الرزق المر متشرداً على الرصيف
الجمل: منذ أكثر من عشر سنوات، صيفاً وشتاء، وهي تسند ظهرها إلى حائط "وكالة سانا" ووجهها إلى الشارع، وعلى حد قولها، فهي تربح في اليوم بين (300 إلى 400) ليرة سورية، تبيع كافة أنواع الدخان الأجنبي، ولكنها تدخن من أرخص الأنواع.
سألتها: يا أم حسن، أليس لديك أولاد يساعدونك على هذا العمر؟
تضحك أم حسن بحسرة: «نعم، لدي خمسة أولاد؛ ولكن أخذتهن النساء إلى أحضانهن. توفي زوجي وهم صغار، وبدأت أبحث عن عمل بعد أن تخلى عني كل أقاربي. والمرأة التي لا تقرأ ولا تكتب، ماذا ستعمل؟ في منازل الأغنياء، لن يترك الناس كلاماً سيئاً إلا وسيقولونه عني.. وهنا نصحتني أم ياسر بالعمل معها في البرامكة بمهنة بيع الدخان، وقالت لي إن الشرطة لن تطارد امرأة كبيرة بالعمر، وسيشفقون علينا». وهكذا أصبحت أم حسن بائعة دخان مهرب. سألتها: ولكن يا أم حسن كبر الأولاد وأنت ما زلت تعملين؟
تجيب: «أصبحت عادة، ونتسلى أنا وأم ياسر وبقية النساء، كما أني أعوض ما فاتني، فعمك المرحوم أبو حسن لم يكن يسمح لي بالخروج من المنزل عندما كان بصحته. كل شيء كان يصلني. لم أكن أعرف دكاناً أو شارعاً، أوحتى أن اشتري (3) بيضات. ولكنني الآن أكتشف الحياة التي لم أعشها، رغم العناء والأمراض التي بدأت تهد مفاصلي وأعضائي، ولكنني أشكر الله لأنني لا أمدّ يدي إلى أحد، حتى ولو كان ابني».
أما أم علي فتجلس من الحادية عشرة صباحاً وحتى السادسة مساء، خلف ملعب تشرين، تضع أمامها كاسات الشاي وعلبة قداحات صينية وبعض علب الشامبو.
تقول أم علي: أكثر من خمسة عشر عاماً وأنا أتنقل من سوق إلى سوق. بدأت هذه المهنة وكنا أنا وأم محمد المرأتين الوحيدتين بين الرجال الذين يظنون أنهم قادرون على الوقوف والاختفاء من أمام أعين رجال الشرطة والجمارك. بداية كنت أقف عند مفرق بيروت وأنتظر السيارات القادمة منها، وأشتري البضاعة ثم أبيعها قطعة قطعة على البيوت والجيران.
بدأت (الرزقة) تزداد، فصرت أذهب إلى "شتورة" أو المصنع وأشتري بنفسي ما أريد. وهنا اكتشفت أن الربح يمكن أن يكون أكثر من المتوقع. الآن نشتري ما تيسر من أصحابنا ونبيعه ولكن الأمور ليست على ما يرام، ولم يعد الربح كما كان. زوجي موظف متقاعد، والآن لا تدفعني الحاجة إلى العمل ولكن (القرش) حلو.
فوق جسر السيد الرئيس وعند فتحات الأدراج الهابطة، يتكاثر باعة "البسطات" ويصطفون إلى أسفله. بائع الفستق المحمص، ثم بائع الساعات على الدرج الثاني، ثم بائع يانصيب، يستقبلون الصاعد ويودعون النازل بهمساتهم و نداءاتهم. على طول الجسر مكتبة طويلة لمجلات وكتب بسعر موحد: أي كتاب بعشر ليرات، عناوين قديمة ودواوين شعر لشاعر جرب لمرة واحدة ثم أحس بأن الكار ليس له. وبعده بالضبط يقف بائع النظارات لشمسية: أي نظارة بخمسين ليرة
عند النفق الذي يقطع شارع كلية الحقوق، وعلى جدار الكلية أكثر من مئة عدد من مجلة "سالب وموجب" بعناوينها المثيرة. يتجمهر بعض قراء الطريق ويتساءلون ويسألون بعضهم، ثم مجموعة هائلة من صور الفنانين والفنانات وأغلبها (نانسي وهيفاء) بالإضافة إلى المناظر الطبيعية والأعلام الوطنية، وهذا كله بلا رقيب أو حسيب.
الشقيقتان مريم وريما من سوق وادي بردى تفترشان الرصيف المنصف للشارع الذاهب إلى الفحامة، ثمة فلاحون كثر يبيعون محاصيلهم الصيفية والبعض يبيع منتجات (المونة)، وبعض سكان القنيطرة ينزلون إلى دمشق لبيع (الجبنة واللبنة البلدية). هذا السوق ينحسر عند الظهيرة، أما صباحاً فيكتظ بالباعة والزبائن.
مريم وريمة عازبتان، وقد تجاوز عمر الواحدة منهن الخمسين، لديهن (3) أخوة متزوجون يزرعون الأرض. ومهمة العازبتان الكبيرتان هي بيع المحصول الخضري بالإضافة إلى (التين اليابس، العسل، الفريكة). مريم أكثر جرأة من ريمة تتحدث بطلاقة: إننا نؤمن بالقد، لم يشأ الله لنا أن نتزوج والبقاء في القرية خانق. هنا نبيع بسعر أعلى ونتسلى.
أما ريمة فقد تحدثت كلمات غير مسموعة وصلني منها: إذا نزلت مريم إلى الشام فسأبقى وحيدة. وهنا سنتسلى مع بعضنا.
تحس أنها ليست راغبة في العمل، ولكن هذا أفضل من الوحدة.
صور كثيرة لبائعي الرصيف كل لديه مليون سبب. بعضهم يكون متواجداً في الصباح، وفي المساء يأتي الموظفون ذوي الدخل المحدود ليساعدوا أسرهم على الحياة في ظل واقع اقتصادي سيء.. بائعو (الجرابات واليانصيب، علب السردين، الموز..إلخ) يجربون الوقوف الطويل الذي يجر رزقاً بسيطاً مراً.
عبد الرزاق دياب
إضافة تعليق جديد