختلف الأعمال الرسمية والحرة ….. وهاهم أولاء يبادلون معهدهم ومنشئه حباً بحب وعوناً وبعون ويتبعون خطاه /
لقد اكتسبت هذه المدرسة أهميتها من نشاطها الاجتماعي والعلمي وقدرتها على تخريج دفعات من الطلاب أثبتوا وجودهم وفاعليتهم في المجتمع، إلى جانب كونها منبراً وطنياً تناما بعد الاستقلال وشهد بداية الحكم الوطني، حيث اتسعت جنباته لتستقبل أبناء العرب والمسلمين من كافة الأنحاء ولم تعد حكراً على أبناء الطائفة واليوم لا يكاد يمثل الطلبة من أبناء الطائفة نسبة الثلث من بين مجموع الطلبة عموماً، ويعود هذا التوجه إلى عقود التأسيس ونستشفه من إحدى المقالات المنشورة في النشرة الأولى (صدى المحسنية) بقلم التحرير حيث ورد فيها: / أصداء المحسنية .. أصداء عيد الجلاء .. وأصداء فلسطين .. أصداء تنبثق في وقت واحد عن مصدر واحد هو قلب الأمة العربية المتألم .... كل هذه الأصداء تجتمع تحت معنى واحد هو أن البلاد العربية متألمة من نواح عديدة وهذه الآلام ناشئة عن تدخل الأجنبي بأمور العرب/.
فوق الزمن
في حضرة الخارجين من الورق المصفر ومن تحت غبار الزمن جلسنا نستحضر بعضاً من ملامح علامة كان له الأيادي البيضاء في نشر رسالة تنويرية، تتجسد بالجمعية المحسنية المتأسسة سنة 1321 هجرية الموافق لعام 1902 ميلادية، وتتبع لها (المدرسة العلوية العثمانية)، الابتدائية الواقعة في دخلة الشرفا المتفرعة عن زقاق المدار في حي الأمين، وقد جرى نقلها إلى بناء حديث مع بداية القرن العشرين، الذي نقف فيه اليوم. أما المدرسة العلوية القديمة فظلت مدرسة ابتدائية إلى جانب كونها اليوم مركزاً لتعليم الإناث.
شهدت المدرسة المحسنية توسعات وتطورات كثيرة على مر قرن من الزمن، لتصبح لدى انتقالها إلى البزورية مدرسة للذكور ابتدائية وإعدادية ومن ثم ثانوية، أحدث فيها قسم داخلي للطلبة الوافدين من خارج دمشق. جرى إغلاقه في العقود الأخيرة لعدم الحاجة إليه بعد انتشار المدارس الحكومية في كل أنحاء سورية.ومع التأهب للدخول في الألف الثالثة لا زالت المحسنية كمدرسة تعتز برصيد هام من ماض تربوي عريق، جعلها تنوء بأعداد الطلاب الراغبين في نيل العلم منها حيث يتجاوز عدد طلابها: ما يقارب الـ 1500 طالب إعدادي وثانوي يتوزعون على 25 شعبة و ما يقارب الـ 1400 طالب ابتدائي، يتوزعون على 26 شعبة . غادرنا المدرسة بعد أن عاد القادمون من الماضي إلى صفحاتهم المصفرة ومع الطلبة المغادرين تدفقنا من الباب الرئيسي لنقف مجدداً أمام ثقل الراهن في سوق البزورية المعبق بروائح البهارات والتوابل، ورائحة الموالح والبزورات المحمصة قطعنا الشارع المكتظ ظهراً لنلج شارع الأمين في الطريق إلى زقاق المدار ثم دخلة الشرفا حيث المدرسة العلوية وبيت العلامة محسن الأمين العاملي، كنا نشق زحام الشارع وما زالت تتراءى في المخيلة كل ما صدفناه في المحسنية من أسماء وشخوص وأحداث تواصلنا معها فوق الزمن، فكان معظمهم من العائلات الشيعية المرموقة و المتوطنة في محلة الأمين، عرفت أثناء الانتداب الفرنسي بحارة اليهود، وكما جرى تدوينها في الخرائط الفرنسية لدمشق، وهو ما عكس سياسة فرنسافي تكريس الفصل الطائفي .
