القوات الأمريكية بدأت تنسجم مع التمرد العراقي
الجمل: بناء على التوصيات والنصائح المدروسة جيداً، والتي تم إعدادتها مراكز الدراسات الاستراتيجية المختصة بمكافحة التمرد، بدت قوات الاحتلال الأمريكية في العراق أكثر تكيفاً وانسجاماً مع واقع التمرد العراقي.
استطاعت سلطات الاحتلال الأمريكية تقسيم زخم القوى الشعبية العراقية ضمن ثلاثة دوائر:
• دائرة الشمال (الدائرة الكردية): وقد استطاعت سلطات الاحتلال الأمريكية أن تحول قدرات هذه الدوائر بحيث تشكل قيمة مضافة حقيقية باتجاه دعم وترسيخ الاحتلال العسكري الأمريكي ضد العراق لفترة طويلة قادمة.
• دائرة الوسط (الدائرة السنية): وقد ظلت هذه الدائرة تمثل حتى الآن الحصان الجامح، والذي أدركت الإدارة الأمريكية لاحقاً أن عملية استقرار العراق، في ظل وجود هذا الحصان، سوف تكون أمراً صعباً إن لم يكن مستحيلاً.
• دائرة الجنوب (هي الدائرة الشيعية) وظلت تمثل طوال الفترة السابقة دائرة المناورة، التعبوية والتكتيكية، وذلك لأنها تمثل القوى الشعبية ذات الدور الحاسم في مستقبل العراق السياسي.
انخرطت القوى السياسية الموجودة ضمن هذه الدوائر الثلاثة في العملية السياسية العراقية، الجارية ضمن المستويات الثلاثة الآتية:
* بنائياً:
- معسكر المجموعة الأولى: المعارضين للاحتلال (معظم القوى السنية، القليل من القوى الشيعية).
- المجموعة الثانية: المؤيدين للاحتلال (القوى الكردية، القوى الشيعية الرئيسية، القليل من القوى السنية).
* قيمياً:
وتمايز أيضاً نسقان قيميان، يسندان نوعين من الخطاب السياسي. نمطه الأول ذرائعي يطالب ببقاء الاحتلال الأمريكي من أجل حماية الأمن والسلام والقضاء على المخاطر الداخلية والخارجية التي باتت تهدد العراق، ويروج لتسويق هذا الخطاب معسكر المجموعة الثانية. أما النمط الثاني لهذا الخطاب فيطالب بخروج الاحتلال الأمريكي كشرط لتحقيق أمن واستقرار العراق، ويروج لهذا الخطاب معسكر المجموعة الأولى.
* تفاعلياً:
- اقتصادياً: نشطت حالياً قوى الدائرة الشمالية (الكردية) والدائرة الجنوبية (الشيعية)، في دفع عملية تقاسم الثروة، ضمن صيغة محاصصة، تحصل بموجبها هاتين الدائرتين على نسبة من العائدات الوطنية النفطية. بما يقلل من نصيب السلطة الوطنية المركزية، ويضع الدائرة الوسطى في مواجهة حالة انعدام الموارد.
كذلك في الوقت الذي تركز فيه قوى الدائرة الشمالية على الاستفادة بأقصى حدّ ممكن من الدعم الأمريكي في دفع عجلة التنمية الاقتصادية، فإن الدائرة الوسطى ظلت تراهن على خروج الاستعمار وانهيار الاحتلال كشرط لتحقيق التنمية الاقتصادية.. ومن ثم فقد كان رهان هذه الدائرة الرئيسي، ومنذ البداية على المقاومة المسلحة.
أما بالنسبة للدائرة الجنوبية، فلم يحسم رهانها بعد، وذلك لأن سلطات الاحتلال الأمريكية تريد منها الكثير من التنازلات، وإزاء ذلك تراهن قوى هذه الدائرة على ازدواجية المسار، وتناقض المواقف، على نحو يصبح فيه من الصعب إن لم يكن مستحيلاً الجمع بين تحقق الاستقلال الوطني في ظل وجود وبقاء قوات الاحتلال الأمريكية.