تسميات
ومع مجيء الحكم الوطني وما حمله معه من حركات تحرر قومية تمكنت دمشق من رسم خارطتها المعتمدة على نشر الروح العربية فوق الاعتبارات المذهبية فحارة اليهود في محلة الخراب أصبحت حي الأمين نسبة للعلامة السيد محسن الأمين لما قدمه لدمشق من أعمال تنم عن روح إنسانية ما تزال وحتى اليوم أفكاراً تقدمية لاستنادها على القيم الإنسانية الخيرة، وهذا يرويه أيضاً من عرف شخصية العلامة الأمين الذي كرمه الحكم الوطني ليس فقط بتسمية محلة الخراب باسمه بل بتسمية أول مشفى وطني بدمشق باسمه، وهو المجتهد الكبير، لتطلق هذه التسمية على منطقة كاملة تدعى اليوم المجتهد، حسب ما فهمنا من سكان الحي من أن أصل هذه التسمية يجهله الكثيرون.
أما قصة تسمية حي الأمين فيقال: أن الشارع الرئيسي الذي يسمى بالأمين شق فترة الحرب العالمية الأولى ولأن الواقع الاقتصادي كان بائس جداً استغل اليهود ذلك، كفرصة للخروج من الحارات الضيقة، إلى الشارع العريض فأخذوا يشترون البيوت المتهدمة على جانبي الشارع ليعاد بنائها بشكل حديث،وسيطر اليهود على الشارع. بينما ظلت غالبية العائلات المسلمة تقطن الدخلات المتفرعة عن الشارع العريض كآل صندوق و بيضون واللحام والروماني ومرتضى. وكون اليهود سيطروا على واجهة الحي أردوا بالاتفاق مع سلطة الانتداب أن يطلقوا اسم واحد من شخصياتهم على الشارع فوضعوا لوحة تحمل الاسم في رأس الشارع، فاقتلعها أهل الحارة ليلاً إلى أن جاء الحكم الوطني عام 1937 فتبدل اسم حي الخراب وأطلق عليه اسم الأمين تكريماً للسيد محسن الأمين. وظل حتى يومنا هذا كما أطلقت أسماء شخصيات وطنية عديدة على دخلات الحي التي يشكل فيها اليوم الفلسطينيون النسبة الغالبة من سكانه إلى جانب اليهود الذين تدنت نسبتهم كثيراً بعد هجرتهم في التسعينيات.
في دخلة الشرفا
كنا أمام البيت السيد محسن الأمين تماماً قرعنا الجرس فأطل علينا رجل دين يعتمر عمامة سوداء بهامة ممتلئة ولحية بيضاء طويلة .سألناه هل هذا المنزل هو ذات منزل العلامة السيد محسن الأمين؟ .
أجاب : أنه منزله ومنزل كل علامة جاء للحي من عقود طويلة .
دعانا للدخول، طالعتنا في الداخل فسحة سماوية يطل عليها بيت دمشقي قديم مؤلف من طابقين تعرض لعمليات تحديث وإصلاح، وأكسبت جدرانه لوناً أبيضاً مشبعاً بالنور ، تسلقنا درجاً ضيقاً إلى غرفة صغيرة احتلت المكتبة جدرانها ، تطل الغرفة على فناء الدار من جهة وعلى المشرقة من جهة أخرى، في هذا المكان قضى السيد محسن الأمين جل أيام حياته متبحراً في الكتب ويعيش طقوسه الخاصة في التأمل والتفكير والتأليف والمطالعة، فمن هذه الغرفة خرجت إلى النور الكثير من المؤلفات والاجتهادات في علوم الدين والفقه. وخرجت أيضا فكرة إنشاء مدرسة كالمحسنية التي قدمت في زمن مضى تجربة تستحق أن يقال عنها أنها كانت رائدة. وهي اليوم حالها كحال عشرات المدارس في بلادنا تراجع دورها ليقصر على التعليم والتعليم فقط وحتى في هذا تعاني من مشكلات كثيرة ..
الجمل
إضافة تعليق جديد