- اجتماعياً: استغلت السلطات الأمريكية طبيعة المواقف العامة إزاء النظام السابق، في بداية الاحتلال على أساس اعتبارات أن الدائرة الشمالية (الكردية)، والدائرة الجنوبي (الشيعية) تمثلان القوى الاجتماعية المعارضة للنظام السابق، بينما تمثل الدائرة الوسطى (السنية) الرصيد المؤيد والداعم لذلك النظام.
وبعد اكتمال عملية احتلال العراق، بدأت القوات الأمريكية تمارس عملية الترغيب والترهيب، عن طريق استخدام (العصا) في ضرب قوى دائرة الوسط السنية من جهة، وتقديم (الجزرة) لترغيب قوى دائرة الجنوب الشيعية. أما الدائرة الشمالية (الكردية) فقد كانت مسبقاً قد حسمت أمر تأييد ودعم ومساندة الاحتلال العسكري الأمريكي وأخذت الجزرة، قبل حدوث عملية الغزو بأكثر من عشرة سنوات، وذلك عندما تصدت إدارة بوش الأب بإقامة (المحمية الأمريكية- الإسرائيلية) الأولى من نوعها في العالم بإقليم كردستان.
وبعد مضي فترة من الوقت أدى تطبيق وتنفيذ الكثير من العمليات السرية، المتعلقة بمخططات الحرب النفسية، إلى الآتي:
• تغذية الكراهية بين الكيانات العراقية:
• دفع التعبئة الاجتماعية باتجاه الاستقطاب الاثني- الطائفي المغلق.
• تحويل الكيانات الاثنية- الطائفية المغلقة الى كيانات عالية التسييس.
• تغذية روح التنافس العدائي السلبي بين هذه الكيانات، بحيث تقدم المكاسب والمزايا لا لمن يقوم بتأييد ودعم سلطات الاحتلال الأمريكية فقط، بل ويقوم بالانخراط والانهماك في تنفيذ أجندة العمليات السرية، الهادفة إلى تقويض التماسك المجتمعي بما يؤدي إلى تفكيك النسيج الاجتماعي، بما يجعل من عملية تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات أمراً ضرورياً لازماً لابدّ منه لتحقيق الاستقرار والسلام والأمن.
- سياسياً: أسست سلطات الاحتلال لقيام دولة (كاريكاتورية) ذات طبيعة تنظيمية، تركز على تمثيل جماعات المصالح بدلاً من القوى السياسية العراقية الحقيقية، وحالياً تتبادل جماعات المصالح الأدوار داخل الأجهزة التشريعية، التنفيذية، والقضائية.. ومن ثم لم تعد السلطة القائمة حالياً في العراق جهازاً لإدارة المصالح الوطنية، بل جهازاً لإدارة مؤامرة الاحتلال، واستدامتها بأطول ما يمكن.
- عسكرياً: بعد تفكيك القوات المسلحة العراقية الوطنية، تحلل الطابع المؤسسي الوطني للقدرة العسكرية، وذلك باتجاه الآتي:
* نشوء عدد كبير من التشكيلات العسكرية الصغيرة، ويُقال: يوجد في العراق حولي 30 من الجيوش الصغيرة (جماعات مسلحة) تتبع لمختلف الجهات العراقية، وهناك احتمالات لنشوء المزيد من هذه الجيوش الصغيرة.
* نشوء عدد من القواعد العسكرية الأجنبية، تحت مختلف المسميات، فالجيش الأمريكي وحده يتكون من حوالي 30 فرقة (أي 120 لواء)، وكل فرقة لها رئاسة ومقر، هي بالأساس عبارة عن (قاعدة عسكرية أمريكية غير معلنة) تعمل داخل العراق، كذلك فالفرق البريطانية هي أيضاً عبارة عن (قواعد عسكرية بريطانية غير معلنة)، تعمل جميعاً بمؤازرة ومساندة ودعم بعضها البعض تعبوياً وتكتيكياً ضمن إطار قوات التحالف.
- أمنياً:
* وطنياً: بسبب الفجوة الكبيرة بين الخطر، والقدرة على مواجهته، تزايد الانفلات الأمني، بشكل أصبح فيه الأمن الوطني العراقي غارقاً بالكامل في مستنقع المخاطر الداخلية والخارجية، في حالة ما تشبه جسد مريض بداء نقص المناعة، الذي لا حول ولا قوى له في مواجهة كل أنواع الجراثيم والميكروبات.
* إقليمياً: أصبح العراق: بؤرة إقليمية تفرض حالة من التهديد بالخطر المتزايد إزاء ستة دول هي:
1- سوريا: وأصبحت مهددة بتدفق اللاجئين، وانتقال عدوى الصراع، وبالعمليات السرية التي يمكن أن تقوم بها الجماعات المؤيدة لأمريكا وإسرائيل.
2- تركيا: وأصبحت مهددة بتزايد نشاط الحركات الانفصالية الكردية.
3- إيران: مهددة بالتعرض للعمليات السرية العسكرية والاستخبارية التي تشرف أمريكا وإسرائيل وبريطانيا على إطلاقها ضد إيران من الأراضي العراقية.
4- السعودية: مهددة بإنفاق المزيد من الأموال في العراق جراء ابتزاز الإدارة الأمريكية للموارد النفطية السعودية، إضافة إلى حالة الاحتقان التي أصبحت تعيشها السعودية كأمر واقع بسبب الوجود الأمريكي المتزايد، والذي أصبح يفرض حقيقة حالة الاحتلال العسكري غير المعلن الذي تتعرض له السعودية حالياً.
5- الكويت: وتعاني أيضاً من الابتزاز الأمريكي لعائداتها النفطية، إضافة إلى وقوعها –على غرار السعودية- في حالة الاحتلال العسكري غير المعلن بسبب الوجود الكثيف للقوات العسكرية الأمريكية على أراضيها.
6- الأردن: وتعاني من تزايد أعداد اللاجئين العراقيين، ومن تزايد نشاط القوى الأصولية الإسلامية الداعية للتمرد السني.
أبرز النتائج الاستراتيجية تشير إلى الآتي:
• في منطقة شرق المتوسط: أصبح ملف الأزمة العراقية يتقاطع مع الآتي:
- عملية سلام الشرق الأوسط.
- الأزمة اللبنانية.
• منطقة الشرق الأدنى: بات ملف الأزمة العراقية يتقاطع مع:
- الأزمة الإيرانية.
- أزمة نفط بحر قزوين.
- الأزمة الأفغانية.
• منطقة الخليج العربي: ملف الأزمة العراقية صار يتقاطع مع الآتي:
- أزمة صادرات النفط العالمي.
- أزمة الوجود العسكري الغربي المتزايد في الخليج.
- أزمة علاقات دول منطقة الخليج العربي مع بقية الدول العربية.
وأخيراً نقول: يقسم خبراء الأزمات عملية إدارة الأزمة إلى نوعين:
• إدارة الأزمة بالوسائل الإدارية.
• إدارة الأزمة بالأزمة.
وما نجده ونراه ونلمسه في الحالة العراقية الراهنة هو عملية إدارة للأزمة تستخدم فيها الأزمة نفسها، بحيث نجد سلطات الاحتلال الأمريكي، تعمل بمساعدة وتوجيه إسرائيل بالتركيز على زراعة المزيد من الأزمات الفرعية الصغيرة، ضمن بنية الأزمة العراقية الكبيرة، وذلك على النحو الذي يصب المزيد من الوقود على ديناميكيات عمل الأزمة العراقية، وخلال الأشهر الثلاثة الماضية حدث تحوّل نوعي في نظام عمل الأزمة العراقية، بحيث أصبحت تعبّر لا عن حالة احتلال عسكري وسيطرة اقتصادية سياسية فقد وإنما عن حالة محرقة عراقية تتضمن قدراً هائلاً من مخزونات طاقة القتل والعنف والتطهير الاثني الطائفي والإبادة الجماعية.
الجمل: قسم الدراسات والترجمة
إضافة تعليق جديد